مع أن محاولاتُ تقريبِ وُجهات النظر الإيرانية-السعودية اتخذت مسارات أكثر عملية منذ أكثر من عامين، إلا أنّ نبأ الاتفاق بين البلدين بعد جولة مفاوضات قصيرة في العاصمة الصينية بيجين، شكَّل مفاجأةً وضعت اللاعبين الإقليميين والدوليين أمام تطور لافت يحملُ احتمالات جديدة.
ترحيب إيراني لافت
بعد مفاوضات استضافتها العاصمة الصينية بيجين، استمرت لعدة أيام، بين مستشار الأمن القومي السعودي، مساعد العيبان، وأمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، علي شمخاني، أعلن الجانبان السعودي والإيراني، في 10 مارس الجاري، عزمهما استئناف العلاقات الدبلوماسية المقطوعة بين البلدين منذ 7 سنوات، وفتح السفارات المُغلقة في غضون شهرين. وأشار بيان الاتفاق إلى إعادة تفعيل تفاهمات أمنية وتجارية سابقة بين السعودية وإيران. وجاء هذا الاتفاق بعد خمس جولات من الحوار بين البلدين بوساطة عراقية في بغداد، ثمّ وساطة عُمانيّة يُرجَّح أنها كانت مُتعلّقة بالملف اليمني. وفي اليوم التالي لإعلان بيجين، تصدَّر الاتفاق عناوين كل الصحف الإيرانية تقريباً، ما يُشير إلى أهمية الموضوع في المجال السياسي الإيراني.
وقد أثار الاتفاق ردود فعل ونقاشات في شبكات التواصل الاجتماعي الإيرانية، وبين المحللين المستقلين الإيرانيين حيال التغيُّر اللافت في موقف القوى المحافظة من العلاقات مع المملكة العربية السعودية. وينبغي إحالة هذا التغيير إلى عدة أسباب، يمكن رؤيتها بين ثنايا الخطاب السياسي الإيراني، وتفاعلات السوق غداة توقيع الاتفاق، أهمها الآتي:
- عاشت إيران خلال الأشهر الماضية عُزلة غير مسبوقة تحت وطأة عدة تطورات، منها: انخراط إيران إلى جانب روسيا في الحرب على أوكرانيا، وموجة الاحتجاجات التي هزت الشارع الإيراني، وحملة القمع التي رافقتها من جانب قوى النظام. وهو ما قاد إلى موجة سخط عالمية على إيران، لاسيما في الدول الغربية التي أطلقت جهوداً لإخراج إيران من بعض المنظمات الدولية، وإصدار قرارات دولية بحقها، وترافق ذلك مع حملة أمريكيّة لتهميش المفاوضات النووية، وإخراجها من قائمة الاهتمامات الأمريكية. وفي ضوء جدار العزلة المحاك من حوله، كان النظام الإيراني بحاجة ماسة إلى فتح نوافذ، تتيح له فرصة التنفس والتحرك. وكانت النافذة الأولى التي تمكّن النظام من فتحها، هي الاتفاق المبدئي مع “الوكالة الدولية للطاقة الذرية”، والذي جنّب النظام تلقي قرار إدانة جديد من “مجلس حكام الوكالة”، وتمثّلت النافذة الثانية في الاتفاق على إعادة العلاقات مع المملكة العربية السعودية.
- كان النظام السياسي في إيران بحاجة إلى مؤثرات تعمل على تهدئة أسواق العملة والاقتصاد في ظل أزمة قوية تعانيها البلاد على هذا الصعيد. وعملت الهدنة مع الوكالة الدولية بالفعل على تهدئة الوضع قليلاً لكنّ الاتفاق مع السعودية كان له أثر واضح في ترويض أسعار الدولار؛ إذ انخفضت أسعاره بنسبة لا تقل عن 15% خلال أقل من يومين، وسط تفاؤل بأن يستمر هذا الأثر الإيجابي للاتفاق الإيراني-السعودي لأبعد من ذلك، ليشمل باقي المؤشرات الاقتصادية.
