عصام العدوني
إن التفكير والتأمل في الحداثة بملفوظاتها ومعانيها، بأضدادها ومتناقضاتها، بإنجازاتها وإخفاقاتها، في مجتمعاتنا، يقتضي أن يكون حذراً لدرجة كبيرة، وغير منساق وراء الظواهر البراقة والباهرة، أو المقولات الرائجة كمقولة “نهاية التاريخ” و”أفول الثقافة” وولوج عصر “الكوكبة” و”الليبرالية السياسية”؛ فلا يتعلق في هذه المسألة بقضية علمية محضة أو أكاديمية يتم الحجاج حولها بالأدلة والبراهين العقلية، أو ما سماه هابرماس بدعاوى الصلاحية، حيث تكون الموضوعية والحقيقة التامة غائبتين حين التفكير في مسائل الحداثة وإشكالاتها، وكل ما يمكن استنتاجه لا يعدو أن يكون ارتباطات مؤقتة ومتغيرة واحتمالية وذات طابع تاريخي.
يتعلق الأمر إذن بمسألة معقدة ومصيرية تحدد وترهن حاضر ومستقبل الدول والمجتمعات والشعوب، ويتداخل في بنيانها العلم بالإيديولوجيا، والحقيقة بالمصلحة، والاقتصاد بالسياسة… فنحن إذن أمام تشكيلة خطابية معرفية شاملة، أي نظام من الملفوظات والخطابات والمعاني والمنظومات الرمزية التي تنتج رؤى شاملة حول العالم والوجود والإنسان. وبهذا المعنى فالنظام المعرفي للحداثة مصحوب بالسلطة والقوة والمصلحة، ومن ثم بالإيديولوجيا، لكنها إيديولوجيا من نوع خاص، فهي ليست وعياً مغلوطاً ومزيفاً لحقيقة موضوعية خارجية تجسدها صراعات الطبقات والثقافات والأدوار والقيم والأفكار؛ إنها بالعكس وعي عالم (بكسر اللام) إن شئنا القول، أي واع بذاته وبخلفياته ورهاناته. إنه خطاب معرفي واع بذاته، يرسم أهدافاً ويحدد الوسائل اللازمة لبلوغها، والتي هي في جميع الأحوال أهداف تتماثل مع مجموعة عرقية وجغرافية وحضارية انتصبت على قمة ترتيب الأمم من جراء امتلاكها لموارد الثروة والقوة والنفوذ؛ وهذه المجموعة الحضارية هي ما اصطلح على تسميتها اختصاراً بالغرب الحديث أو الحداثي. إن هذه الإيديولوجيا تحضر كـ”قناع لمصالح فئوية إذا نظرنا إليها في إطار مجتمع آني، وهي نظرة إلى العالم والكون إذا نظرنا إليها في إطار التسلسل التاريخي”[1]، والمعنيان معاً نجدهما حاضرين في صلب الحداثة، حيث يتداخل في بنيانها الوعي باللاوعي والقناع بالنظرة للكون، وكلاهما يسم الحداثة بما هي عليه وبالصورة التي قدمت من خلالها نفسها للآخر. فالحداثة كالإيديولوجيا هنا؛ تقدم نفسها كـ”منظومة فكرية تعبر عن الروح التي تحفز حقبة تاريخية إلى هدف مرسوم في خطة التاريخ العام. فينظر إلى الإدلوجة انطلاقاً من التاريخ كخطة واعية بذاتها”[2]. إن “عقل الحداثة عقل أداتي، والمعرفة الحداثية معرفة تقنية… فهي إضفاء الطابع التقني على الثقافة ككل، وهي لا تكتفي بالحط من قيمة الفضاء الثقافي كله، وتتحول إلى ثقافة وإيديولوجيا بل إلى ميتافيزيقا أيضاً”[3].
بهذا المنظور قدمت الحداثة نفسها للعالم، ومن خلال هذه الصورة تم تأويلها والتحاور معها، فهي تأبى أن تكون واقعة تاريخية لها زمنيتها ومكانيتها الخاصة، أو ملفوظاً خطابياً له بنيته المفاهيمية وسياقه الدلالي والتاريخي كغيره من الملفوظات، وبهذا المعنى فهي غير محايدة ولا موضوعية، وغير عادلة، حتى وإن تلبست برداء العلم والعقلانية. إنها حين تحمل على عاتقها مهمة رسولية تحريرية تصبح معيارية بدرجة ما، بمعنى أنها تهتم بتوجيه الكائن نحو النموذج الذي تتصوره وتريده هي، ومن ذلك على سبيل المثال نقله من الطبيعة إلى الثقافة، من الهمجية إلى الحضارة، من الغريزة إلى العقل، من الهولية إلى الفردانية، من الفاقة إلى الرفاهية، من الاستبداد إلى الديمقراطية… لكن خلف هذه الصورة الجميلة المفعمة بنزعة إنسية تحريرية يختبئ الشيطان وتطفو إرادة السيطرة والتفوق. هذه هي إيديولوجيا الحداثة كنظرة إلى العالم والوجود، والتحديث كتجسيد تاريخي عملي لمقولاتها في أراضٍ غير أراضيها وتضاريس غير تضاريسها، وهي منبثة ومندسة في كل الخطابات حتى العلمية منها، وإن كان هناك من فرق فهو في الدرجة لا في النوع، حيث في ثناياها ينغمس الفكر والعلم بإرادة القوة والمصلحة بما هي إرادة سيطرة وتحكم.
إن الحداثة المزهوة بفتوحاتها العقلية والعلمية ستقدم نفسها لشعوب العالم على أنها نظام متجانس من الحقائق والمسلمات التي لا مجال لدحضها أو التنكر لها، فهي الفضيلة وقد تجسدت في العالم الأرضي، وهي الحرية وقد تحققت في التاريخ، وهي سلم التقدم التاريخي الذي يلزم صعوده من طرف كل الأجناس البشرية.
لكنها بدعاويها تلك تهاوت في لحظات معينة وفي فلسفات وخطابات متعددة إلى اللاتاريخية واللاإنسية والهمجية… فرغم تسليمها بالتاريخانية كمرتكز للفهم والتحليل وبناء معنى العالم ورسم مساراته، سرعان ما تنكرت لها حينما أعلنت تجميد حركة التاريخ في عتبة ما، في مرحلة معينة، في فكرة ما، وفي ذلك يشترك هيجل وماركس وفوكوياما…
لقد بشرت بإنجازات العقل العملي وسيطرته على الطبيعة وتطويعها لخدمة الإنسان وتحقيق التنمية والرفاهية، كما ادعت تحرير المجتمعات من التقاليد والأوهام والمعتقدات الدينية التي تمارس عليها الحجر والوصاية، ورمت المنظومات الثقافية والمعتقدات والأديان والتمثلات الجمعية في سلة واحدة، ودعت إلى علمنة كل مجالات الحياة وعدم قبول أي مبدأ متعالٍ في التفسير والتحليل، وأعادت رد السلطة إلى طبيعتها البشرية، ونظرت إلى الدولة على أنها مؤسسة سياسية تاريخية واقعية، وأزالت عنها كل صفات القداسة والألوهية، التي كانت خلال عصور طويلة بمنزلة دعامة الاستبداد والتسلط والحجر، فالأمير لم يعد خليفة الله أو ظله في الأرض، وربطت بين المواطنة والخضوع لسلطة الدولة/ الإقليم التي لم يعد ينظر إليها على أنها تجسيد لحق إلهي، أو تقليد ثقافي معين، وإنما على أنها تنظيم وترتيب تعاقدي زمني للعلاقات بين الأفراد والمجموعات، وفوضت لها حق احتكار المشروعية بقوة العقلانية، وليس بالكاريزما أو التقاليد أو الدين، فابتكرت مفاهيم السيادة الشعبية والمواطنة والمساواة.
بالمقابل كشف تطور الأفكار والأحداث، سواء في منطقتنا أو في باقي المعمورة، أنها حداثة ناقصة، غير مراقبة، جامحة ومكتسحة؛ لقد تجاهلت وقللت من آثار وتداعيات ومآزق هذه الاندفاعة القصوى للتقنية والعقلنة، فنتج عن ذلك زعزعة الثقة في مشروع الحداثة ذاته، وارتداده في كثير من الأحيان إلى دعاوى إيديولوجية تقلص أفق الفعل الإنساني وترهنه بمشروع الحداثة لا غير. لقد كان لوقائع التاريخ والسياسة والثقافة رأي مخالف لدعاوى الحداثة، فقد أدت صيرورة الاحتكاك والتفاعل والمثاقفة داخل الكيان الداخلي للحداثة، أي في بيئتها الخالصة؛ أو بينها وبين الجغرافيات التي اكتسحتها، إلى تقاطبات وتعارضات ليست باليسيرة، كانت أقصى تمظهراتها عنفاً الدخول في مواجهات وحروب مادية وفكرية، سواء في الداخل أو الخارج.
لقد كان الفضل والجرأة للعديد من هذه الخطابات النقدية في لفت الانتباه إلى النتائج الكارثية التي وصلت إليها دعاوى الحداثة (استعمار، حروب، استغلال اقتصادي، تدمير الطبيعة والثقافة، أسر الإنسان، إلخ). فقد جرد العقل الأداتي الإنسان من ذاتيته، وحوله إلى شيء/سلعة، أو بالأحرى إلى موضوع سلبي تتحكم فيه مقولات مجردة (العقل، التقدم، الطبيعة، العلم)؛ وأنساق شمولية يجمعها لفظ المجتمع (بنيات، أدوار نمطية، أنماط تكيف، أنظمة مراقبة)؛ وتحولت المعارف التي أفرزتها الحداثة بدورها إلى أدوات للمراقبة الدولتية والسياسية، وساهمت في مشروع “المراقبة والهندسة السلوكية” للإنسان على حد وصف هابرماس، وأصبحت الحداثة الغربية بحق فلسفة للبيوسلط (Bio- pouvoir) أي المعرفة التحكمية والتحكيمية التي تمارس على العقول والأجساد والوظائف الجنسية بغايات تشريحية-سياسية.
وباستعارة التحليلات المتميزة لعالم الاجتماع الفرنسي، ألان توران، يمكن الخلوص إلى أن الحداثة بنمطها المعرفي الصناعي/التقني قد بلغت ذروة أزماتها الفكرية والإيديولوجية؛ فقد انهار “معنى التاريخ”، أي الاعتقاد الغائي غير التاريخي للتاريخ، سواء كان هذا الاعتقاد هو التطور أو التقدم والرفاهية الإنسانية، أو زوال الطبقات واضمحلال الدولة، أو انتصار الديمقراطية والليبرالية؛ كما خفت بريق العقلانية والوضعية والعلموية، حيث فتحت كشوفات الإثنولوجيا والسوسيولوجيا واللسانيات والتحليل النفسي شروخات كبيرة في خطاب العقلانية الصناعية أدت إلى تحجيم وزن النفعية والتايلورية والاقتصادوية التطورية والبنيوية الوظيفية، وابتكار أنماط معرفية جديدة محركها الأساسي الاعتقاد بقدرة المجتمعات على إنتاج تاريخيتها أي “توجهاتها المعيارية الخاصة بها بدل تلقيها من طرف نظام أو حركة تتعالى عليها”[4].
كذلك فقد تعمقت الشكوك والشروخ في إيديولوجيا الحداثة ذاتها التي كان “موضوعها المركزي هو تماثل الفاعل الاجتماعي مع أفعاله، إنتاجاته، سواء بواسطة انتصار العقل العلمي والتقني أو بواسطة الإجابات العقلانية من طرف المجتمع تجاه حاجيات ورغبات الأفراد”[5].وأصبحنا في مرحلة تتميز بالنقد والتنديد والتشكيك في كل الخطابات والسلط والمؤسسات الثقافية والسياسية دون القدرة على إنتاج بدائل تستطيع تعبئة الفاعل في مشاريع ثقافية واضحة، مع ما يصاحب ذلك من إحساس “بالفراغ الاجتماعي والخوف من تدمير العلاقات الاجتماعية”[6].
وختاماً، فإن الحداثة في تأرجحها بين وجهها الإيجابي والسلبي قد نجحت في فرض نفسها علينا رغماً عنا، بحيث صرنا لا ننظر إلى مقوماتنا الذاتية إلا في ضوء ما تفرضه علينا من رهانات وتحديات. فبين مندهش لا يعرف بأي شيء ابتلي، وبين رافض ومكتفٍ بمنظومته التفسيرية التي ورثها عن الأسلاف ولسان حاله يكرر: “هذا ما وجدنا آباءنا عليه”، و”ما يصلح به الخلف هو ما صلح به السلف”، و”العلم والتقنية هي أعمال سحر وشيطنة”… وبين مجرب متقبل ومنخرط ومتحمس لها، ولسان حاله “أن قطار الحداثة يسير سواء قبلنا ذلك أو أبينا، وأنه لا خيار أمامنا سوى ركوبه لنكون من الناجين في أي مرتبة كانت”. فبين ثنايا كل هذه المواقف والردود والتفاعلات عاشت الحداثة وتعايشت وأرغمت الجميع على التفاعل والتحاور معها، والأمر سيان في بيتها الداخلي ولدى أبناء جلدتها، أو في ثقافات بعيدة لا تعرف الكتابة وتعيش على نمط الكفاف، على حد تعبير كلود ليفي ستروس، أو حتى في تشكيلات عرفت الدولة والبنيان السياسي وأبدعت الثقافة والفكر وأنتجت الحضارة والعمران وأوصلته إلى العالمية، كما هو حال حضارتنا العربية الإسلامية. بين هذا وذاك فرضت الحداثة نفسها على وعينا وعلى لاوعينا، فأصبح محكوماً عليه أن يعيش شقاوته إلى أجل غير مسمى.
[1] عبد الله العروي، مفهوم الأيديولوجيا، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء/بيروت، ط 6، 1999، ص 53
[2] نفس المرجع، ص 103.
[3] محمد سبيلا، الحداثة وما بعد الحداثة، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، المغرب، ط1، 2000، ص 9.
[4] Touraine. A « La voix et le regard » Seuil, 1978, rééd le livre de Poche, Biblio Essais, Paris, 1993, P 28.
[5] Touraine. A « Critique de la modernité », Ed Fayard, 1992, P 45.
[6] Touraine. A « La Voix et le Regard », Idem, P 31.
.
رابط المصدر: