جيسون بوردوف، ميغان إل أوسوليفان
في أعقاب غزو روسيا لأوكرانيا، يبدو أن العالم بلغ نقطة انقلاب، فقد أعلن قادة أعمال تسارع عملية التخلي عن العولمة وحذروا من فترة جديدة من الركود التضخمي. واستنكر أكاديميون عودة الغزو وأشادوا بتجديد العلاقات عبر المحيط الأطلسي. والآن تعيد بلدان النظر في كل جانب تقريباً من جوانب سياساتها الخارجية، بما في ذلك التجارة، والإنفاق الدفاعي، والتحالفات العسكرية.
هذه التحولات الهائلة ألقت بظلالها على تحول عميق آخر في نظام الطاقة العالمي. فخلال العقدين الماضيين، أعادت الحاجة الملحة إلى الحد من الانبعاثات الكربونية تدريجياً تشكيل نظام الطاقة العالمي. والآن، نتيجة للحرب في أوكرانيا، عاد أمن الطاقة إلى الواجهة، لينضم إلى تغير المناخ في قائمة الاهتمامات الرئيسة لواضعي السياسات. ومعاً، تميل هاتان الأولويتان المزدوجتان إلى إعادة تشكيل التخطيط الوطني في مجال الطاقة، وتدفقات تجارة الطاقة، والاقتصاد العالمي الأوسع نطاقاً. وستلتفت البلدان في شكل متزايد إلى الداخل، فتولي الأولوية لإنتاج الطاقة محلياً وللتعاون الإقليمي حتى في سعيها إلى التحول إلى الانبعاثات الكربونية الصفرية الصافية. وإذا تقوقعت البلدان في تكتلات استراتيجية في مجال الطاقة، يخاطر اتجاه دام لعدة عقود نحو مزيد من الترابط على صعيد الطاقة بإفساح المجال أمام عصر من التفتت في ما يخص الطاقة.
لكن فضلاً عن القومية الاقتصادية والتخلي عن العولمة، سيتحدد نظام الطاقة المقبل وفق شيء لم تقدره في شكل كامل سوى قلة من المحللين: تدخل الحكومات في قطاع الطاقة على نطاق غير مشهود في الذاكرة الحديثة. فبعد أربعة عقود سعت خلالها الحكومات الغربية عموماً إلى الحد من نشاطها في أسواق الطاقة، هي تدرك الآن الحاجة إلى الاضطلاع بدور أكثر توسعاً في كل شيء، من بناء البنية التحتية للوقود الأحفوري (وإحالتها إلى التقاعد) إلى التأثير في المجالات التي تشتري فيها الشركات الخاصة الطاقة وتبيعها للحد من الانبعاثات من خلال تسعير الكربون، والإعانات، والتفويضات، والمعايير.
ومن المحتم أن يستدعي هذا التحول عقد مقارنات بسبعينيات القرن العشرين، عندما تسبب التدخل الحكومي المفرط في أسواق الطاقة في تفاقم أزمات متكررة في مجال الطاقة، بيد أن عصر التدخل الحكومي البازغ لن يكون أمراً سيئاً إذا أدير على نحو صحيح. فهذا العصر، إذا كان محدوداً ومصمماً على نحو لائق لمعالجة إخفاقات محددة في السوق، يستطيع أن ينجح في إحباط أسوأ الآثار المترتبة على تغير المناخ، والتخفيف من العديد من مخاطر أمن الطاقة، والمساعدة في إدارة التحديات الجيوسياسية الأكبر المترتبة على التحول المقبل في مجال الطاقة. وأعادت أزمة الطاقة الحالية تركيز انتباه العالم على المخاطر الجيوسياسية في مجال الطاقة، وأرغمت على المفاضلة بين الطموحات المناخية غداً واحتياجات الطاقة اليوم وعلى عرض نظرة مسبقة إلى العصر المضطرب المقبل. وستشكل طريقة استجابة الحكومات لهذه التحديات، التي أبرزها في شكل حاد غزو روسيا لأوكرانيا، نظام الطاقة الجديد لعقود مقبلة.
أسوأ من المرض
تشكل قصة أزمات الطاقة في السبعينيات في جزء منها قصة المبالغة الحكومية. وحتى قبل أن تخفض الدول الخليجية الست الأعضاء في منظمة البلدان المصدرة للنفط (أوبك) إنتاجها وتفرض حظراً نفطياً على الولايات المتحدة والبلدان الأخرى التي دعمت إسرائيل خلال حرب يوم الغفران عام 1973، سعت واشنطن بنشاط إلى إدارة أسواق النفط الأميركية. عام 1959، مثلاً، حدد الرئيس دوايت أيزنهاور حصصاً لواردات النفط بغرض حماية المنتجين الأميركيين. وكان لهذه الحصص أثرها المقصود، إذ سمحت للمنتجين الأميركيين بالازدهار وزيادة الإمدادات طوال الستينيات، لكنها لم تحم المستهلكين من التكاليف المتزايدة. ومع انتقال الأميركيين إلى الضواحي، وشرائهم مساكن وسيارات متزايدة الضخامة، فاق استهلاك النفط المعروض منه، ثم بدأت الأسعار في الارتفاع في نهاية المطاف.
ولإبقاء الأسعار تحت السيطرة، حاول الرئيس ريتشارد نيكسون تطبيق عدد من السياسات. عام 1971، في الوقت نفسه الذي أنهت فيه إدارته معيار الذهب، فرض سلسلة من الضوابط على الأجور والأسعار، بما في ذلك أسعار النفط والغاز، لكن هذه التدابير لم تسفر إلا عن زيادة الطلب على النفط في حين دفعت المعروض المحلي نزولاً. وبحلول شتاء 1972-1973، كان نقص الوقود قد أجبر بعض المناطق المدرسية على إغلاق أبواب مؤسساتها في أيام مختلفة، وكانت وسائل الإعلام تحذر من أزمة وشيكة في الطاقة. وفي ربيع عام 1973، قرر نيكسون إلغاء الحصص على واردات النفط التي طبقها أيزنهاور، وحض الأميركيين في الوقت نفسه على الحفاظ على البنزين، لكن بحلول يونيو (حزيران)، وقبل عدة أشهر من الحظر النفطي العربي، أبلغ النصف تقريباً من محطات البنزين في البلاد عن مشكلات تعيق العمل الطبيعي، وكان السائقون يكافحون من أجل العثور على الوقود.
وبدلاً من تقليص الدور الذي تؤديه الحكومة في أسواق الطاقة، بادر نيكسون إلى تعزيزه، وأثبت العلاج أنه أسوأ من المرض. وفي نوفمبر (تشرين الثاني) 1973، أنشأ نيكسون برنامجاً فيدرالياً حدد مسؤولون حكوميون من خلاله طريقة تخصيص استخدامات البروبان، والكيروسين، ووقود الطائرات، والديزل، وغير ذلك من أنواع الوقود. ووفق ويليام سيمون، الذي تولى رئاسة مكتب الطاقة الفيدرالي آنذاك، كانت هذه الجهود “كارثة”. على هذه الخلفية من التدخل الحكومي أدى الحظر النفطي العربي إلى الشراء المذعور وطوابير عند محطات البنزين في مختلف أنحاء البلاد.
وشهدت نهاية السبعينيات أزمة نفطية أخرى، تسببت بها العديد من القوى نفسها. في أواخر عام 1978، أدت الانتفاضة الشعبية في إيران إلى توقف إنتاج النفط هناك، ما تسبب في نقص في الولايات المتحدة وغيرها من البلدان ودفع الأسعار إلى عنان السماء. وعلى غرار ما حدث أثناء الأزمة السابقة، لم تسفر الضوابط الفيدرالية على الأسعار والجهود الرامية إلى تخصيص استخدامات المنتجات إلا عن تفاقم الأمور. وانتظر الأميركيون في طوابير لشراء البنزين مرة أخرى، وألزموا بالتزود بالوقود في أيام معينة، وأصغوا عندما ألقى الرئيس جيمي كارتر خطابه الشهير حول “أزمة الثقة”.
من بين الدروس المستفادة من هذه الإخفاقات أن الإفراط في الإدارة الحكومية التفصيلية لاقتصاد الطاقة قد يؤدي إلى نتائج عكسية. وبدأ كارتر تحرير أسعار الطاقة، وهي عملية سرعها الرئيس رونالد ريغان لاحقاً. وبالتدريج، وعلى مدى العقود القليلة التالية، قللت الحكومة الأميركية دورها في اقتصاد الطاقة: ألغت حصص الواردات تدريجياً، وأنهت الضوابط على أسعار النفط والغاز، وألغت نظام تخصيص الاستخدامات.
لا شك في أن الحكومة وسعت أيضاً دورها في مجالات أخرى مرتبطة بالطاقة، فوضعت معايير لاقتصاد الوقود وسقوفاً أدنى لسرعات القيادة، ودعمت الوقود المركب ومبادرات عزل المنازل، وأنشأت الاحتياطي النفطي الاستراتيجي، ووسعت نطاق الترخيص في مجالي الاستكشاف والإنتاج في خليج المكسيك وألاسكا. وشكل تزايد استخدام العقوبات ضد بلدان منتجة للطاقة استثناء آخر للقاعدة العامة. ومع ذلك، استرشد العديد من أهم التغييرات التي طرأت على قطاع الطاقة منذ أزمات السبعينيات -مثل تحرير مبيعات الغاز الطبيعي وإنشاء شركات تنافسية لإنتاج الطاقة وإنشاء أسواق لبيع الطاقة بالجملة- بإجماع الحزبين على أن أمن الطاقة والتكاليف المنخفضة من الأفضل ضمانها من خلال السماح ببساطة للسوق بأن تعمل بمفردها.
عاصفة تتجمع
قد تصبح أزمة الطاقة الناجمة من غزو روسيا لأوكرانيا الأسوأ منذ نصف قرن. وعقد العديد من المحللين بالفعل مقارنات مع أزمات النفط في السبعينيات، لكن ثمة اختلافات مهمة. بادئ ذي بدء، أصبح استهلاك الاقتصاد العالمي للطاقة أقل كثافة. فالنمو الاقتصادي يتجاوز سرعةً نمو استخدام الطاقة، لذلك فالعالم يستخدم الآن قدراً أقل كثيراً من الطاقة مقاساً بكل وحدة من الناتج المحلي الإجمالي، فضلاً عن ذلك، يوزع عدد أكبر كثيراً من الشركات النفط على مستوى العالم اليوم مقارنة بما كانت عليه الحال في أوائل سبعينيات القرن العشرين، عندما كانت حفنة من الشركات تسيطر على أغلب التجارة النفطية العالمية. ونتيجة لهذا، أصبحت سلاسل إمداد الطاقة الآن أكثر متانة.
ومع ذلك تتجاوز أزمة الطاقة الحالية النفط بكثير، وقد تؤثر بالتالي في شريحة أوسع من الاقتصاد. فمصادر الطاقة بأشكالها كلها قد تتعطل بفعل الاضطرابات، ذلك أن روسيا ليست المصدر الأكبر للنفط والمنتجات النفطية المكررة بين بلدان العالم فحسب، بل تشكل أيضاً المورد المهيمن للغاز الطبيعي إلى أوروبا والمصدر الرئيس للفحم واليورانيوم المنخفض التخصيب المستخدم في تشغيل المحطات النووية، ناهيك بالعديد من السلع الأخرى. ومع اقتراب أسعار الفحم والبنزين والديزل والغاز الطبيعي وغير ذلك من السلع من مستويات مرتفعة قياسية، فإن من شأن مزيد من تعطل إمدادات الطاقة الروسية، سواء بمبادرة من روسيا أو أوروبا، أن يسرع معدل التضخم، ويستجلب الركود، ويتطلب تقنين الطاقة، ويجبر شركات على إغلاق أبوابها.
كان نظام الطاقة العالمي واقعاً تحت ضغوط شديدة حتى قبل أن يقرر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين غزو أوكرانيا، فقد واجهت أوروبا وأجزاء أخرى من العالم تحديات في توليد الطاقة مع تزايد إنتاج احتياجاتها من الكهرباء من مصادر متقطعة مثل الطاقة الشمسية وطاقة الرياح. وفي الوقت نفسه، أدت سنوات من العوائد الهزيلة والضغوط المناخية المتزايدة إلى انخفاض الاستثمار في النفط والغاز، ما أدى إلى نقص الإمدادات. ودفعت مشكلات تتصل بـ”كوفيد-19″ أصابت سلاسل الإمداد إلى تفاقم الندرة وعززت الضغوط في ما يتعلق بالتسعير. وعام 2021 وأوائل عام 2022، أوقعت أسعار الغاز الطبيعي المتزايدة بعض المرافق الأوروبية في الإفلاس وأرغمت حكومات على دعم فواتير الطاقة. وكانت الأمور تتجه إلى الأسوأ، لكن الطقس الأكثر دفئاً من المتوقع في أوروبا وآسيا خفف بعض الطلب على الطاقة.
ومنذ اندلاع الحرب في أوكرانيا، تشهد أسواق الطاقة تقلبات أكبر، فقد أصبحت أسواق الائتمان أضيق، ما أدى إلى تضاؤل السيولة اللازمة لدعم شراء النفط وبيعه، وتعرض كل من العرض والطلب إلى صدمات ضخمة. وابتعد مشترون كثر عن النفط الروسي، خشية العقوبات المصرفية والمالية الغربية فضلاً عن وصمة العار المحتملة التي قد تترتب على التعامل مع روسيا. وطبقاً لتقديرات للوكالة الدولية للطاقة نقص إنتاج روسيا من النفط بالفعل نحو مليون برميل يومياً، وهو رقم قد يرتفع إذا استمر الاتحاد الأوروبي في تنفيذ خطته الرامية إلى حظر واردات النفط الخام والبنزين والديزل من روسيا بحلول نهاية العام. ودفعت الأسعار إلى مزيد من الصعود تكهنات بأن مزيداً من العقوبات قد تلوح في الأفق، فضلاً عن تردد “أوبك” عن تعويض إمدادات النفط الروسية المفقودة.
في أواخر مايو (أيار)، كان النفط يتداول عند مستوى يفوق 100 دولار للبرميل. وسجلت أسعار البنزين في الولايات المتحدة مستوى قياسياً مرتفعاً ذلك الشهر (غير معدلة وفق التضخم)، ورفعت أسعار الديزل المتزايدة تكاليف الشحن والأغذية. وارتفعت أسعار الغاز الطبيعي في الولايات المتحدة إلى أعلى مستوى لها منذ عام 2008، إذ تضاعفت تقريباً منذ بداية العام. ويواجه المستهلكون في أوروبا وأماكن أخرى حالة طوارئ أشد حدة نتيجة لأسعار الغاز الطبيعي القياسية. وكانت هذه الأسعار لتسجل مزيداً من الارتفاع لولا وجود عاملين قويين يحركان السوق، مؤقتاً في الأقل، في الاتجاه المعاكس. تؤدي الإغلاقات المفروضة بسبب “كوفيد-19″ في الصين إلى خفض الطلب العالمي على الطاقة بشكل كبير، وتضخ الولايات المتحدة وشركاؤها الدوليون كميات غير مسبوقة من النفط من احتياطياتها الاستراتيجية. وفي الوقت الحالي، يعوض الحجم المتدفق من المخزونات الاستراتيجية تقريباً خسارة المعروض من روسيا.
لكن الأسوأ لم يأتِ بعد على الأرجح. وعند تخفيف الإغلاقات الصينية سيرتفع الطلب على النفط، الأمر الذي لا بد من أن يؤدي إلى ارتفاع الأسعار. ويصدق القول نفسه على أسعار الغاز الطبيعي، التي تؤثر بدورها في أسعار الكهرباء والتدفئة. وعلى الرغم من أن الغاز الروسي يستمر في التدفق إلى أوروبا إلى حد كبير، خفضت موسكو المبيعات إلى فنلندا وبولندا وبلغاريا، وكبحت الصادرات عبر أوكرانيا وعبر شركة تابعة لـ”غازبروم” صادرتها ألمانيا، وهددت بقطع الإمدادات عن البلدان الأوروبية كلها التي لا تدفع بالروبل. ولا يزال من غير المرجح قطع إمدادات الغاز الروسية بالكامل إلى أوروبا، لكن هذا ليس أمراً لا يمكن تصوره، بل من المحتمل أن يؤدي إلى نواقص، وتقنين للطاقة، وإغلاق للصناعات الكثيفة الاستهلاك للطاقة.
ومن شأن أي عقوبات إضافية أن تخلف آثاراً من الدرجة الثانية والثالثة في نظام الطاقة العالمي. وبالفعل، تدفع الاضطرابات التي تجتاح أسواق الغاز الطبيعي المسال، الذي يتدفق على نحو متزايد على أوروبا بسبب ارتفاع الأسعار هناك، آسيا إلى البحث عن مصادر طاقة بديلة. وتفوق الفحم، البديل الوفير الرخيص نسبياً للغاز الطبيعي، فقد عززت الصين وبلدان أخرى إنتاج الفحم وسط مخاوف متزايدة من نقص في الطاقة على مستوى العالم، ما خفف بعض الضغط الذي تعانيه أسواق الغاز العالمية. وفي غياب الإنتاج الإضافي للفحم في آسيا، كانت قدرة أوروبا على التعامل مع خسارة الغاز الروسي لتتراجع، لكن الاعتماد في شكل أكبر على الفحم دفع ثمنه إلى مستويات مرتفعة قياسية أيضاً، ما جعل البلدان ذات الدخل المنخفض مثل الهند وباكستان تعاني في تلبية احتياجاتها من الطاقة في خضم موجات قاتلة من الحر. كذلك يتسبب ارتفاع أسعار الغاز الطبيعي، المستخدم في إنتاج الأسمدة، في رفع أسعار الأغذية المتزايدة بالفعل بسبب انقطاع الصادرات الزراعية الروسية والأوكرانية.
سليم وآمن
تتطلب حالات الطوارئ المعممة هذه إعادة تقييم الدروس المستفادة من السبعينيات في شأن التوازن الصحيح بين مشاركة الحكومات واستقلال السوق. وأسفر الاعتماد على قوى السوق عن منافع هائلة على مدى السنوات الـ40 الماضية، فقد جعل الطاقة ذات تكاليف أكثر قابلية للتحمل والوصول إليها أكثر يسراً، وزاد الكفاءة الاقتصادية، وعزز أمن الطاقة من خلال تمكين التسعير التنافسي من تحويل الإمدادات إلى الأسواق حيث تشتد الحاجة إليها، لكن أزمات اليوم تسلط الضوء على بعض إخفاقات الأسواق التي لا يمكن معالجتها إلا بقدر أكبر من التدخل الحكومي.
وتكشف ثلاثة من إخفاقات الأسواق في شكل خاص عن الحاجة إلى اضطلاع الحكومة بدور أكبر في الجهود الرامية إلى تحقيق الهدفين المزدوجين المتمثلين في تعزيز أمن الطاقة والتحول في الوقت المناسب إلى منع الانبعاثات الكربونية التام. أولاً، يفتقر القطاع الخاص إلى الحوافز الكافية لبناء البنية التحتية وغير ذلك من الأصول التي تحتاج إليها أغلب البلدان لضمان أمن الطاقة لديها. ثانياً، لا تستطيع قوى السوق وحدها أن تشجع بناء البنية التحتية اللازمة لتحقيق التحول في شكل أكثر تنظيماً في مجال الطاقة – البنية التحتية التي قد تصبح متقادمة بحكم التعريف قبل أن تحقق الشركات الخاصة عائداً كاملاً على الاستثمار. ثالثاً، تفتقر الشركات الخاصة والأفراد إلى الحوافز الكافية للحد من الانبعاثات التي يتحمل المجتمع تكاليفها.
تجلى أول هذه الإخفاقات في شكل مؤلم في ضعف أوروبا أمام تعطل صادرات روسيا من الطاقة. فلتحقيق أمن الطاقة، تحتاج البلدان إلى مجموعة من الخيارات في مجال شراء الطاقة، وتنوع في إمدادات الطاقة، واحتياطيات كافية في حالة الطوارئ – كل هذا يتطلب قدراً أعظم من التدخل من جانب الحكومة. ويكون أداء الأسواق الحرة في الأغلب جيداً في ضمان توفر مجموعة من الخيارات أمام المستهلكين في ما يخص الحصول على الطاقة. وعندما تتعطل الإمدادات في موقع واحد، سواء أكان ذلك بسبب كارثة طبيعية أو اضطرابات سياسية، تسمح التجارة الحرة في أسواق السلع التي تتسم بقدر كبير من التكامل وحسن الأداء للمشترين بالبحث عن بدائل بالتالي تجنب النواقص (كانت هذه الممارسة أكثر صعوبة في أوائل السبعينيات، عندما كان النفط يباع وفق عقود بعيدة الأجل بدلاً من تداوله عالمياً بوصفه سلعة)، لكن كما توضح أزمة الطاقة الأوروبية الحالية، لن يكون التحول إلى مصادر الطاقة البديلة لأسباب سياسية أو اقتصادية أو دبلوماسية ممكناً إلا عندما تكون البنية التحتية -الموانئ والمحطات ذات القدرة الفائضة، مثلاً- في مكانها الصحيح للسماح بالتحول. ويفتقر القطاع الخاص إلى الحوافز اللازمة للاستثمار في بنية تحتية كهذه، لأن حالات التعطل لا يمكن توقعها ولأن الشركات الخاصة لن تتحمل التكاليف الكاملة التي يتحملها المجتمع نتيجة لهذه التشوشات، لذلك يتعين على الحكومات أن تتدخل.
تعد ليتوانيا مثالاً على ذلك. قبل ما يقرب من عقد، بنت البلاد محطة عائمة للغاز الطبيعي المسال، أطلق عليها اسم “الاستقلال”. وسمحت المحطة للدولة البلطيقية بالحد من اعتمادها على الغاز الطبيعي الروسي والتفاوض على أسعار أفضل من “غازبروم”، لكن التشغيل التجاري للمحطة وحده ما كان ليبرر تكاليفها، ولا سيما لأنها تعمل في الأغلب بأقل كثيراً من طاقتها. ولم يمكن تمويل المحطة إلا بفضل ضمانات قروض وغيرها من أشكال المعونة المقدمة من الحكومة الليتوانية، فضلاً عن قروض مقدمة من البنك الأوروبي للاستثمار. ويعود هذا القرار بالاستثمار في البنية التحتية لأمن الطاقة بمنافع جمة اليوم، فهو مكن ليتوانيا من التحول إلى أول دولة أوروبية تتوقف تماماً عن استيراد الغاز الروسي بعد غزو بوتين لأوكرانيا.
كذلك تتطلع ألمانيا إلى الغاز الطبيعي المسال للحد من اعتمادها على الغاز الروسي. فلطالما شكلت روسيا المصدر الأرخص للغاز الطبيعي لألمانيا، ما دفع الأخيرة إلى زيادة وارداتها تدريجياً من الأولى، وإلى الحصول بحلول عام 2021 على أكثر من نصف الغاز الذي استخدمته من روسيا. والآن، ومن أجل جلب الغاز غير الروسي إلى البلاد، خصصت برلين ثلاثة مليارات يورو لدعم تطوير أربع محطات عائمة لاستيراد الغاز الطبيعي المسال. وسيكون لزاماً على الشركات والمستهلكين أن يدفعوا مبالغ إضافية لقاء الطاقة في المرحلة المقبلة، لكن الحكومة ستكون أنشأت البنية التحتية اللازمة لتمكين قاعدة أكثر تنوعاً من موردي الغاز الطبيعي.
هذه التحركات من جانب ليتوانيا وألمانيا تبني على الجهود التي بذلتها المفوضية الأوروبية أخيراً لضمان مزيد من المنافسة في أسواق الغاز، وتوفير تمويل مباشر لتحسين خطوط الأنابيب وللبنية التحتية للغاز الطبيعي المسال – هي استثمارات لم يكن لدى الشركات الخاصة وحدها الحافز الكافي لتوفيرها. ونتيجة لهذا، أصبحت سوق الغاز الطبيعي في أوروبا اليوم أكثر مرونة وقدرة على الصمود مقارنة بما كانت عليه الحال عندما خفضت روسيا تدفقات الغاز عام 2009.