دلالات وانعكاسات استراتيجية
على الرغم من حقيقة أن الاتفاق بين إيران والسعودية يُمثَّل، على الأقل من الناحية النظرية، مدخلاً لبناء توافق بين لاعبَيْن إقليميَّيْن كبيرين، وأغلبُ الظن أنه كان توافُقاً مبدئيّاً، لم يتناول التفاصيلَ بعدُ، لكنّه مع ذلك، قد يمثّل نقطة تحوُّل على المستويين الاستراتيجي، والدّولي. وكان هذا الوعي بالانعكاسات، والمعاني الاستراتيجية للاتفاق، طاغياً على مجمل التحليلات الصادرة في إيران. وقد عبّرت عنه العناوين الرئيسة للصحافة الإيرانية في اليوم التالي لإعلان الاتفاق، بحيثُ:
- كانت الرّعاية الصينية لهذا الاتفاق ذات دلالات استراتيجية مهمّة، أكسبت الاتفاق الإيراني-السعودي أبعاداً دوليّة فوق أبعاده الإقليمية الظاهرة. واكتسب الأمر معناه الاستراتيجي من منطلق كونها المرة الأولى التي تتدخل فيها الصين بشكل مباشر لفض النزاعات السياسية في منطقة الخليج العربي التي كانت تعتبر على مدى العقود الماضية دائرة نفوذ حصريّة للولايات المتحدة الأمريكية، والمعسكر الغربي. وقد اُعتُبر الاتفاق في المجال السياسي الإيراني بوابةً لعصرٍ صينيٍّ مُقبل، وتشاركت في تبنّي هذه الرؤية، مختلفُ دوائرُ التحليل الإيرانية، بأنواعها: الإصلاحية، والمستقلة، والمحافظة على السواء. وبعيداً عن هذه التوقعات الإيرانيّة المرتفعة فإن التساؤل باتَ مشروعاً بشأن ما إذا كانت الصين ترغبُ بالفعل في ترجمة نفوذها الاقتصادي إلى نفوذ سياسي في مناطق مُتعدّدة من العالم.
- شكَّل الاتفاق السعودي-الإيراني برعاية صينية، خطوة غير تقليدية من لاعب يُعرف بأنه محافظٌ في المشهد الدوليّ؛ إذ على العكس من إيران التي روجت طيلة العقد الماضي لاستراتيجية “التوجه نحو الشرق”، فإن السعودية لديها تحالفات وثيقة مع القوى الغربية، بقيادة الولايات المتحدة. ويبدو أن الانخراط في عملية رأب صدع لعلاقتها مع إيران برعاية الصين، يومئُ إلى أن المملكة بصدد إجراء تغيير استراتيجي في خريطة علاقاتها مع العالم. وفي سياق مثل هذا الافتراض، يُمكِن وضع الخطوات الأخيرة التي أقدمت عليها الرياض، ومن ضمنها التنسيق مع روسيا والصين في مجال الإمدادات النفطية، والتوجه نحو اعتماد البترو-يوان إلى جانب البترو-دولار.
مستقبل الاتفاق: سيناريوهات محتملة
في ضوء الاتجاهات الراهنة، والمواقف التي عبَّرت عنها الأطراف، طُرِح سيناريوهان رئيسان محتملان لمستقبل الاتفاق السعودي-الإيراني:
1. سيناريو نجاح الاتفاق في خلق سياق تعاوني ثنائي جديد. يفترض هذا السيناريو أنْ يستطيع الاتفاق حلّ معظم الملفات العالقة بين السعودية وإيران، بما فيها ملفّات الصواريخ البالستية، والمُسيَّرات، وحلّ الصراع القائم في اليمن، وخفض مُستويات التنافُس الإقليمي في لبنان، والعراق، وغيرها من ملفات الخلاف. لكنّ طبيعة الاتفاق باعتباره اتفاقية ثنائية، قد تقلل من فعاليته في حلّ معظم القضايا الإقليمية مُتعدّدة الأطراف، إلا في حالة بناء توافقات إقليمية ودولية أوسع. كما يبقى من غير الواضح ما إذا كان الاتفاق يرتقي في صيغته المعلنة الراهنة إلى مستوى حلّ ملفات رئيسة، مثل ملف الصواريخ البالستية، والمسيرات. وقد يكون هذا هو الذي دعا وزير الخارجية السعودي، إلى التأكيد على أن الاتفاق لا يعني فضّ كلّ الخلافات، فهو يشير بشكل ضمني إلى ضرورة خفض التوقعات في الأوساط السياسية من كلا الجانبين.
ويطرح بعض المراقبين احتمال أن تتوجه الصين نحو جعل الاتفاق بين السعودية وإيران منصة لعملية سياسية أوسع، تتضمن كل الأطراف الإقليمية، وأن تسعى إلى توفير مظلة لحوار لإقليمي شامل. وهي عمليّة محفوفة بالتحديات، وتحمل دلالات واضحة على سلوك سياسي جديد من الصين في منطقة نفوذ أمريكي تقليدية. ولذلك لا تبدو مُرجَّحة حالياً، لأنها ببساطة تُبعِد الصين عن أهدافها الاقتصاديّة، وقد تُغرِقها في صراع جيوسياسي مرهق لبيجين، في الوقت الذي تحرص فيه الأخيرة على عدم إثارة تحسس الولايات المتحدة والغرب إزاء توسعها الاستراتيجي في المنطقة. كما لا تنسجم فكرة الحوار الشامل مع استراتيجيات إيران التقليدية في العمل الإقليمي، ولا تتطابق مع السلوك التقليدي الصيني في المجال الدبلوماسي العالمي.
2. سيناريو السلام البارد. يفترض هذا السيناريو، الذي تُرجِّحه مراكز تفكير مقربة من الحرس الثوري الإيراني، أن يذهب البلدان نحو إعادة فتح سفارتيهما، ويواصلان التفاوض بشأن الملفات الخلافية، وأن ينجح البلدان في تحقيق بعض التقدُّم في هذه الملفات، من دون التوصُّل إلى حلول نهائية، ولكن بما يكفي للتوافق حول خطوط عامة، ويحول دون أي تصعيد مستقبلي. وذهبت تلك المراكز في تحليلاتها إلى أن هذا الاتفاق من شأنه أن ينقل العلاقات بين الرياض وطهران من مرحلة الحرب الباردة إلى مرحلة السلام البارد، مؤكِّدةً أن البلدين اتخذا قراراً بدخول مرحلة من العلاقات السلمية، لكن عُمْق الخلافات السياسية والأيديولوجية، وطبيعة الأوراق التي يمتلكها الجانبان، قد تحول دون التوصل إلى تفاهم نهائي، بشأن أيٍّ من الملفات الخلافيّة العالقة الكبرى على المديين القريب والمتوسط.
استنتاجات
تبدو إيران أول الرابحين من الاتفاق الذي أبرمته مع السعودية برعاية صينية؛ فالبلد الذي يعيش عُزلة دوليّة، وحالة انسداد سياسي، واحتقان اجتماعي، وإحباط عامّ، انعكس على مختلف ملفاته السّياديّة، وعلى وضعه الاقتصادي، سيحاول الاستفادة من هذا الاتفاق لكسر هذه العُزلة، والأهمّ من كلُّ ذلك، فتح نافذة للتفاؤل الاجتماعي، وتهدئة الرأي العامّ الإيراني الذي يُحمِّل النظام، مسؤوليّة كل هذا الانسداد.
وقد ترك الاتفاق أثراً إيجابيّاً أوّليّاً في المؤشرات الاقتصادية الإيرانية من خلال رفع قيمة العملة، ومن المرجح أن يتواصل هذا الأثر الإيجابي، وأنْ يتوسَّع، نتيجة حالة التفاؤل التي أوجدها الاتفاق في الأسواق الإيرانية. ويبقى مُستبعداً أن يؤدي الاتفاق بين طهران والرياض إلى زيادة الحضور التجاري السعودي في إيران، ما لم تتوصل إيران والغرب إلى اتفاق جديد تُرفع بموجبه العقوبات عن إيران. كما من غير المحتمل أنْ يترك الاتفاق أثراً جوهريّاً على الملفات الاقتصادية الإقليمية، والتعاون الاقتصادي الإقليمي، إلّا في حال انفتاح العلاقات بين إيران والغرب عبر اتفاق نووي جديد يرفع العقوبات، وتتبعه استعادة عضوية إيران في المؤسسات الماليّة العالمية، وقنوات التبادل المالي. كما لا يمكن توقُّع تزايُد الحضور الصيني في الأسواق الإيرانية بعد حصول هذا الاتفاق؛ إذ يبقى الوجود الصيني الأوسع نطاقاً في السوق الإيرانيّة رهناً بانفتاح إيران على المجتمع الدولي، ورفع العقوبات. وتبدو الصين مُهتمّة أكثر بمصالحها الاقتصاديّة المتنامية مع السعودية، وتُعطي الأولويّة لإنجاح توافقاتها، ومصالحها الاقتصادية معها، وتسعى لتحقيق استقرار يضمن هذا المصالح.
وعلى الرغم من أن بعض مراكز التفكير الإيرانية، ومنها مراكز مقربة من وزارة الخارجية، أشارت إلى ضرورة اتخاذ الاتفاق مع السعودية منصّة لإطلاق حوار شامل بين إيران والكتلة الخليجية، إلّا أن هذا السيناريو يظل مُستبعَداً لأن إيران قد لا ترغب بالانخراط في حوار إقليمي يُثير ملفات خلافيّة عالقة من دون أن يترك أثراً جوهريّاً في وضعها الاقتصادي أو السياسي. بيد أن الاتفاق، في المقابل، قد يفتح شهية الصين لطرح مُبادرات إقليميّة أوسع نطاقاً. وكانت بيجين فيما مضى طرحت مبادرة أولية لمظلة أمنية إقليمية، لكنّها لم تجد أصداء حينها، وقد يدفع نجاح هذا الاتفاق، الصين إلى إعادة طرح المبادرة من جديد. ومن الوارد أن تستجيب لها إيران بداعي الرغبة في جرّ الصين أكثر إلى المجال السياسي الإقليمي. ومن الوارد كذلك، أن تُسهِم الصين مستقبلاً بدور إيجابي في فضّ بعض الخلافات بين إيران وجيرانها العرب، وأن تؤدي أدواراً أكبر في أمن الملاحة، ودعم فرص الاستقرار الاقتصادي في المنطقة.
.
رابط المصدر:
https://epc.ae/ar/details/brief/kayf-qyamt-al-awsat-al-irania-alaitifaq-mae-alsaudia