مُهادَنة رغم الإدانة: المقاربة الأمريكية لأزمة الانقلاب العسكري في النيجر

بعد زهاء ثلاثة أسابيع من الانقلاب العسكري الذي جرى في النيجر في 26 يوليو 2023، وما ولّده من إدانة جماعية شبه شاملة، بدأت تبرز خيوط استراتيجية أمريكية مختلفة عن الموقف الأوروبي، وبالذات الفرنسي، وعن استراتيجية التدخل العسكري لدول المجموعة الاقتصادية لغرب أفريقيا (إيكواس).

 

خلفيات العلاقات النيجرية-الأمريكية 

على رغم أن النيجر تنتمي تقليدياً إلى حزام النفوذ الفرنسي، فإنها في السنوات الأخيرة استقطبت اهتماماً واسعاً من طرف الولايات المتحدة الأمريكية. ففي عام 2015 وقّعت حكومتا نيامي وواشنطن اتفاقاً عسكرياً هو الأول من نوعه، نجم عنه تعزيز الحضور العسكري الأمريكي المباشر في قاعدتين جويتين في مطار نيامي وفي أغاديز في الشمال، حيث تتمركز طائرات مسيرة وقوات للاستطلاع والرقابة والتدخل السريع في عموم المنطقة فضلاً عن التدريب. ويُقدَّر عدد أفراد الوحدات الأمريكية العاملة في النيجر بنحو 1300 جندي، بما يجعل منها الدولة الثانية من حيث أهمية الحضور العسكري الأمريكي في منطقة أفريقيا جنوب الصحراء.

 

ويمكن تفسير الدور الأمريكي في النيجر بعوامل استراتيجية، ترتبط بالوضع الجيوسياسي الاستثنائي للنيجر التي تحتل قلب المنظومة الإقليمية الساحلية الصحراوية بحدودها المشتركة مع ليبيا والجزائر من جهة ومالي وبوركينا فاسو وتشاد من جهة أخرى، فضلاً عن كونها بوابة وسط أفريقيا بحدودها مع نيجيريا، الدولة المحورية الكبرى في الإقليم.

 

وفي حين ركزت فرنسا في السابق على المحور الساحلي الغربي (مالي بوركينا فاسو) قبل أن تطردها منه الحكومتان العسكريتان في البلدين، فإن الولايات المتحدة اختارت النيجر مركزاً لعملياتها في المنطقة من أجل ثلاثة أهداف هي:

 

1. مراقبة واستطلاع المجال الليبي من أحد منافذه الحيوية الهشة (الجنوب والغرب).

2. التدخل في منطقة الساحل لمواجهة التنظيمات الراديكالية المسلحة.

3. مراقبة ومواجهة مجموعة باكو حرام في نيجيريا وبلدان خليج غينيا.

 

وبالإضافة إلى هذه الأهداف الاستراتيجية، سعت الولايات المتحدة إلى تسويق نموذج الديمقراطية النيجرية بصفتها تجربةً مثالية للتداول السلمي على السلطة في أفريقيا، وعكست زيارة وزير الخارجية أنتوني بلينكن إلى النيجر في مارس 2023 هذه الروابط السياسية الخاصة. وقد قدمت الولايات المتحدة الأمريكية حزمة مساعدات اقتصادية وإنسانية للنيجر وصلت في عام 2022 إلى 300 مليون دولار. ومن هنا يمكن القول إن النيجر شكّلت نقطةَ ارتكاز المصالح الأمريكية في منطقة الساحل، بما يفسر خصوصية منزلتها الاستراتيجية في المحيط الإقليمي الغرب أفريقي.

 

الموقف الأمريكي من الانقلاب العسكري 

مع أن الولايات المتحدة الأمريكية أدانت بوضوح الانقلاب العسكري الأخير في النيجر، ودعت إلى عودة النظام الدستوري، إلا أن موقفها تميز عن فرنسا ودول الاتحاد الأوروبي، في عدة مناحٍ، كالآتي:

 

  • بالمقارنة مع موقف فرنسا ودول مجموعة الإيكواس، لم تطلب الإدارة الأمريكية صراحةً برجوع الرئيس محمد بازوم إلى السلطة، بل ركزت تصريحات وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن على “الإفراج الفوري” عن الرئيس وأسرته.

 

  • لم تتبنَّ الإدارة الأمريكية قرار التدخل العسكري في النيجر لإرجاع الرئيس بازوم إلى السلطة، بل شكّكت في إمكانيته الفعلية وجدواه العملية، إلى حد تأكيد بلينكن على ضرورة “إيجاد حل سلمي للأزمة”.

 

  • استمرت اللقاءات السياسية بين أركان الإدارة الأمريكية والسلطات الانقلابية النيجرية، وكان من أبرزها لقاء مساعدة وزير الخارجية فيكتوريا نيولاند بقائد أركان الجيش المعين أخيراً الجنرال موسى سلاو بارمو الذي يعتبر رجل أمريكا في النظام الجديد وسبق له أن تخرج من الأكاديمية العسكرية الأمريكية.

 

  • عيَّنت الإدارة الأمريكية سفيرة فوق العادة في نيامي هي كاثلين فيتزغيبون التي أقرّ الشيوخ الأمريكي قرار تعيينها في 27 يوليو، ومن المتوقع أن تلتحق بمقر عملها في الأيام المقبلة. ومع أن المتحدث باسم الخارجية الأمريكية نيد برايس أكد في تصريحات صحافية أن وصول السفيرة الجديدة لا يعكس تغييراً في موقف الولايات المتحدة تجاه الوضع في النيجر، إلا أن مراقبين اعتبروا هذا التعيين شبه اعتراف رسمي بالنظام العسكري.

 

ويمكن القول إنه نتيجة لهذا الموقف الأمريكي المتساهل تجاه المجلس العسكري (الذي يُسمي نفسه “المجلس الوطني لحماية الوطن”)، لم يُلغ الأخير الاتفاق العسكري مع الولايات المتحدة على غرار قراره وقف التعاون العسكري مع فرنسا.

 

ويمكن إرجاع موقف الولايات المتحدة الأمريكية المهادن للانقلاب العسكري في النيجر إلى أربعة عوامل أساسية هي:

 

1. الخوف من التمدد الروسي في منطقة الساحل الأفريقي، بعد أن ركزت قوات فاغنر الروسية حضورها في مالي وبوركينا فاسو وبدأت بالفعل اتصالاتها مع السلطات الانقلابية في النيجر. ولقد صرح وزير الخارجية الأمريكي بلينكن بهذا التخوف واعتبر أن روسيا مستفيدة من انحسار النفوذ الغربي في المنطقة.

 

2. حرص الولايات المتحدة على الاحتفاظ بمركزها الاستطلاعي العملي في النيجر، بما له من مزايا جيوسياسية لا يمكن تعويضها في المحيط الإقليمي.

 

3. اعتقاد الإدارة الأمريكية أن أي تدخل عسكري في النيجر سيؤدي إلى تأجيج الخطر الإرهابي بإضعاف المؤسسة العسكرية وتقويض مؤسسات الدولة المركزية، بما يحوّل المنطقة إلى قاعدة دائمة للإرهاب العابر للحدود.

 

4. ترى الإدارة الأمريكية أن فرنسا عجزت عن حماية حزام نفوذها في غرب أفريقيا، ومن ثم أصبح من مسؤولية الولايات المتحدة ضمان المصالح الغربية في الإقليم، بما يعني نهاية حلف الشراكة الأمريكية-الفرنسية الخاصة في الساحة الأفريقية.

 

أثر الموقف الأمريكي في الوضع النيجري

في ضوء ما سبق، من الراجح أن تسعى الولايات المتحدة الأمريكية إلى تمرير حل سياسي في النيجر يقوم على الخطوات الآتية:

 

  • الإفراج عن الرئيس المخلوع محمد بازوم مع خروجه من المشهد السياسي عن طريق الاستقالة أو الشغور القسري لمركز الرئاسة، وفي المقابل وقْف مسار محاكمته بالخيانة العظمى الذي بدأت فيه عملياً السلطات الانقلابية.

 

  • وضع ترتيبات انتقالية تعيد النيجر إلى مسلك الشرعية الدستورية في مدة وجيزة، وبحسب آليات توافقية ما بين المجلس العسكري والقوى السياسية والمدنية المحلية وبرعاية المنظمات الإقليمية والدولية.

 

  • الضغط من أجل كبح التدخل العسكري لقوات الإيكواس في النيجر، والتنسيق في هذا الغرض مع القوى الإقليمية الرافضة للتدخل، مثل الجزائر ومالي وبوركينا فاسو وغينيا كوناكري.

 

  • ضمان بقاء النيجر في المحور الاستراتيجي الغربي، بما يعني قطع الطريق أمام الدور الروسي، ومنع قوات فاغنر الروسية الخاصة من التمدد إلى الساحة النيجرية.

 

ومن أجل فرض هذا الحل، تعتمد الولايات المتحدة الأمريكية على آليتين رئيستين، هما: نفوذها داخل المجلس العسكري الحاكم من خلال الرجل القوي في النظام قائد أركان الجيش وعدد من القادة الآخرين الذين كونتهم القوات الأمريكية في مهمات محاربة الإرهاب ويعتقد أنهم على صلات وثيقة بالدوائر العسكرية والأمنية الأمريكية؛ والضغوط الاقتصادية والاستراتيجية المربوطة بخيارات الحل السياسي التوافقي في بلاد تعتمد في 65% من ميزانيتها على العون الخارجي، كما أن جيشها لا يمكنه مواجهة المجموعات الراديكالية العنيفة من دون المساعدة الأمريكية. وما دامت الإدارة الأمريكية توفر مقاربة للحل الوسط وليس مجرد الرجوع الآلي إلى الوضع السابق، فإن السلطات الاتقلابية قد تجد نفسها ميّالة إلى الحل المقترح من الدبلوماسية الأمريكية بدلاً من المطالب المتشددة لدول الإيكواس وفرنسا.

 

استنتاجات

على الرغم من إدانة الولايات المتحدة الأمريكية الانقلاب العسكري على الرئيس محمد بازوم في النيجر، فإنَّها استمرت في تعاونها العسكري مع السلطات القائمة، وأقامت اتصالات مباشرة بقادة الحكم الجديد، وشككت في جدوى التدخل العسكري لإعادة الشرعية الدستورية. ويُفسَّر الموقف الأمريكي بحرص الولايات المتحدة على الاحتفاظ بحضورها العسكري والأمني في النيجر، وقطع الطريق أمام التمدد الروسي في المنطقة. ومن هنا قد ينجم عن الموقف الأمريكي تصورٌ جديد للحل السياسي التوافقي للأزمة في النيجر، بما يضمن العودة السريعة إلى الشرعية الانتخابية ولو بخروج الرئيس المخلوع بازوم من المشهد السياسي، على أن تبقى النيجر في مركز النفوذ الغربي.

 

.

رابط المصدر:

https://epc.ae/ar/details/brief/almuqaraba-al-amrikia-li-azmat-alianqilab-alaskari-fi-alnayjir

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M