نفوذ متنامٍ: أبعاد ومجالات التعاون الإسرائيلي الإثيوبي

تحظى إسرائيل وإثيوبيا بعلاقات تاريخية ممتدة، تعكس طبيعة المكانة التي تحتلها إثيوبيا كنافذة إسرائيلية على القارة الأفريقية من جهة، ودولة محورية ضمن التفاعلات الإقليمية في منطقة القرن الأفريقي والبحر الأحمر. وفي ظل التحولات الاستراتيجية في منطقة البحر الأحمر، يحافظ الجانب الإسرائيلي على تعميق الصلات مع إثيوبيا في أبعادها الاقتصادية والاستراتيجية، بما يسهم في تعزيز مستقبل الحضور الإسرائيلي في أفريقيا بوجه عام، وفي معادلة أمن البحر الأحمر بوجه خاص. من هذا المنطلق، تحاول هذه الورقة رصد أبرز التحركات الإسرائيلية، في ذلك التوقيت الحرج من التحولات الإقليمية، في ضوء العلاقات الثنائية المتراكمة بين الطرفين، على نحوٍ يعكس أهمية إثيوبيا في السياسة الإسرائيلية إزاء أفريقيا، والتي لا تزال تمثل شريكًا جذابًا، في خطة الانفتاح الإقليمي، في مرحلة ما بعد حرب غزة.

تمثل إثيوبيا مدخلًا رئيسًا ونافذة لإسرائيل على القارة الإفريقية بوجه عام ومنطقة شرق إفريقيا والبحر الأحمر بوجه خاص، والتي تشكل دوائر اهتمام إسرائيلي، ضمن سياسة التطويق وشد الأطراف في محيطها العربي. فكانت إثيوبيا ركيزة أساسية ضمن ركائز الحضور الإسرائيلي في البحر الأحمر تقليديًا، مما يعكس الضرورة الاستراتيجية أمام إسرائيل لتعزيز تواجدها التقليدي في إثيوبيا، في ضوء معادلة التحولات في منطقة الشرق الأوسط والبحر الأحمر، نظرًا لما يربط بينهما من رؤية مشتركة متصلة بالتطلعات والتحديات المشتركة ، سواء تلك التطلعات المتعلقة برغبة كليهما في المشاركة بفاعلية في معادلة أمن البحر الأحمر، أو تلك التحديات المرتبطة بالتهديدات الأمنية لحركة الشباب بالقرن الإفريقي والحوثي باليمن، خاصة بعد تصاعد تهديد الأخيرة لحركة التجارة بالبحر الأحمر بشكل عامٍ وللسفن الإسرائيلية بشكلٍ خاص، مع تنامي المؤشرات على الارتباطات التي تحكم الحركتين المهددتين للأمن الإقليمي.

وإلى جانب حماس وحزب الله، مثّل استهداف الحوثي عبر البحر الأحمر دافعًا للتمسك الإسرائيلي بلعب دور في صياغة معادلة البحر الأحمر، والذي كشف عنه قصف الحوثي لتل أبيب يوم 19 يوليو 2024، مما استدعى رد تل أبيب بقصف ميناء الحديدة، في ضوء التوتر الإقليمي المتصاعد، والذي مسّ بمعادلة أمن البحر الأحمر.

ويرتبط الاهتمام الإسرائيلي بالبحر الأحمر باهتمامها الأوسع للتأثير الإقليمي؛ ففي شرق المتوسط تنشط إسرائيل في قبرص للتأثير على معادلة حزب الله اللبناني في المنطقة. وبالمثل، تولي اهتمامًا بمنطقة القرن الإفريقي والبحر الأحمر، في إطار المواجهة مع وكلاء إيران في المنطقة، التي باتت تشهد تصاعد الحضور الإقليمي والدولي، للاستثمار في الموانئ وإقامة القواعد العسكرية.

وفي أحدث ملامح التقارب، المؤتمر الصحفي الذي جمع وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر بنظيره الإثيوبي جدعون تيموثيوس، يوم الأربعاء 12 مارس 2025؛ إذ أكد “ساعر” خلال اللقاء أهمية تعزيز التعاون العسكري بين البلدين، “نظرًا للتهديد المشترك الذي تمثله الحركات الإسلامية المتطرفة بدءًا من حماس في غزة مرورًا بحزب الله اللبناني والجهاديون في سوريا وصولًا إلى حركة الشباب في إفريقيا والحوثيين في اليمن”، التي هددت في 11 مارس، أي قبل الزيارة بيوم واحد، باستئناف الهجمات على السفن الإسرائيلية بالبحر الأحمر، ردًا على منع إسرائيل دخول شاحنات المساعدات إلى غزة بالتزامن مع وقف إطلاق النار.