وتعد المخزونات التي في حوزة الحكومات مثل احتياطي البترول الاستراتيجي الأميركي أداة أخرى لأمن الطاقة لا يمكن تحقيقها بواسطة السوق فقط (في أوروبا، لا تحتفظ العديد من الحكومات باحتياطيات، لكنها تلزم الشركات بدلاً من ذلك بالحفاظ على مستويات أعلى من الطبيعية من المخزون). وعلى الرغم من أن مخزونات كهذه من الممكن أن تساعد في تخفيف النواقص في الأزمات، فإنها تتطلب أيضاً بنية تحتية من غير المرجح أن تبنيها الشركات الخاصة بمفردها. مثلاً، ضخت إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن كميات هائلة من النفط من احتياطي النفط الاستراتيجي، لكن قدرة الحكومة على ضخ مزيد من النفط لتهدئة الأسعار العالمية محدودة بسبب نقص في الموانئ ومحطات الطاقة المتاحة. في الماضي لم تكن هذه القيود على البنية التحتية إشاعة، لكن طفرة الصخر الزيتي التي جعلت الولايات المتحدة دولة مصدرة صافية للطاقة زادت في شكل كبير من الطلب على حيز الموانئ، الذي يطالب به القطاع الخاص الآن في الأغلب. ولكي تتمكن المخزونات الحكومية من زيادة إجمالي المعروض العالمي بدلاً من أن تحل ببساطة محل براميل القطاع الخاص، المطلوب توفير موانئ ومحطات طرفية إضافية قد تشهد استخداماً محدوداً خارج أوقات أزمات الطاقة. ولأن الأساس المنطقي التجاري لعدم استخدام البنية التحتية إلا أحياناً، يتعين على الحكومات أن تؤدي دوراً في تطويرها، وفق توصية تقرير رئيس صدر عن وزارة الطاقة عام 2015.
وقد تحتاج الحكومات أيضاً إلى التدخل في أسواق الطاقة بما يتجاوز أسواق النفط والغاز، ذلك أن من المرجح أن تعاني المعادن الحيوية اللازمة لنجاح التحول في مجال الطاقة، مثل الليثيوم والنيكل والكوبالت، نقصاً في الإمدادات مع زيادة انتشار المركبات الكهربائية، وانتشار الطاقة الشمسية وطاقة الرياح والبطاريات وغير ذلك من أشكال البنية التحتية المنخفضة الكربون والخالية من الكربون. وتتمثل إحدى الاستجابات لذلك في استخراج مزيد من هذه المعادن. وحتى الآن، تتجنب الشركات الأميركية بشكل كبير إنتاج المعادن الحيوية ومعالجتها بسبب التكاليف البيئية المرتبطة بذلك وسهولة توفر المصادر الأجنبية، لكن بعد أن قررت إدارة بايدن أن العديد من هذه المعادن تشكل أهمية بالغة للأمن القومي، هي تقدم الآن الحوافز لتعزيز إنتاجها المحلي.
وقد تكون هناك حاجة أيضاً إلى مشاركة حكومية إضافية. ومن المفهوم أن يشعر المطورون في القطاع الخاص بتوتر إزاء تنفيذ استثمارات ضخمة قد لا تؤتي ثمارها قبل عقد أو أكثر، في حين تبذل جهود كبرى لإيجاد بدائل لهذه المعادن أو لإضفاء الطابع التجاري على إعادة تدويرها. قد تفكر حكومة الولايات المتحدة في ضمان أسواق كهذه، كما فعلت مع لقاحات “كوفيد-19″، للتأكد من إنتاج المعادن المهمة على نطاق أوسع.
ولا ينبغي للتدخل الحكومي لتعزيز أمن الطاقة أن يقتصر على الإعانات، والإعفاءات الضريبية، وغير ذلك من الحوافز. ومن الممكن أن تساعد الدبلوماسية أيضاً في تأمين إمدادات كافية من الطاقة في الأزمات. عندما واجهت أوروبا نقصاً في الغاز الطبيعي في الشتاء الماضي، مثلاً، أرسلت الولايات المتحدة مبعوثين إلى اليابان وكوريا الجنوبية، من بين أماكن أخرى، لإقناعهما بالتخلي عن بعض شحنات الغاز الطبيعي التي قد تتدفق بعد ذلك إلى أوروبا بدلاً منهما. كذلك شجعت الولايات المتحدة قطر على السماح ببيع غازها إلى مشترين أوروبيين، في معاملات إلى أطراف خارجية كثيراً ما كانت محظورة بموجب البنود المتعلقة بالمقاصد في العقود البعيدة الأجل.
انتهاء المهلة
ينبع فشل الأسواق الثاني الذي يستلزم تدخل الحكومة في أسواق الطاقة من الإطار الزمني القصير نسبياً الذي يتعين على العالم أن يحقق خلاله أهدافه المناخية. قد يكون مطلوباً إحالة الأصول النفطية والغازية الجديدة المطلوبة لضمان أمن الطاقة أثناء فترة التحول إلى التقاعد قبل أن تتمكن الشركات من تسديد ثمنها، ما الشركة التي قد تجازف برأس المال لتأمين الطاقة والتدفئة في الأجلين القريب والمتوسط في حين يتقدم واضعو السياسات بتعهدات متزايدة الطموح بإحالة البنية التحتية اللازمة إلى التقادم؟ بقدر ما تكون أي شركات على استعداد لتنفيذ هذه الاستثمارات، لا ينبغي لها أن تراهن ضد قدرة العالم على تحقيق أهدافه المناخية. وعلاوة على ذلك، لا ينبغي لاستثمارات كهذه أن تضع عقبات في وجه العمل المناخي من خلال تعزيز القوى الاقتصادية التي تعارض التقدم الأسرع لأنها تمتلك مصالح مالية خاصة في نظام الطاقة اليوم.
من الممكن لوضع سياسات إبداعية أن يساعد في تلبية احتياجات اليوم من الطاقة من دون تقويض التحول في مجال الطاقة غداً. قد تعين الحكومات، مثلاً، أنواعاً معينة من منشآت النفط والغاز باعتبارها “أصولاً تحولية” وتؤدي دوراً أكثر نشاطاً في مساعدة الشركات الخاصة على بنائها. فالأصول، مثل محطات إعادة التغويز وخطوط الأنابيب، التي نحتاج إليها اليوم لكنها معرضة إلى خطر الانقطاع عن العمل إذا تحقق هدف الانبعاثات الصفرية الصافية بحلول عام 2050، قد يكون مطلوباً منها أيضاً أن تصبح “جاهزة للتحول” -أي مبنية وهي مجهزة لتكنولوجيا احتجاز الكربون أو للوقود المنخفض الكربون مثل الهيدروجين والأمونيا- وقد تتحمل الحكومات بعض التكاليف الإضافية في السنوات الأولى.
وبدلاً من ذلك، تستطيع الحكومات أن تطور أدوات ابتكارية للتخطيط للتقادم. مثلاً، قد تفضل الحكومات السماح باستثمارات في البنية التحتية الهيدروكربونية بفترات تسديد أقصر، أو اشتراط أن يتضمن السماح وجوب دفع تكاليف خفض استخدام الأصول بعد فترة زمنية محددة، أو تقصير فترة التسديد من خلال خفض تكاليف رأس المال للشركات الخاصة في مقابل الحق في سحب الأصول بعد أن تعود الاستثمارات بعوائد معينة.
سيكون لزاماً على الحكومات أن تولي قدراً عظيماً من الاهتمام بتبني سياسات كهذه. ولا بد من أن يقتصر تدخل الحكومات على مشاريع هيدروكربونية تعتبر ضرورية لتلبية احتياجات أمن الطاقة في الأجل القريب. وينبغي على الحكومات تفضيل المشاريع ذات الاستخدامات الأكثر تنوعاً، مثل تلك التي يمكنها توفير طاقة نظيفة أو قد تعيد توجيه الطاقة إلى وجهات أخرى. وعلاوة على ذلك، يتعين على واضعي السياسات أن يقيموا بعناية المكونات التي يتألف منها قطاع النفط والغاز وتعد حقاً مناسبة للمشاريع الجاهزة للتحول، حتى لا تصبح المزاعم غير المختبرة بأن بعض مشاريع النفط والغاز من الممكن أن تصبح “جاهزة للهيدروجين”، مثلاً، ثغرة يمكن للشركات استغلالها. وأخيراً، يتعين على الحكومات أن تلزم مطوري المشاريع بتلبية أكثر معايير الانبعاثات صرامة -في ما يتصل بتسرب غاز الميثان، مثلاً- حتى تتمكن البنية التحتية من ترك أصغر بصمة كربونية ممكنة.
المسؤولية عن المشكلة
أصبح فشل الأسواق الثالث الذي يستلزم قدراً أعظم من التدخل الحكومي في سوق الطاقة الأكثر شيوعاً الآن: لا تتحمل الشركات الخاصة والأفراد التكاليف الكاملة التي يتحملها المجتمع في شأن ما يطلقونه من الكربون وغيره من الملوثات، لذلك يتعين على الحكومات أن تلزم المنتجين والمستهلكين بـ”استيعاب” هذه التكاليف، من خلال تسعير الكربون أو غير ذلك من الآليات. وتعد السياسة المناخية الحكومية الأقوى، بما في ذلك الضرائب على الكربون والإعانات والتفويضات والمعايير، ضرورية لتحقيق تخفيضات سريعة في انبعاثات الكربون. وكما أوضح أحدث تقرير صادر من هيئة الأمم المتحدة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ، ينفد الوقت اللازم لتجنب العواقب الأشد خطورة المترتبة على تغير المناخ. وإذا لم تخفض الانبعاثات بشكل فوري، فلن يكون من الممكن قصر ارتفاع درجات الحرارة العالمية على 1.5 درجة مئوية، وهي العتبة التي ستحدث فوقها أسوأ الآثار البيئية والصحية والاقتصادية وغيرها. ومع تزايد تواتر آثار تغير المناخ وشدتها، سيزداد إلحاح العمل الحكومي.
ليست قوى السوق وحدها قادرة على تحقيق اقتصاد منخفض الكربون بالقدر الكافي. وفي غياب قدر أعظم من التدخل الحكومي، سيترجم النقص الحقيقي والمتوقع في الغاز الطبيعي إلى قدر أعظم من استخدام الفحم، مثلاً، كما أظهرت الأزمة الحالية بالفعل. وربما كان هذا بمثابة استجابة مقبولة لانعدام أمن الطاقة في السبعينيات، عندما التزمت بلدان مجموعة الدول السبع بزيادة إنتاج الفحم والتجارة به في مواجهة نقص النفط، لكن الفحم باعتباره الوقود الكثيف الكربون أكثر من أي وقود آخر، لم يعد بديلاً مناسباً، حتى ولو كان بديلاً عملياً للغاز الروسي.
كذلك تسلط مشكلة حلول الوقود القذر محل الأنواع الأنظف في أوقات الاضطرابات الضوء على تحدٍّ أعظم: التحدي المتمثل في إيصال الطاقة المنخفضة الكربون إلى البلدان النامية التي تنمو احتياجاتها من الطاقة بسرعة. سيكون لزاماً على البلدان المتقدمة أن تساعد في جعل الاستثمار الخاص في الطاقة المنخفضة الكربون في البلدان النامية أقل مخاطرة. ومن أجل تحقيق الانبعاثات الصفرية الصافية بحلول عام 2050، يجب أن يصدر أكثر من 70 في المئة من الاستثمار في الطاقة النظيفة في الأسواق النامية والناشئة من القطاع الخاص، وفق وكالة الطاقة الدولية. ويتعين على الحكومات أن تبذل مزيداً من الجهد للمساعدة في حشد رأس المال. مثلاً، يمكن لمؤسسات مثل البنك الدولي ومؤسسة تمويل التنمية الأميركية إقراض المصارف المحلية بمعدلات فائدة قابلة للتحمل وتمويل المشاريع بالعملة المحلية وتوسيع توافر ضمانات القروض. ومن الممكن أيضاً أن تقدم هذه المؤسسات القروض إلى مطوري المشاريع في شكل مباشر. فرأس المال الصادر من مؤسسات تمويل التنمية من الممكن أن يقطع شوطاً طويلاً نحو تحفيز الاستثمار الخاص.
النبأ السار هو أن العديد من الإجراءات الحكومية اللازمة في الأجل البعيد للحد من الانبعاثات -ولا سيما من خلال خفض الطلب على النفط والغاز- من شأنها أيضاً أن تعزز أمن الطاقة. ويرجع هذا جزئياً إلى أن أمن الطاقة لا يأتي من إنتاج مزيد من النفط فحسب، بل أيضاً من استخدام قدر أقل منه. قبل 15 سنة، استوردت الولايات المتحدة ثلثي النفط الذي تستهلكه، عام 2021 صدرت كميات من النفط تفوق وارداتها منه. وعلى الرغم من هذا لا يزال الأميركيون عرضة إلى ارتفاع أسعار البنزين بالقدر نفسه عندما تتعطل الإمدادات العالمية من النفط. وعلى نحو مماثل، ستكون الأسر في أوروبا أكثر أماناً إذا استهلكت قدراً أقل من الغاز الطبيعي، سواء باستخدام بدائل أو بتطبيق قدر أعظم من الكفاءة في استخدام الطاقة. وهنا أيضاً تؤدي الحكومة دوراً: من الممكن أن تساعد الحملات الإعلامية والحوافز المقدمة إلى الاستثمارات المرتبطة بالكفاءة في دفع التغيرات التكنولوجية والسلوكية اللازمة للحفاظ على الطاقة أثناء الأزمات.
11 سبتمبر الأوروبي
من المرجح أن يمثل دور حكومي أكثر توسعاً سمة مميزة من سمات نظام الطاقة العالمي الجديد الذي سينشأ من الأزمة الروسية – الأوكرانية. وتماماً كما ترتبت على مزيد من التدخل الحكومي في أسواق الطاقة عواقب اقتصادية وسياسية وجيوسياسية عميقة في السبعينيات، سيكون نشاط كهذا تحويلياً اليوم – وإن لم يكن سلبياً، إذا أجري على النحو الصحيح. من الممكن أن تساعد مشاركة حكومية أكبر في مجال الطاقة والمناخ، إذا نظمت وأديرت على النحو اللائق، في تهدئة التقلبات في الأسواق، وتخفيف المخاطر التي ستنشأ حتماً من التحول في مجال الطاقة، وتقصير المسار إلى الانبعاثات الصفرية الصافية.
وبقدر ما تعزز هذه المشاركة أمن الطاقة، من الممكن، مثلاً، أن تقلل السياسات الحكومية الجيدة الصياغة من خطر ردود الفعل الشعبوية العنيفة، مثل احتجاجات “السترات الصفراء” في فرنسا، الموجهة ضد المبادرات المناخية. وعلى المنوال نفسه، من شأن مزيد من الخيارات في ما يتصل بمصادر الطاقة أن يقلل من النفوذ الجيوسياسي الذي قد يراكمه منتجو النفط والغاز التقليديون في الأجل القريب، قبل أن يكتمل التحول في مجال الطاقة. وكما حذرنا في هذه الصفحات في وقت سابق من هذا العام، إذا تركت الحكومات الغربية هذه القرارات للسوق سينتهي المطاف بالبلدان الموردة ذات التكاليف المنخفضة مثل روسيا وبلدان الخليج إلى إنتاج حصة أكبر من النفط والغاز على مستوى العالم أثناء فترة من عدة عقود سيهبط فيها الاستهلاك لكنه سيظل كبيراً. وقد تكون هذه الديناميكية إشكالية في شكل خاص إذا أدت الضغوط الرامية إلى الحد من الاستثمار في الوقود الأحفوري إلى انخفاض إنتاج شركات الطاقة الغربية حتى مع ارتفاع الطلب أو استقراره، لكن إذا كان بوسع الحكومات الغربية أن تيسر الاستثمار في الأصول التحولية، ستتمكن بمرور الوقت من تقليص الانبعاثات الكربونية وتقليل الاعتماد على المنتجين التقليديين الذين قد يستغلون التحول لتحقيق مصلحتهم الاقتصادية والجيوسياسية.
ومن الممكن أيضاً أن تحد الجهود التي تبذلها الحكومات لتأمين التمويل لمشاريع الطاقة النظيفة في الأسواق الناشئة من مجموعة أخرى من المخاطر: تلك الناجمة من الصدع المتزايد بين البلدان المتقدمة والنامية. وفي غياب تدابير كهذه، سيتواصل تفاقم استياء البلدان الفقيرة والمتوسطة الدخل من البلدان الغنية التي ترفض تمويل مشاريع الوقود الأحفوري في العالم النامي -حتى في حين تجهد لتأمين مزيد من النفط والغاز للتعويض عن خسائرها الناجمة عن الأزمة الحالية- الأمر الذي يعرض التعاون إلى خطر ليس فقط في ما يتصل بتغير المناخ، بل أيضاً في ما يتعلق بمسائل أخرى مهمة مثل الاستعداد للجوائح، وحل النزاعات، ومكافحة الإرهاب. فوقوع عبء المناخ الذي يتزايد احتراراً في شكل غير متناسب على البلدان نفسها التي تتحمل المسؤولية الأقل عن الانبعاثات العالمية لن يؤدي إلا إلى تفاقم مرارتها.
والأمر الأكثر أهمية هو أن التدخل الحكومي للتعجيل بخفض الانبعاثات الكربونية قد يعيق بعض نتائج تغير المناخ التي تخلف أسوأ العواقب الجيوسياسية والأمنية. وكما استنتج مجلس الاستخبارات الوطني الأميركي العام الماضي، يضخم تغير المناخ المنافسة الاستراتيجية على القطب الشمالي، ويذكي نار النزاع حول موارد المياه والهجرة، بل وربما يشعل شرارة أشكال جديدة من النزاعات الجيوسياسية مع اختبار البلدان من جانب واحد لمبادرات الهندسة الجيولوجية الواسعة النطاق ونشرها. ومن غير الممكن تحقيق خفض الانبعاثات المطلوب لمنع هذه النتائج من دون تحرك حكومي.
لا شك في أن مزيداً من التدخل الحكومي في أسواق الطاقة ليس مرغوباً دائماً. وكما أظهرت التجربة الأميركية في السبعينيات، ستبدد الحكومات التي تذهب بعيداً نحو التخطيط القومي أو السياسة الصناعية غير المقيدة المنافع الكثيرة للسوق الحرة. ولكي يكتب النجاح لواضعي السياسات يتعين عليهم أن يكيفوا سياساتهم بدقة للتعامل مع إخفاقات محددة في الأسواق. وكما كتب ألكسندر هاملتون، “في مجال الصناعة، لا بد بلا أدنى شك من ترك المشاريع البشرية بلا قيود بشكل عام، وغير مقيدة بقدر مفرط من التنظيم، لكن الساسة العمليين يدركون أنها قد تحفز في شكل مفيد بمساعدات وتشجيعات حصيفة من جانب الحكومة”.
وذهب بعض البلدان الأوروبية إلى ما هو أبعد مما ينبغي في استجابته للأزمة الحالية، فقد أقرت إسبانيا والبرتغال سقوفاً لأسعار الغاز الطبيعي التي تشكل جزءاً ضئيلاً من سعر السوق. واقترح بعض الديمقراطيين في الكونغرس الأميركي إجراء يحظر زيادات الأسعار خلال حالات الطوارئ الوطنية في مجال الطاقة التي يعلنها الرئيس. وكما يشير التاريخ الحديث، ستكون ضوابط الأسعار هذه هدامة.
في الاضطلاع بدور أكثر نشاطاً في أسواق الطاقة، يتعين على الحكومات أن تقاوم إغراء توجيه قطاعات الطاقة لديها على النحو الذي قد تفعله أولئك الحكومات التي تملك شركات وطنية. فالحكومة الأميركية، مثلاً، تخصص تصاريح للشركات التي ترغب في تصدير الغاز الطبيعي، لكنها لا تصدر توجيهات في شأن مقاصد هذا الغاز – قوى السوق تفعل ذلك. ويهدد اضطلاع الحكومة بدور أكثر نشاطاً لصالح بعض البلدان على حساب غيرها بتسييس تجارة الطاقة والحد من قدرة الأسواق العالمية على تخصيص الموارد بكفاءة.
ويتعين على الحكومات أيضاً أن تتوخى الحذر في الاعتماد في شكل مفرط على دبلوماسية الطاقة، ولا سيما دبلوماسية الطاقة التي تسعى إلى التأثير في ما ينبغي أن تكون عليه قرارات السوق في شأن شراء الطاقة وبيعها. كانت الجهود الأميركية الأخيرة الرامية إلى تحرير الإمدادات من الغاز الطبيعي المسال لصالح أوروبا من خلال تثبيط عمليات الشراء في آسيا مبررة في الأزمات، لكن لا بد من توخي الحذر في المرحلة المقبلة. يخاطر إدخال السياسة في الأمور التجارية بخلاف ذلك بتقويض إيمان الشركاء التجاريين للولايات المتحدة بقدسية العقود البعيدة الأجل، ما قد يضر في النهاية بالشركات الأميركية، أو يقوض الاستثمار، أو يجازف ببذل جهود انتقامية لتسييس التجارة في بضائع وخدمات أخرى.
ومن بين الأمور المحفوفة بالمخاطر أيضاً الجهود الحكومية العدوانية الرامية إلى تحقيق أمن الطاقة من خلال الانفصال عن اقتصاد الطاقة العالمي. بعض أعضاء الكونغرس الأميركي، الذين لاحظوا أن الولايات المتحدة تصدر الآن من الطاقة أكثر مما تستورد، يؤيدون الحد من الصادرات الأميركية من النفط والغاز لتلبية الاحتياجات الأميركية من الطاقة أولاً. ومن المرجح أن تأتي إجراءات كهذه بنتائج عكسية، من شأنها أن تقوض أمن الطاقة فضلاً عن التجارة الحرة. ومن الممكن أن يجلب تنويع مصادر الإمداد من خلال تحفيز الإنتاج المحلي للسلع منافع، لكن الأمر يصح أيضاً على الاندماج في سوق للطاقة تتمتع بإمدادات جيدة ومرونة. وقد يبدو الاكتفاء الذاتي من الطاقة وكأنه طريق إلى الأمن، لكنه سيكون غير فاعل إلى حد كبير وسيفرض تكاليف غير ضرورية. كذلك قد يبقي الولايات المتحدة من دون الروابط العالمية الضرورية في مجال الطاقة لتلبية الطلب في حال حدوث أزمة في المستقبل أو انخفاض في إنتاج الصخر الزيتي في الولايات المتحدة.
وأخيراً، يتعين على الحكومات أن تتجنب تأجيج الانقسامات الحزبية الداخلية، التي أصبحت عميقة بالفعل في الولايات المتحدة في ما يتصل بمسألة دور الحكومة. في الأعوام المقبلة، يعد عدد متزايد من المقترحات التشريعية الرامية إلى تعزيز أمن الطاقة، وتسهيل الانتقال إلى الانبعاثات الصفرية الصافية، والتعامل مع تغير المناخ بمزيد من نقاط الخلاف السياسي والتشاحن الحزبي. لذلك، يتعين على زعماء أميركا أن يبذلوا جهوداً متضافرة لبناء تحالف شامل للحزبين وواسع القاعدة لدعم هذه التدابير، تحالف يضم الجميع من حماة البيئة إلى قطاع النفط والغاز. قبل عقدين، كان هناك تحالف غريب آخر، قبل طفرة الصخر الزيتي، عندما استوردت الولايات المتحدة كميات ضخمة من النفط من مناطق غير مستقرة في بعض الأحيان شكلت تهديداً للأمن القومي، فقد نجحت مجموعة واسعة من المصالح، بدافع من حجج مختلفة، في دفع الولايات المتحدة إلى استهلاك كميات أقل من النفط. واليوم بات من الممكن بناء تحالف مماثل حول الحاجة إلى استراتيجية متكاملة تضمن أمن المناخ وأمن الطاقة.
أطلقت أوروبا على الحرب الروسية في أوكرانيا وصف 11 سبتمبر (أيلول) الأوروبي. ولقد أدت الهجمات الإرهابية التي وقعت في ذلك اليوم إلى نظام أمني جديد هيمن على الساحة الدولية لـ20 سنة ولا يزال سمة مهيمنة في الشؤون العالمية. ومن ضمن تركة حرب أوكرانيا سيكون نظام جديد في مجال الطاقة، ينشأ في أوروبا لكن يؤثر في أبعد أطراف الاقتصاد العالمي. وسيتحدد هذا النظام وفق الضرورتين المزدوجتين المتمثلتين في أمن الطاقة والعمل المناخي. سيتطلب العمل على تحقيقهما في الوقت نفسه، من دون السماح لأحدهما بالتضحية بالآخر، تسخير قوة الأسواق، لكن ذلك سيتطلب أيضاً اضطلاع الحكومة بدور أكثر توسعاً في دعم هذه الأسواق وصياغتها وتوجيهها، وتصحيح الإخفاقات التي أبرزتها إلى حد كبير أزمة اليوم. وفي غياب التدخل الحكومي، المصمم والمقيد لكن المعزز على الرغم من ذلك، سيعاني العالم انهياراً في أمن الطاقة أو أسوأ الآثار المترتبة على تغير المناخ – أو الأمرين معاً.
.
رابط المصدر: