نشاط حزب الله في العالم .. بين القوة الخشنة والناعمة

أنس خضر

لم يكن إعلان أمن الدولة الكويتي اعتقاله لمجموعة تابعة لحزب الله في الكويت خبراً مفاجئاً للمتابعين، فالحزب الذي يعد القوة الأبرز في المشهد اللبناني صار أيضاً أحد أبرز المؤثرين في المشهد الإقليمي عموماً ويمارس أدواراً محورية في العديد من الساحات المشتعلة منذ زمن، كاليمن والعراق وسوريا، سواء من خلال مجموعاته القتالية من النخب وقوات التعبئة في سوريا أو من خلال المستشارين العسكريين في كل من العراق واليمن، فضلاً عن سلسلة طويلة من الشبكات الأمنية واللوجستية في هذه البلاد التي تتصل جميعها عبر طرفيها بطهران وبيروت.

أصل الفكرة وتصدير الثورة

هذا النشاط المتزايد للحزب خارج حدود لبنان لم يكن وليد الحاضر إذ إن له مبرراته العقائدية والفكرية التي دفعت بهذا الاتجاه منذ تأسيس الحزب في لبنان عام 1982. نشأ حزب الله في أوج صعود نجم الخميني وجمهوريته عقب نجاح ثورته في إيران، الذي أحيا بدوره فكر الجهاد والتحرر وإقامة الحكم الإسلامي وكسر الحدود المصطنعة[1] لدى شريحة واسعة من الشيعة على امتداد العالم العربي، وتحديداً في لبنان، فكانت أفكاره تتجاوز حدود دولته في إيران لتصل إلى بيروت تحت عنوان تصدير الثورة، وفي ظل هذه الأجواء (الأممية) نشأ حزب الله، وعلى هذا تربى أعضاء الحزب وجمهوره، فكان بالنسبة لهم الملهم والمرشد.

منظمة الجهاد.. القوة الخشنة

في ثمانينيات القرن الماضي برز نشاط الحزب العسكري والأمني في استهداف المصالح الغربية في لبنان وخارج لبنان، حتى غير العسكرية منها؛ من خلال استهداف دبلوماسيين وسفراء وسياح وسفارات ومراكز تجمع ومكتبات ومنشآت نفطية وغير ذلك[2]، فبرز اسم حزب الله في الحجاز، الذي نشط في البحرين وشرقي السعودية والكويت، وتنسب له تفجيرات أبراج الخبر في السعودية عام 1996 التي قتل فيها 19 من القوات الأمريكية وجرح المئات. كما برز اسم الحزب في العديد من عمليات اختطاف الطائرات المدنية، كما حصل في مطار الكويت عام 1984، ومطار فرانكفورت من العام نفسه، ومطار أثينا عام 1985، وغيرها، فضلاً عن عمليات استهدفت مكاتب دبلوماسية وسفارات ومكتبات ومراكز تجمع ومعالم سياحية في الغرب، والعديد من عمليات الخطف والاغتيال التي تعرض لها سفراء ودبلوماسيون وسواح يهود، كان آخرها استهداف حافلة تقل سواحاً إسرائيليين في بلغاريا عام 2012.

هذه العمليات المستمرة منذ ثمانينيات القرن الماضي لم يتبنها الحزب باسمه، بل تبنتها منظمة الجهاد التابعة له، التي برز اسمها لأول مرة في تفجيرات بيروت عام 1983 التي استهدفت السفارتين الأمريكية والفرنسية ومقار مشاة البحرية الأمريكية وفوج المظليين الفرنسيين، وبرز اسم عماد مغنية على رأس هذه المنظمة، يعاونه مصطفى بدر الدين، الذي خلف مغنية عقب اغتياله في دمشق عام 2008[3]. ومغنية وبدر الدين هما من أبرز قادة حزب الله الأمنيين والعسكريين، وكان لهما أدوار مهمة في مسيرة الحزب منذ البداية وفي حرب يوليو/ تموز عام 2006. كما اعتبر بدر الدين أحد أبرز قادة الحزب ميدانياً وعملياتياً في المعارك التي شارك فيها الحزب في سوريا إلى جانب حليفه النظام السوري، وقد قتل بدر الدين أيضاً في سوريا عام 2016.

نحو القوة الناعمة

إلا أن المتتبع لنشاط الحزب الخارجي يجد تبدلاً في الأسلوب والأولويات، فبينما كانت هذه النشاطات تتسم بالفوضوية وتعطي الأولوية للقتل والخطف والتفجير، في أساليب مماثلة للجماعات الجهادية السنية، تبدلت هذه الأولويات لدى الحزب منذ نهاية القرن العشرين حتى العام 2011، ليوجه الجهد الأكبر نحو تأسيس شبكة لوجستية عالمية تتسم بالسرية التامة والتنظيم العالي، وتركز على جمع المعلومات، ونقل شحنات السلاح والمال، والعمل ضمن السوق السوداء العالمية بواسطة خلايا عنقودية متوزعة بين أوروبا الشرقية وأمريكا اللاتينية وغرب وجنوب أفريقيا، في حين لم تشهد المرحلة الممتدة بين عامي 2000 و2010 أية عملية أمنية ذات أهمية للحزب في الخارج، ما خلا مشاركة الحزب في تأسيس فصائل شيعية في العراق من خلال بعض أعضائه الذين أرسلهم إلى العراق إبان الغزو الأمريكي عام 2003[4].

لم يعد خافياً تصاعد نشاط خلايا الحزب اللوجستية والأمنية والاقتصادية خارج لبنان، فالتقارير التي تتحدث عن مصالح الحزب الضخمة والمتزايدة بشكل متسارع في جنوب وغرب أفريقيا لا تأتي من فراغ، هذه المصالح تتخذ شكل شركات تجارية ذات وزن كبير في السوق الأفريقية، كما في ساحل العاج ونيجيريا والسنغال وغانا[5].

أما في السوق الأوروبية فنشاط خلايا الحزب اللوجستية في تصاعد. ففي بلجيكا أدرجت وزارة الخزانة الأمريكية شركة خدمات الطاقة “جلوبال تريدنج جروب” في مايو/أيار 2017، ومقرها مدينة أنتويرب- بلجيكا، على القائمة السوداء، وأكدت أن مدير الشركة “محمد إبراهيم بزي” ممول لحزب الله يعمل من خلال بلجيكا ولبنان والعراق.

وفي النمسا وُجهت لائحة اتهام ضد عنصر من عناصر حزب الله في كارينثيا- النمسا، بتهمة تمويل التطرف، ما حدا بالسلطات النمساوية لحظر الحزب بالكامل، متجاوزة بذلك إجراءات الاتحاد الأوروبي الذي اكتفى بحظر الجناح العسكري فقط، وتصنيفه منظمة إرهابية.

أما هولندا فتوجه اتهامات للحزب بتجنيد خلايا أمنية على أراضيها وجمع المساعدات لتمويل نشاط الحزب العسكري.

وأما في أمريكا اللاتينية فإن نشاط الحزب هناك يتمتع بأريحية أكبر منه في أوروبا؛ حيث تنشط خلايا الحزب على شكل شركات ورجال أعمال تقوم على أصول مالية ضخمة، كما هو الحال في البرازيل والأرجنتين على سبيل المثال.

الاستثمار في مواطن الصراع

لكن مع انطلاق الربيع العربي بين عامي 2010 و 2011، وامتداده ليصل إلى سوريا واليمن، وظهور تنظيم الدولة الإسلامية في العراق لاحقاً وجد الحزب نفسه أمام تبدل كبير في المشهد الإقليمي والدولي، وخطر يتهدد مصالحه في سوريا من جهة، وفرصة لمد أذرعه وتوسيع رقعة نشاطه في سوريا والعراق واليمن من جهة أخرى، فاتخذ الحزب قرار القتال في سوريا إلى جانب حليفه نظام الأسد، الذي قدم للحزب كل وسائل الدعم والتسهيلات، وشكلت سوريا له قاعدة خلفية كبرى للتسليح والتدريب، فأرسل الحزب نخبة مقاتليه إلى سوريا، وشارك في معارك مفصلية بعضها على الحدود مع لبنان كما في القصير والقلمون ودرعا، وكثير منها في العمق السوري كما في حمص وحماة وإدلب وحلب ودير الزور حيث الحدود مع العراق.

أكسبت الحرب السورية حزب الله تمدداً واسعاً يشمل معظم الأراضي السورية، وخبرات قتالية جديدة، ونوعيات من السلاح الثقيل استحوذ عليها الحزب من جراء المعارك التي أخذت شكل الحرب الهجينة في أراضٍ مفتوحة، والقتال إلى جانب جيش نظامي يمتلك ترسانة ضخمة من السلاح الثقيل كالجيش السوري. كما مكنته المشاركة في سوريا من تأسيس خط بري ممتد يصل بيروت ببغداد مروراً بدمشق ووصولاً إلى إيران، ساعده ذلك على تثبيت نفوذه في العراق من خلال العديد من الأعضاء والمستشارين العسكريين[6] الذين شاركوا إلى جانب فيلق القدس الإيراني بتأسيس الحشد الشعبي في العراق، وهو عبارة عن ميليشيات شيعية تدين بالولاء لإيران، لقتال تنظيم الدولة.

لكن ومع احتدام الحرب في اليمن، وعاصفة الحزم التي أطلقها “التحالف العربي” بقيادة المملكة العربية السعودية في مواجهة تمدد جماعة أنصار الله (الحوثيين) في اليمن، وجد حزب الله، ومن خلفه إيران بالطبع، في اليمن فرصة لتوسيع نفوذهم الإقليمي وتحويل اليمن إلى نقطة اشتباك متقدمة مع النظام في السعودية، وورقة ضغط إقليمية جديدة تفرض من خلالها إيران سياساتها، وتغير من خلالها المعادلات في ظل الحرب الباردة التي تخوضها إيران في مياه الخليج وسعيها للسيطرة على المضايق وطرق الإمداد البحرية، وقد كان؛ حيث تدعم إيران حتى اليوم بالسلاح والمال والخبرات جماعة الحوثي، ويلعب حزب الله دوراً بارزاً في مجريات المعارك من خلال مستشاريه العسكريين[7]، ويبدو أن كفة المعارك تميل إلى جانب الحوثيين ومن معهم في ظل تراجع قوات التحالف الإماراتي- السعودي، وجنوح السعودية نحو المفاوضات المباشرة مع إيران، والطلب منها أن تكف يد حزب الله في اليمن والمنطقة.

هل يتخلى الحزب عن مكتسباته الأخيرة؟

فرض تدخل حزب الله العسكري تحدياً كبيراً للحزب الذي جعل منه فرصة لمد نفوذه عبر سوريا والعراق واليمن، وما كان يعاني منه الحزب قبل العام 2010 من تضييق وحصار وتصنيف على لوائح الإرهاب في الغرب وحظر للنشاطات، لم يعد بالنسبة له ذا أهمية بالغة؛ حيث أضحت طرق إمداده وشبكاته اللوجستية والأمنية والإدارية من طهران إلى بيروت أكثر ترابطاً وتماسكاً. وفيما يبدو الحزب مستمراً في توسيع نفوذه الإقليمي وتبعاً للمكتسبات التي حققها في العقد الأخير فإنه لا يبدو عازماً على الانكفاء إلى الداخل اللبناني وكف نشاطه الخارجي، بل يبدو اليوم أكثر تصميماً على الحفاظ على مصالحه الخارجية التي تزيد موقفه في لبنان قوة وصلابة.

المصادر

[1] نعيم قاسم، حزب الله: المنهج- التجربة- المستقبل، دار المحجة البيضاء، ط7، 2010، ص51.

[2] معهد واشنطن للدراسات.

[3] المرجع نفسه.

[4] المرجع نفسه.

[5] عارف عبد البصير، شبكات التمويل السرية.. من أين يحصل حزب الله على أمواله؟، شبكة الجزيرة الإعلامية، 2021.

[6] قيادي في “حزب الله” اللبناني نسخة سليماني الأخرى في العراق، موقع إندبندنت، 2020.

[7] وكالة الأناضول، 2021.

 

.

رابط المصدر:

https://fikercenter.com/2021/12/11/%D9%86%D8%B4%D8%A7%D8%B7-%D8%AD%D8%B2%D8%A8-%D8%A7%D9%84%D9%84%D9%87-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%A7%D9%84%D9%85-%D8%A8%D9%8A%D9%86-%D8%A7%D9%84%D9%82%D9%88%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AE%D8%B4%D9%86/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M