وأشار “ساعر” في هذا الصدد إلى أهمية إثيوبيا باعتبارها دولة محورية إقليميًا وإفريقيًا، مؤكدًا أهمية التعاون المشترك في مجال التهديدات الأمنية الإقليمية المشتركة، مشيرًا إلى الروابط التاريخية والمهاجرين من أصل إثيوبي الذين يمثلون جزءًا أساسيًا من المجتمع الإسرائيلي، ما يؤكد سعي الطرفين إلى تعزيز التقارب بينهما في ضوء المتغيرات والتهديدات الإقليمية المتنامية.

وقد سبق الزيارة السالفة، توقيع وزير الطاقة والبنية التحتية وعضو المجلس الأمني الإسرائيلي المصغر، إيلي كوهين، اتفاقية في 5 فبراير 2025، مع نظيره الإثيوبي، أهابتامو إيتيفا جيليتا، والتي تهدف إلى تعزيز العلاقة بين الجانبين في مجالات الطاقة وتحديدًا الطاقة المتجددة والطاقة الشمسية، والمياه والابتكار ودمج الشركات الإسرائيلية في مشاريع تطوير البنية التحتية في أديس أبابا.

منذ تشدين العلاقات الثنائية في خمسينيات القرن الماضي، وتعميقها مع مطلع التسعينيات، تبرز مجالات تمثل ركيزة العلاقات التاريخية والاستراتيجية بين البلدين:

منذ عودة العلاقات بين الجانبين في التسعينات، قطعت البلدان أشواطًا في مجالات التعاون الاقتصادي والتبادل التجاري، وتحديدًا في مجالات المياه والطاقة والتكنولوجيا، ونتيجة للجهد المشترك في مجالات الزراعة، بدأت إثيوبيا في تصدير الأفوكادو للدول الأوروبية في ضوء ما يعرف ب ” دبلوماسية الأفوكادو”، إذ ساعدت التكنولوجيا الزراعية في مجالات الري وإدارة المياه والمساهمة في تحقيق أهداف إثيوبيا التنموية، مما ساعد في تعزيز الأمن الغذائي والإنتاج الزراعي، وإدارة الموارد المائية.

ورغم تعزيز العلاقات التجارية منذ التسعينات، بلغت الواردات الإسرائيلية من إثيوبيا 91.28 مليون دولار في عام 2024، أتت البذور الزيتية والقهوة في مقدمتها. في المقابل، بلغت قيمة الصادرات الإسرائيلية إلى إثيوبيا 24.53 مليون دولار في نفس العام، أتت في مقدمتها الآلات والمفاعلات النووية وكذلك البذور الزيتية.

وفي مسعى نحو ترقية العلاقات، وقعت إثيوبيا وإسرائيل عام 2003 اتفاقية لتعزيز وحماية الاستثمارات المتبادلة، وهو ذات العام الذي وقعت فيه اتفاقية لتجنب الازدواج الضريبي ومنع التهرب المالي فيما يتعلق بالضرائب على الدخل. وقد عبّر نتنياهو خلال زيارته لإثيوبيا عام 2016 عن أهمية تعزيز التعاون الإسرائيلي مع شرق إفريقيا بوجه عام ومع إثيوبيا بوجه خاص في مختلف المجالات بما في ذلك قطاعات الطاقة والبنية التحتية والصحة، مما أسفر عنه انعقاد منتدى الأعمال الإسرائيلي الإثيوبي في أديس أبابا عام 2018، والذي ركز على دعم التواصل بين القطاعين العام والخاص بين البلدين في المجالات سالفة الذكر. وركزت إسرائيل على تعزيز نفوذها في القارة الإفريقية، وتعزيز التعاون الثنائي في المجالات الأمنية والتكنولوجية.

وتأتي الاتفاقية التي وقّعها إيلي كوهين، مع نظيره الإثيوبي، أهابتامو إيتيفا جيليتا، في فبراير 2025، لتراكم التعاون في المجالات السالفة. وخلال كلمته، عبّر الوزير الإسرائيلي عن التطلعات الإسرائيلية في مساعدة الاقتصاد الإثيوبي من خلال نقل الابتكار والتكنولوجيا في مجال الموارد المائية وغيرها من الموارد الاقتصادية، ودمج الشركات الإسرائيلية في مشاريع تطوير البنية التحتية للمياه في إثيوبيا.

وقد أطلقت إسرائيل بالتعاون بين وكالة التعاون الإنمائي الدولي الإسرائيلية (ماشاف) والوكالة الأمريكية للتنمية الدولية عام 2005، مشروعًا لأصحاب الحيازات الصغيرة، نفذ من خلاله تقنيات الزراعة والري الإسرائيلية وقدم أصنافًا جديدة من الأفوكادو لآلاف المزارعين الإثيوبيين. إذ يُعدّ توسّع إنتاج الأفوكادو في إثيوبيا، بدعم من الخبرة الزراعية الإسرائيلية، أحد مجالات تعاون (ماشاف)، لتعليم المزارعين الإثيوبيين تقنيات الري والتسميد وإدارة المحاصيل.

وقد ترسخت تلك المدركات المشتركة بأهمية التعاون في مجالات المياه والزراعة مبكرًا، وانعكست في كلمة “نتنياهو” خلال زيارة رئيس الوزراء الإثيوبي السابق، هايلي مريام ديسالين، التي أكد فيها أهمية التعاون الاقتصادي في مجالات الزراعة والمياه؛ نظرًا للتقدم الإسرائيلي في تكنولوجيا المياه والزراعة، والإدراك الإثيوبي للإمكانات الواعدة للاستثمار في المياه، لمعالجة التحديات التي يواجهها البلدان.

وتشكل العلاقات الاقتصادية مدخلًا واعدًا لآفاق النمو المشترك بين البلدين؛ ففي لقاء صحفي للسفير الإثيوبي لدى إسرائيل تسفاي ييتاي مع “صحيفة جيروزالم بوست”، أشار إلى أهمية العلاقات التجارية التي تشكل حجر زاوية بين البلدين؛ إذ يحظى البن الإثيوبي بأفق واعد في إسرائيل التي استوردت في الفترة بين يوليو وسبتمبر من العام 2024 ما مقداره 540 طنًا من البن الإثيوبي، علاوة على خبز العجين المخمر التقليدي في إثيوبيا، والذي يكتسب شعبية متزايدة في الأسواق الإسرائيلية وبين الجالية اليهودية الإثيوبية.

وأكد في هذا اللقاء الدور التقني في نقل الخبرة الزراعية الإسرائيلية، حيث يأتي خبراء زراعيون إسرائيليون إلى إثيوبيا لتعليم كل من الاقتصاديين والمزارعين، مما أسهم في إدخال نظام الري بالتنقيط للمزارع الإثيوبية. هذا بالإضافة إلى التعاون في مجال زراعة المانجو. وبشكل رئيس، يسهم دعم صغار المزارعين في دعم النمو الاقتصادي والأمن الغذائي؛ نظرًا لكون الزراعة تمثل شريحة مهمة في الاقتصاد الإثيوبي. وتعد التكنولوجيا وبرامج التبادل الطلابي عبر الجامعات من مجالات التعاون الرئيس بينهما؛ لدعم نقل الخبرات وإجراء البحوث التعاونية، دعمًا لعملية تدريب الشباب الإثيوبي، وهي المجالات التي ترغب إثيوبيا في إضفاء الطابع الرسمي عليها لتدعيم آفاق التعاون.

نشأت العلاقات العسكرية الإسرائيلية الإثيوبية في وقت مبكر منذ عهد الإمبراطور هيلا سيلاسي وامتدت في الحقبة الاشتراكية خلال نظام “منجستو” من عام 1974 إلى عام 1991، حيث حافظت حكومة “منجستو” على علاقات وثيقة مع إسرائيل. وقد شمل التعاون المبكر تقديم إسرائيل المساعدة في التدريب العسكري وبناء القدرات في إثيوبيا، ومهدت هذه الأسس الطريق للشراكة المتنوعة التي نلمسها اليوم.

ويعد توريد الأسلحة الإسرائيلية إلى إثيوبيا أحد أشكال التعاون العسكري بينهما، ومن بين هذه المعدات تأتي المركبة “رعد” المتنقلة للمشاة (IMV)، التي دخلت الخدمة حتى الآن في إثيوبيا والكاميرون، والتي يُشار إلى أنها كانت أحد آليات تجميع المعارف العسكرية فيما يتعلق بعملية صناعة الأسلحة الإثيوبية.

فخلال الفترة بين 2011 و2013، حصلت شركة “جايا” الإسرائيلية للسيارات على عقد لتوريد 80 مركبة مدرعة من طراز Thunder IMV إلى إثيوبيا، حيث صنعت الخمسة الأولى منها في إسرائيل بينما شحنت المعدات اللازمة لتصنيع السبعين الآخرين في إثيوبيا، مما أكسبها خبرة تمكنها من هذا النوع من التصنيع مستقبلًا. هذا بالإضافة إلى تزويد القوات الجوية الإثيوبية بنوعين من الطائرات المسيرة الإسرائيلية منذ عام 2011، من طراز Aerostar وWanderB.

كذلك، كانت هناك تقارير في مايو عام 2019 تشير إلى تعاون شركات التكنولوجيا الدفاعية مع إثيوبيا في مجال تأمين السد الإثيوبي؛ إذ أُشير إلى قيام إسرائيل بتركيب نظام دفاع جوي متقدم في سد النهضة يسمى Spyder-MR، الذي يمكنه إطلاق نوعين مختلفين من الصواريخ في وقت واحد، وذلك بعد أن أثبت كفاءته في الاشتباكات الهندية الباكستانية في كشمير. على الجانب الآخر، كانت هناك تقديرات تفيد بعدم مخاطرة إسرائيل بعلاقتها مع مصر مقابل دعم شركاتها الدفاعية في هذا الصدد.

وعلى هامش زيارة رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد إلى إسرائيل في 2019، أكد نظيره الإسرائيلي “نتنياهو” على أهمية التعاون الأمني بين البلدين، لما تحمله الأبعاد الأمنية من ضرورات لإحكام الاستقرار السياسي والمجتمعي، كذلك عبّر “نتنياهو” عن مواجهة الطرفين لذات التحديات المرتبطة بمواجهة الإرهاب والتطرف، الذي يستدعي بدوره التعاون الأمني.

تعد إثيوبيا واحدة من الدول المركزية في إفريقيا بالنسبة لإسرائيل، وفقًا للمكانة الإقليمية والآفاق الواعدة، فعقب انضمام إثيوبيا لمجلس الأمن الدولي عام 2016، أجرى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أول زيارة رسمية لمسؤول إسرائيلي إلى إثيوبيا منذ 30 عامًا، التقى خلالها رئيس الوزراء الإثيوبي هايلي مريام ديسالين، بينما قام الأخير بزيارة إسرائيل عام 2017. وقد سبقتها زيارة رئيس الوزراء الإثيوبي ميليس زيناوي إلى إسرائيل عام 2004.

وفي عام 2018، زار رئيس إسرائيل رؤوفين ريفلين أديس أبابا والتقى رئيس الوزراء آبي أحمد، وفي 2019 زار الأخير إسرائيل والتقى رئيس الوزراء الإسرائيلي “نتنياهو”. وأجمعت الزيارات السالفة على أهمية التعاون الاقتصادي بين البلدين وإقامة مشاريع البنية التحتية، في انعكاس للاهتمام الإسرائيلي بدول حوض النيل.

وقد انعكست الرغبة في توظيف وإبراز تلك الروابط الحضارية خلال كلمة “نتنياهو” أثناء زيارته لإثيوبيا عام 2016، حينما سلط الضوء على عودة إثيوبيا إلى إسرائيل وعودة الأخيرة إلى إثيوبيا، كجزء من عودتها إلى إفريقيا بوجه عام.

إذ بعد استقلال الدول الإفريقية، كانت إثيوبيا من أوائل الدول الإفريقية التي أقامت علاقات قنصلية مع إسرائيل عام 1956 وعلاقات دبلوماسية كاملة عام 1961، والتي انقطعت نحو 16 عامًا في أعقاب حرب أكتوبر ليتم استئنافها بشكل كامل عام 1989 مع إعادة فتح السفارة الإسرائيلية في أديس أبابا. وأعقب ذلك التاريخ سلسلة متلاحقة من التطورات السياسية والتواصل المستمر بين البلدين.

في الأخير، تقدم العلاقات الإسرائيلية الإثيوبية نموذجًا للحضور الإسرائيلي المتنامي والراسخ إفريقيًا، تدعمه الروابط التاريخية والثقافة المشتركة من جهة، والرؤية المشتركة إزاء التهديدات والطموحات الإقليمية المشتركة والمتعلقة تحديدًا بإقليم البحر الأحمر من جهة أخرى، هذا فضلًا عن الفرص والطموحات الاقتصادية الواعدة التي يدعهما تلاقي القدرات والمصالح، تحديدًا في مجالات التكنولوجيا والطاقة، إذ يعد التعاون الاقتصادي في مجالات الزراعة والطاقة والمياه، أحد ركائز التعاون الاستراتيجي بين البلدين. فعلى الرغم من ضعف حجم التبادل التجاري بينهما، إلا أن التعاون في مجالات نقل التكنولوجيا الإسرائيلية في المجالات العسكرية والاقتصادية، يؤشر على الطبيعة الاستراتيجية للحضور الإسرائيلي في إثيوبيا، كركيزة أساسية ضمن معادلة البحر الأحمر، وكمدخل رئيس نحو القارة الأفريقية.

المصدر

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M