تعتبر مصر الدولة الوحيدة التي تمتد جغرافيتها بين قارتي أفريقيا وآسيا، مما أوجد نوع من السعي الدؤوب للقاهرة لتنويع علاقاتها وتعزيز تعاونها مع الدول الآسيوية لما تمثله هذه الدول من نماذج اقتصادية ناجحة استطاعت فرض نفسها على الساحة الدولية عن طريق زيادة الإنتاجية الذاتية، إضافة لكون مصر تمتلك جذورًا ترتبط بالهوية وتحتم عليها التوجه ناحية الشرق في آسيا.
في هذا السياق، انطلق بالأمس اجتماع على مستوى وزراء خارجية مصر والهند في القاهرة في زيارة تعد الأولى من نوعها لوزير الخارجية الهندي “أمنيام جايشكنار” إلى مصر، الزيارة التي شهدت في يومها الثاني استقبال السيد الرئيس عبد الفتاح السيسي لوزير الخارجية الهندي عكست عمق العلاقات بين البلدين اللذان يبنيان سياساتهما الخارجية وفقًا للالتزام بمبدأ الحياد.
علاوة على أن القاهرة تنظر لنيودلهي باعتبارها عاصمة لإحدى أعرق الأمم تاريخيًا على مستوى العالم، مع استمرار إسهاماتها الكبيرة في محطيها الإقليمي والدولي، في الوقت الذي تستهدف فيه الهند الوصول بعلاقاتها مع مصر لمستوى الشراكة الاستراتيجية، كون القاهرة تمثل ركيزة استقرار في منطقة الشرق الأوسط وبوابة عبور للهند لتعميق علاقاتها مع القارة الأفريقية. وهو ما يدفع البلدين لتنويع العلاقات على أصعدة مختلفة والوصول بها إلى مستوى من الشراكة الاستراتيجية تضمن مصالح البلدين.
توقيت الزيارة
تأتي زيارة وزير الخارجية الهندي للقاهرة، في وقت تستمر فيه تداعيات الأزمة الروسية الأوكرانية على مجالات الأمن الغذائي والطاقة، مما يتطلب من الدولتين محاولة تأمين احتياجاتهما بما يضمن مصالح الشعبين وكذلك المصالح المشتركة، وذلك بالنظر لأن القاهرة ونيودلهي اتخذتا موقف متقارب من العملية العسكرية الروسية على أوكرانيا والذي كان أقرب للحياد أكثر من أي شيء آخر.
وقد مثلت الهند بديلًا مهمًا للقمح الروسي والأوكراني الذي تعد مصر المستورد الأكبر له عالميًا، في وقت استعار الأزمة وفرض حظر على تصدير القمح قبل التوصل لصفقة بوساطة تركية تم استئناف تصدير الحبوب على أساسها، واتفقت مصر في وقتها على شراء 500 ألف طن من القمح من الهند، وكان ذلك استباقًا لقرار حظر التصدير الذي فرضته نيودلهي في وقت سابق حيث كانت الهند قد قررت حظر صادراتها من القمح، وسط ارتفاع الأسعار المحلية وموجة الحر الشديدة التي أدت لتضرر الإنتاج.
وعلى مستوى التوقيت كذلك، تأتي الزيارة في وقت تستعد فيه مصر لاستضافة قمة المناخ في نوفمبر القادم في مدينة شرم الشيخ، حيث يمثل الحضور الهندي أهمية خاصة نظرًا لكون نيودلهي من أكثر الدول التي تستخدم طاقة الفحم وتتسبب في الانبعاث الكربوني، وكان حضورها العام الماضي مؤثرًا خصوصًا أنها أعلنت عن خطتها للحياد الكربوني لعام 2070، وتستهدف الهند من دعمها لمصر إلى توجيه المزيد من الدعم لدول الجنوب التي تعاني من تأثيرات سيئة لأزمة المناخ، خصوصًا أن الأزمة الاقتصادية التي نجمت عن الحرب الروسية الأوكرانية، لها انعكاسات على قدرة الدول على الانتقال من الاعتماد على الطاقة الأحفورية إلى الطاقة النظيفة والمتجددة، مما أثر بالتبعية على نطاق الاستثمارات وتوجه الاقتصاد العالمي.
وعلى صعيد توفير مصادر الطاقة البديلة ضمن استراتيجية مصر للمناخ، استفادت مصر من الخبرات الهندية في مجال الطاقة الشمسية، وهو ما اتضح بقوه في الشراكة المصرية الهندية في إنشاء مشروع مزرعة بنبان للطاقة الشمسية في أسوان لتكون أكبر تجمع لمحطات شمسية في العالم
رؤية مصر للتكتلات الإقليمية والتعاون الاقتصادي
مثلت الدول الآسيوية تجارب ناجحة على مستوى التكتلات الاقتصادية، ومن هنا كان سعي القاهرة لأن تكون جزءًا من تكتلات عالمية ذات طابع اقتصادي لما يمثله من ثقة في قدرة الدولة المصرية على النهوض بقطاع الاقتصاد لديها، وفي الآونة الأخيرة تم طرح الرغبة المصرية في أن تكون جزءًا من مجموعة البريكس، وهو تحالف اقتصادي يضم البرازيل وروسيا والهند والصين تم تأسيسه في عام 2006، وانضمت جنوب إفريقيا إلى التحالف عام 2010.
ويُعد منتدى بريكس منظمة دولية مستقلة تعمل على تشجيع التعاون التجاري والسياسي والثقافي بين الدول المنضوية بعضويته، مع الأخذ بالحسبان أن البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب إفريقيا، يمثلون ما يقرب من ربع الاقتصاد العالمي وساهموا بأكثر من نصف النمو العالمي في عام 2016، وتنتج تلك الدول 30% مما يحتاجه العالم من السلع والمنتجات فيما يمثل تعداد مواطنيها 40% من تعداد العالم. وقد تبنت دول البريكس العديد من المبادرات لدعم التعاون فيما بينها في المجالات المختلفة، منها تأسيس بنك للتنمية برأسمال 100 مليار دولار لتمويل مشاريع التنمية في الدول الأعضاء.
ونبقى في الإطار الاقتصادي الذي يترجم من خلال المساعي المصرية لتعميق علاقاتها بالهند، لما تتمتع به من تطور تكنولوجي يمّكن مصر من الدخول لآفاق جديدة في عالم الاقتصاد، ومن ناحية أخرى يمثل السوق المصري أحد أهم وأكبر الأسواق في القارة الأفريقية، وهو ما يجعل منها جاذبة للاستثمارات الآسيوية.
وتعد الهند السوق العاشرة من حيث ترتيب الصادرات المصرية على مستوى العالم، وعلى الجانب الآخر تعتبر نيودلهي عاشر أكبر مُصدر لمصر بحلول نهاية عام 2018، حيث وصل حجم التبادل التجاري لحوالي 4 مليارات دولار فيما تستهدف زيارة وزير الخارجية الهندي رفع مستوى التبادل إلى 7 مليارات دولار. ووفقًا لبيان صادر عن السفارة الهندية في القاهرة فإن الصادرات المصرية للهند زادت بنسبة 63% خلال عام 2021.
ومنذ عام 2014 شهدت مصر استثمارات ما يقرب من 20 شركة هندية في مصر، تركزت في مجالات السيارات النقل والهواتف الذكية وتكنولوجيا المعلومات، كما إنه هناك ما يقرب من 7 مشروعات تنمية تقدمت بها الحكومة المصرية للاستفادة من خط الائتمان الذي تقدمه الحكومة الهندية ويبلغ قيمته 10 ملايين دولار، وفى شهر أبريل 2018، تم الموافقة على 20 مشروعًا تتضمن التعاون في المجال التكنولوجي وأبحاث النانو تكنولوجي وتصنيع البلازما بين البلدين، وكذلك تحتل الهند المرتبة 36 في ترتيب الدول المستثمرة في مصر، إذ يبلغ حجم مساهمة الاستثمارات الهندية 159.4 مليون دولار، كما يبلغ عدد الشركات الهندية المستثمرة 372 شركة والتي تستوعب حجم عمالة مصرية يقدر بحوالي 15 ألف عامل وحجم عمالة أجنبية يقدر بحوالي 1200 عامل، ومن أبرز القطاعات المستثمَر بها: قطاعات البتروكيماويات والغزل والنسيج والخدمات والسياحة والنفط والغاز.
التعاون العسكري بين مصر والهند
في سبتمبر من العام الجاري، أجرى وزير الدفاع الهندي راجناث سينغ، زيارة إلى القاهرة لبحث تعزيز العلاقات العسكرية وتعميق التعاون في الصناعات الدفاعية بين البلدين. ووفق بيان للرئاسة المصرية الصادر في وقتها، فقد شهد اللقاء بحث سبل تعزيز التعاون العسكري والأمني بين القاهرة ونيودلهي، خاصة ما يتعلق بالتعاون في التصنيع المشترك ونقل وتوطين التكنولوجيا، بهدف استغلال الإمكانات والبنية التحتية المتاحة لدى البلدين، فضلًا عن التعاون في مجال التدريب والتأهيل والتدريبات المشتركة، وتبادل الخبرات والمعلومات.
ويعكس ذلك رغبة البلدين في التعامل في مجالات مكافحة الإرهاب بالدرجة الأكبر، وسبق أن استضافت مصر عام 2018، الاجتماع الثاني لمجموعة العمل المشتركة بين القاهرة ونيودلهي لمكافحة الإرهاب الدولي، ويحسب لهذا التوجه المصري نحو تعميق التعاون العسكري مع دول آسيوية، أن مصر لم يسبق أن اتبعت سياسة إيجابية نشطة ذات نطاق إقليمي وعالمي في آن واحد، مثلما تنخرط الآن في مختلف القضايا الدولية والإقليمية، حيث خرجت القاهرة بسياساتها الخارجية من حيز الدوائر التقليدية إلى دوائر جديدة كليًا، ولعل تطور العلاقات المصرية الهندية حاليًا مثالًا على نتائج تلك الانطلاقة غير التقليدية .
وقد شملت الشراكة العسكرية بين البلدين، إجراء مناورات تدريبية على مستوى رفيع وجاءت زيارة وزير الدفاع الهندي في سبتمبر الماضي لتعزيز الشراكة الدفاعية المتنامية بين البلدين، على مستوى التصنيع المشترك للأسلحة وخاصة الطائرات والذخائر المتنوعة، وتبادل الخبرات الأمنية والعسكرية وبحث توطين الصناعات الدفاعية بوجه عام، لا سيما وأن البلدين لديهما خبرات متعددة في هذا الصدد.
ختامًا، ما يمكن استنتاجه من التحركات المصرية على مستوى السياسة الخارجية، هو أن القاهرة تتجنب تحديد علاقاتها وشراكاتها وذلك على المستويات السياسية والاقتصادية والعسكرية، وهو ما يعكس رشادة في اتخاذ القرار والنأي بالقاهرة عن التكتلات والتحزبات غير المجدية إلى آفاق أوسع، بهدف جعل مصر رقمًا في كافة المعادلات الإقليمية والدولية على أساس الوقوف على مسافة واحدة من الجميع، والتحرك وفقًا لمقتضيات المصلحة القومية والقانون الدولي.
.
رابط المصدر: