نشرت مجلة ناشيونال إنترست الأمريكية مقالاً لجيرالد هايمان، كبير المستشارين في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية ورئيس برنامج هيلز للحوكمة منذ عام 2007، بعنوان: ” يتحتم على الولايات المتحدة أن تُصلح علاقتها بالمملكة العربية السعودية”، حيث يرى أن “للولايات المتحدة مصالح جيوسياسية حيوية في خليج مستقر وودود في علاقته بالولايات المتحدة.
وقد جاء المقال على النحو التالي:
يبدو أن حكومات الشرق الأوسط، وخاصّة دول الخليج العربي، تزداد اقتناعاً أكثر فأكثر بأن الولايات المتحدة تقوم حالياً بتخفيض مستوى اهتمامها بمنطقة الشرق الأوسط بشكل دراماتيكي، وصولاً إلى “التخلي” عنها، إن لم يكن “التخلي عنها بشكل تام”، مما يؤدي إلى شيوع حالة من عدم اليقين حول الالتزامات الأمنية للولايات المتحدة تجاه المنطقة.
فبعد عقود من الزمن من التزام الولايات المتحدة، ولو بشكل غير رسمي، بضمان وضع ممالك الخليج تحت المظلة الأمنية الأمريكية، في مقابل التكلفة المنخفضة والإمدادات الوفيرة للنفط، فإن هؤلاء الأمراء والملوك والحكام أصبحوا الآن يتشكّكون بشكل متزايد في مصداقية الجانب الأمريكي بخصوص هذا التفاهم. ومن بين دول الخليج قاطبة ليس هناك من هي أكثر انزعاجاً في هذا الأمر من المملكة العربية السعودية، الدولة الأكثر حجماً وأهمية في المنطقة. فقد كان تصورها عن فشل واشنطن في الرد بقوة على الضربات بالطائرات بدون طيار والصواريخ التي شنها الحوثيون، الذين يتم تسليحهم ورعايتهم من قِبل إيران، ضد السعودية في عام 2019 وضد كل من السعودية و الإمارات في عام 2022، هو أكثر الأمثلة الملموسة التي تثير مخاوف الخليج بشأن القرار الأمريكي بهذا الصدد.
وهناك عدد من العوامل تغذي تصور تخلي الولايات المتحدة (عن المنطقة، والسعودية على وجه الخصوص)، من التصريحات المباشرة، العامة والخاصة، لمسؤولي إدارة بايدن الرئيسيين إلى الحالة المتغيرة لخطاب السياسة الخارجية للولايات المتحدة. ومع ذلك، فإن معاملة الولايات المتحدة لمحمد بن سلمان آل سعود (المعروف اختصاراً بـ “مبس”) – ولي عهد البلاد ورئيس الوزراء ووريث العرش المنتظر – تحظى باهتمام خاص في الرياض.
إثارة التعاطف مع مبس
لم تكن العلاقة بين الولايات المتحدة والسعودية دافئة أبداً، فقد كانت دائماً مبنية على المصالح المتبادلة المحسوبة، بينما تظل حجر الأساس والمرتكز لمكانة الولايات المتحدة وسياستها في الخليج. وعلى الرغم من بعض التوترات الهيكلية فيما يتعلق باختلاف وجهات النظر الدينية، وأشكال الحكم، والعلاقات مع إسرائيل، ظلت الدولتان في حالة من الوئام الشديد على أساس صفقة “الأمن مقابل النفط”.
ومع ذلك، فإن هذا الترتيب معرض للخطر الآن من المنظور السعودي وربما حتى من وجهة نظر الولايات المتحدة – ليس لأنها لن تضمن بعد الآن أمن شركائها الخليجيين، ولكن لأن هذه الضمانة سيتم تقييمها ومعايرتها بشكل أكبر في ضوء التحديات السياسية والاقتصادية والعسكرية الصينية في منطقة المحيطين الهندي والهادي وعلى المستوى العالمي. وتشعر عواصم الخليج بالقلق، أو حتى الخوف، من أن الولايات المتحدة لم تعد شريكاً يمكن الاعتماد عليه وربما لم تعد حتى وسيطاً نزيهاً، وأن مخاوفهم ترتكز على الأقوال والأفعال الأمريكية. ونتيجة لذلك، فإن هذه الدول تتبنى، على نحو متزايد، وجهات نظر أكثر تعقيداً في التعامل مع علاقتها السابقة مع واشنطن.
وقد اهتزت تلك العلاقة غير المستقرة والتعاملات مع السعوديين بسبب القتل المروّع وتقطيع أوصال الصحفي جمال خاشقجي على يد عملاء سعوديين (وعلى ما يبدو بمعرفة وتوجيه محمد بن سلمان) داخل القنصلية السعودية في إسطنبول. وكان خاشقجي، المواطن السعودي وكاتب الرأي في صحيفة واشنطن بوست، قد تحول من مؤيد لمحمد بن سلمان إلى ناقد شديد له. وقد صدم هذا الإعدام المروّع العواصم الغربية، وخاصة واشنطن، مع ضمان الواشنطن بوست تغطية منتظمة وطويلة الأمد للقضية.
ورداً على ذلك، وخلال مناظرة تمهيدية للحزب الديمقراطي في أتلانتا في شهر نوفمبر عام 2019، وصف المرشح للرئاسة آنذاك جو بايدن محمد بن سلمان، وحتى على نطاق أوسع جميع السعوديين بأنهم “المنبوذون كما هم” وحكومتهم ذات “الإصلاحات الاجتماعية القليلة للغاية”، مضيفاً أنه “في ظل إدارة بايدن-هاريس، سنعيد تقييم علاقتنا بالمملكة، وسننهي دعم الولايات المتحدة للحرب التي تشنها السعودية على اليمن، وسنؤكد على أن أمريكا لن تتراجع أبداً عن قيمها من أجل بيع الأسلحة أو شراء النفط“. ولم يؤدِ هذا الهجوم الذي شنه الرئيس الأمريكي القادم إلا إلى إثارة التعاطف مع الأمير السعودي في الداخل: فمن عساه يكون هذا الأجنبي الكافر الوقح الذي يهاجم أميرنا وبلدنا ومجتمعنا؟
وبعيداً تماماً عن الحديث عن الأخلاق، فقد كان هذا الاغتيال خطوة متهورة، وفي نهاية الأمر فقد جاءت بنتائج عكسية. ففي حين كانت مقالات خاشقجي التي كان ينشرها في واشنطن بوست تنتقد النظام السعودي، وخاصة محمد بن سلمان، وكان لها آثار لا تكاد تُذكر على العلاقة الأمريكية-السعودية، إلا أن عملية قتله، التي ساهم في كشفها الرئيس التركي (لأسباب تتعلق بالسياسة الخارجية) وخطيبة خاشقجي، خديجة جنكيز (لأسباب شخصية واضحة)، كان لها تأثير كبير وطويل الأمد في الولايات المتحدة وخارجها.
ولسوء حظ بايدن، ارتفعت -فيما بعد- أسعار النفط في العام 2021-2022. وكان بإمكان الولايات المتحدة نفسها إنتاج المزيد من النفط وتخفيض تلك الأسعار المرتفعة، ولكن كان ذلك سيؤدي فقط إلى تأثيرات بيئية غير مقبولة من حلفاء بايدن من الحزب الديمقراطي.
وفي النهاية أُجبر بايدن على السفر إلى الرياض، خاضعاً، في يوليو 2022، وفي الواقع ليتوسل زيادة الإنتاج السعودي للنفط من محمد بن سلمان، وهو ما لم يفعله الأمير علناً. بل إنه فعل العكس في واقع الأمر، مما دفع “أوبك +” إلى خفض الإنتاج بمقدار مليوني برميل يومياً بالتنسيق مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين – واضعاً بذلك مزيداً من الملح على الجرح.
واضطر بايدن أيضاً عند وصوله، بشكل محرج للغاية، إلى الترحيب بمحمد بن سلمان – وهو ما كان يعني عادةً احتضانه، ولكن الملاحظة التي كان قد أدلى بها من قبل عن وضع “المنبوذ” دفعت بايدن أن يقوم بمحاولة خرقاء في أحسن الأحوال بالتوصل إلى تحيته بـ “قبضة اليد” والتي قبلها محمد بن سلمان برضا ورد عليها بالمثل، لكنه لم ينسها أبداً.
ثمن عزل السعودية
إن هذا الخرق في العلاقة بين الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية يتعارض مع المصالح الوطنية للبلدين. وفي حالة استمراره، فسيكون له آثار سلبية على كلتيهما، وسيوفر أيضاً للصين وربما لمنافسين آخرين مثل إيران فرصة نادرة لتعزيز مصالحهم على حساب الولايات المتحدة والسعودية. وعلى الرغم من أن مقتل خاشقجي أمر مروّع، إلا أنه لا ينبغي أن نسمح له بتدمير علاقة جيوسياسية مهمة لكلا الطرفين.
ومن المفارقات في هذا الأمر، أن محمد بن سلمان قد أخذ المملكة العربية السعودية، في كثير من النواحي، على الطريق الصحيح تماماً من منظور السعودية والولايات المتحدة على السواء. فبموجب رؤيته 2030، فقد أحرز تقدماً في مستويات التعليم العالي بالبلاد، وألغى الشرطة الدينية (المطاوعة، كما كان يُطلق عليهم)، وسعى إلى “إعادة المملكة العربية السعودية إلى الإسلام المعتدل“.
وتحرك ابن سلمان نحو تنويع أسس الاقتصاد السعودي بعيداً عن الاعتماد فقط على النفط إلى السلع والخدمات التنافسية من الناحية التكنولوجية، وحرّر النساء من القيود الاجتماعية والاقتصادية والشخصية القاسية، ووفّر لهن إمكانية الوصول إلى التعليم والقوى العاملة، وخرق الصفقة الأساسية مع القبائل الصحراوية. وقد تعامل ابن سلمان مع أمراء وعائلات سعودية أخرى بقسوة من أجل القيام بذلك، باعتبار أن مصيرهم هو مسألة داخلية – لكنها ليست كذلك، ولا ينبغي أن تكون، فهي مسألة جوهرية للمصلحة الوطنية للولايات المتحدة.
ومع ذلك، فقد تكون هناك احتمالية للتوصل إلى اتفاق بين السعودية والصين. ففي ديسمبر الماضي فقط، قام الرئيس الصيني شي جين بينغ برحلة غير عادية إلى السعودية للقاء الملك سلمان وولي عهده محمد بن سلمان ثم توقيع اتفاقيات معهما – وعلى وجه التحديد لإقامة علاقات أوثق مع المملكة ثم جيرانها الخليجيين، وفتح جبهة أخرى ضد الولايات المتحدة ومصالحها. وقد منحه محمد بن سلمان ترحيباً كبيراً و استقبالاً مهيباً.
وبالإضافة إلى ذلك، أشار محمد بن سلمان إلى أنه إذا لم تكن واشنطن أكثر استعداداً لضمان المصالح الوطنية الأساسية للسعودية، فإن لديه خيارات أخرى. وكل هذا يضر بمصالح الولايات المتحدة، خاصةً العلاقات الوثيقة مع الصين، والتي نمت استثماراتها في المملكة من لا شيء تقريباً إلى حوالي 12 مليار دولار على مدار الخمسة عشر عاماً الماضية و بمعدل 5 مليارات دولار في شهر يونيو وحده.
وترسم التطورات الأخرى صورة قاتمة للمصالح الأمريكية. فإلى جانب مصر والكويت وقطر والإمارات، أصبحت السعودية الآن شريكاً في الحوار في منظمة شنغهاي للتعاون التي أسستها الصين، ومقرها بكين. ويدرس الآلاف من الطلاب السعوديين ودول الخليج الأخرى الآن في الصين بدلاً من الولايات المتحدة. وفي مايو، انضمت المملكة العربية السعودية إلى مصر والإمارات في إعادة قبول سوريا في جامعة الدول العربية بكل حماس، على الرغم مما قام به الرئيس السوري بشار الأسد من ذبح للسكان السنة في سوريا.
وقد تسببت محاولة الولايات المتحدة إبرام اتفاق نووي مع إيران، الخصم الأساسي للسعودية، والقيام بذلك بشروط يعتبرها السعوديون بوضوح أنها تضر بمصالح أمنهم القومي الحيوية، في فتح صدع محتمل آخر. وهذا الصدع المحتمل استغله الصينيون بكل سرور حيث قادوا عملية استئناف العلاقات الدبلوماسية بين السعودية و إيران، خصمها اللدود حتى الآن.
ويمكن للولايات المتحدة أن تُعزي، ولو جزئياً، توبيخها العلني لمحمد بن سلمان على هذا التغيير الملحوظ والمكانة الجديدة للصين. وأدت العلاقات التي توثقت مؤخراً بين دول الخليج المتحالفة مع الولايات المتحدة، بعد تجاوز الخلاف مع قطر (وما أدى إليه من تدهور في حالة الوئام التي كانت سائدة بين دول مجلس التعاون الخليجي) إلى زيادة المخاطر الكامنة في العلاقات بين السعودية والولايات المتحدة، كما فعلت الحركة الأخيرة التي قام بها محمد بن سلمان ومعه حلفاؤه العمانيون تجاه خصومه على الحدود من الحوثيين في اليمن.
إصلاح العلاقة
إن هذا الجفاء في العلاقات السعودية-الأمريكية في حاجة إلى الإصلاح. وفي حين أنه قد لا يرقى إلى نفس المستوى الاستراتيجي من الأهمية كعلاقات الولايات المتحدة مع الصين، إلا أنها (العلاقات السعودية-الأمريكية) ضرورية رغم ذلك، حتى ولو من أجل الفرصة التي قد يتيحها أي تصدع في علاقات الولايات المتحدة مع السعودية للصين على وجه التحديد.
لكن تلك العلاقات مهمة في حد ذاتها، وليس فقط من الناحية الاقتصادية أو العسكرية (بالنظر إلى وجود القواعد الأمريكية). فللولايات المتحدة مصالح جيوسياسية حيوية في أن يكون الخليج مستقراً وودوداً. تُعتبر إيران تهديداً لتلك المصالح.
وكذلك الحال بالنسبة للصين، فهل ينبغي أن تجد بكين قواعد خليجية أو حتى ترتيبات لإعادة التزود بالوقود ومعها فرصة لإظهار القوة وكذلك القوة الاقتصادية في منطقة كانت محظورة عليها حتى الآن، غرس خنجر آخر في بقعة كانت خالصة للولايات المتحدة. وعلى الرغم من أنه قد يكون الوقت قد تأخر بالنسبة لبايدن، إلا أنه يمكنه بذل قصارى جهده (لإحراز أي تقدم في هذا الخصوص).
وبنفس الشكل، فإنه لم يفُت الأوان بعد على خلفائه أو الفروع المتساوية لأركان الحكم في البلاد. فعلى مجلس النواب ذي الأغلبية الجمهورية الآن أن يجعل الوصول إلى علاقة أفضل (مع السعودية ودول الخليج) هدفاً واضحاً.
كما يتعين على لجنة الشؤون الخارجية بمجلس النواب القيام برحلة إلى المملكة العربية السعودية ودول الخليج الأخرى مشحونة بالاهتمام الصادق والتعبير الجاد عن الصداقة، مع إيلاء اهتمام خاص لمحمد بن سلمان.
ويجب أن يتم التأكيد على أن الولايات المتحدة سوف “تعيد تقييم علاقتها بالمملكة” ولكن بطريقة معاكسة للطريقة التي كان تدور في خلد المرشحَين آنذاك، جو بايدن وكمالا هاريس. وعلى أعضاء مجلس النواب من الديمقراطيين الانضمام إلى هذه البادرة، بدلاً من التخلي عنها، ناهيك عن التنصل منها أو رفضها.
.
رابط المصدر: