تتعرض الحكومات في جميع أنحاء العالم لضغوط متزايدة لتصبح أكثر شفافية وانفتاحًا وخضوعًا للمساءلة، وبناء مؤسسات تستجيب لتطلعات المواطنين لاستعادة الثقة في الحكومة أو الحفاظ عليها. ويعتمد التنفيذ الفعال لهذه الأولويات بشكل كبير على كفاءات وقدرات الموظفين العموميين في الجهاز الإداري للدول. ومن منطلق أهمية إلقاء الضوء على تجارب الإصلاح الإداري، تأتي تجربة نيوزيلندا ضمن هذه التجارب الرائدة. وكما تم إلقاء الضوء في ورقة بحثية سابقة على التجربة السنغافورية التي اعتمدت بالأساس على التجربة النيوزيلندية كنموذج لإصلاح القطاع العام منذ عام 1993، من الأهمية إلقاء الضوء في هذه الورقة على مداخل الإصلاح الإداري في التجربة النيوزيلندية، وأهم المؤسسات التدريبية التي أسهمت في رفع كفاءة موظفي الخدمة المدنية، وكيفية إستفادة الدول النامية من تجربة الإصلاح الإداري الرائدة في نيوزيلندا.
مداخل الإصلاح الإداري في التجربة النيوزيلندية
عانت نيوزيلندا قبل عام 1985 من تزايد التعقيدات الإدارية، من حيث: عدم تحديد الأهداف الخاصة بالإدارات بشكل واضح، وغياب المحاسبة على ضعف وترهل الأداء؛ نتيجة الخلط بين مسؤوليات السياسيين والإداريين، مما أدى إلى غياب المسائلة بسبب عدم إسناد المسؤولية إلى جهة محددة، إضافة إلى عدم إتاحة الحرية للإدارات في اتخاذ القرار نتيجة تدخل الوزراء المباشر في عمل الأقسام.
لذا كانت هذه المعاناة هي الدافع لخوض مسارات الإصلاح؛ فكان لزامًا وضع خطة إصلاح إداري ركزت على مفهوم “الإدارة بالنتائج”، وهدفت إلى زيادة الكفاءة والفاعلية في الأداء والإنتاجية في الأجهزة العامة، وكذلك تعزيز مبدأ المساءلة الإدارية. وكان مدخل خطة نيوزيلندا هو الإصلاح الشامل؛ بحيث يتم إعطاء صلاحيات واسعة لرؤساء الإدارات التنفيذية كتلك التي تعطى لرؤساء الإدارات في القطاع الخاص، وأن تتم محاسبتهم على النتائج، لذا تم:
- إعادة هيكلة القطاع العام الأساسي:
اتسم نهج الإدارة الاستراتيجية في نيوزيلندا بالاتساق والمرونة والانتقائية، فيبدو أنه نظام توجيه جيد للتحسين المستمر والإدارة بالنتائج؛ فتم اعتماد ممارسات إدارة القطاع الخاص في القطاع العام، مثل: عقود العمل قصيرة الأجل، وخطط الأجور المرتبطة بالأداء والتي يشار إليها بمصطلح “القيمة مقابل المال”، والاهتمام الأكبر بصورة الإدارات، بالإضافة إلى عدم وجود لوائح توظيف في الخدمة العامة؛ فيجب أن تمتثل جميع القطاعات العامة أو الخاصة في نيوزيلندا لنفس اللوائح التوظيفية، فالرئيس التنفيذي لكل قسم حر في العمل في ظل نفس الشروط تقريبًا مثل الرئيس التنفيذي لشركة خاصة.
لذا يمكننا القول إن نتاج الإصلاح في نيوزيلندا هو منح الرؤساء التنفيذيين مرونة كافية في استغلال الموارد المتاحة لهم في الميزانية لتحقيق النتائج، وتسهيل إجراءات شؤون الموظفين، وتحويل كثير من الصلاحيات ذات العلاقة بالتوظيف من الإدارات المركزية للتوظيف إلى الإدارات التنفيذية مثل: إجراءات الترقية، وتصنيف الوظائف، وتحديد الرواتب، ومطالبة المديرين باتباع الأساليب الإدارية الحديثة لتعزيز جودة الإنتاجية. مما كان له مردود إيجابي على إيجاد حوافز لترشيد الإنفاق والاستغلال الأمثل للمصادر المتاحة له.
وتضمنت الإصلاحات العديد من الاستراتيجيات المختلفة، منها مطالبة كل رؤساء الإدارات التنفيذية بوضع استراتيجية وخطة عمل مؤسسية تتضمن ثلاثة أمور: أولها إعداد خطط استراتيجية لتوضيح رسالة وأهداف كل جهاز لموظفي الجهاز والمستفيدين منه، وثانيها وضع خطط تشغيلية لترجمة الخطط الاستراتيجية إلى أهداف تفصيلية مرتبطة برسالة وأهداف الجهاز، وثالثها استخدام مقاييس الأداء للتحقق من تقدم الجهاز نحو تحقيق الأهداف.
- تفويض السلطة وحرية الإدارة:
فيما يتعلق بالهياكل الإدارية، كان المبدأ الأساسي هو تمكين الأفراد والسماح للمديرين بالإدارة؛ حيث سيظل الرؤساء التنفيذيون مسؤولين أمام وزرائهم عن إدارة إداراتهم لتلبية احتياجات الوزراء في تطوير وتنفيذ السياسة. وبمعنى أوضح الفصل بين دور السياسيين والمديرين؛ بحيث يمكن للأول تحديد الناتج الذي سيتم إنتاجه، بينما يحدد الثاني طريقة الإنتاج.
وفي هذا الصدد، فَقَد رؤساء الأقسام فترة ولايتهم الدائمة وتم تعيينهم لفترات محددة تصل إلى خمس سنوات قابلة للتجديد لمدة ثلاث سنوات أخرى حسب الأداء. وباتوا يُعرفون الآن باسم الرؤساء التنفيذيين، ويعملون بموجب عقود محددة قائمة على الأداء يتفاوضون عليها مع الوزير المسؤول. ويمكنا القول إن الرؤساء التنفيذيين في الخدمة العامة النيوزيلندية كانوا يتمتعون بمنصب كامل وسلطة محدودة؛ الآن لديهم فترة عمل محدودة وسلطة كاملة.
- المساءلة بالنتائج:
ركزت حركة الإدارة العامة الجديدة في نيوزيلندا على الإدارة المالية لإدارات الحكومة المركزية، والتحول في التركيز من الإدارة في القطاع العام إلى إدارة القطاع العام، أي من تحديد الإدارة من حيث مكان حدوثها إلى تحديدها من حيث طبيعة ونتائج المهمة، إلى جانب التحول إلى المساءلة من حيث النتائج، وتعزيز المحاسبة على أساس الاستحقاق، والشفافية في إعداد الميزانية الحكومية، وتطوير السياسة المالية، وإعداد التقارير المالية وتقارير الأداء. كل ذلك تحت مراقبة لجنة خدمات الدولة؛ فأداء الرؤساء التنفيذيون للإدارات يكون نيابة عن الوزير، وهم أحرار في إدارة أقسامهم بالطرق التي يرونها مناسبة لتحقيق أهداف الأداء.
- شفافية السياسة الاقتصادية النقدية:
تتجسد الإصلاحات المصممة لتحديد السياسة الاقتصادية العامة للحكومة في جزأين من التشريع: قانون البنك الاحتياطي لعام 1989، وقانون المسؤولية المالية لعام 1994. ويهدف الأول إلى جعل قرارات السياسة النقدية شفافة؛ إذ يدير المحافظ المستقل للبنك المركزي المعروض النقدي وأسعار الفائدة لتحقيق معدل تضخم مستهدف يتم تحديده بالاتفاق مع الحكومة بصرف النظر عن التحديد الدوري لنطاق التضخم المستهدف، ويحظر القانون على الحكومة التدخل في السياسة النقدية. أما قانون المسؤولية المالية فتم تصميمه بهدف توفير انضباط سياسي مماثل للسياسة المالية.
- إصلاحات مستدامة:
من عام 2012 إلى عام 2017 وكجزء من حزمة إصلاح تسمى خدمات عامة أفضل، تحدت حكومة نيوزيلندا الخدمة العامة لتنظيم نفسها حول تحقيق عدة نتائج أثبتت مقاومتها للتدخلات السابقة. وكانت الخطة بسيطة بشكل مخادع، وتشمل: تحديد أهداف طموحة، وتقديم تقرير علني عن التقدم المحرز كل ستة أشهر، وتحميل مجموعات صغيرة من المديرين العموميين المسؤولية الجماعية، والتعلم من كل من النجاح والفشل؛ فالالتزام بالأهداف والذي يشير إلى الرابطة الطوعية بين الموظف وتحقيق نتيجة، يلعب دورًا أساسيًا في تحقيق النجاحات.
وخلال الخمس سنوات، تم استخدام بعض الميزات الأساسية التي بدا أنها تدعم الالتزام بالهدف وهي: 1- تحديد الأهداف التي تهم الموظفين العموميين والمواطنين ما يجعل من الصعب التراجع عن تلك الأهداف أو تغييرها، 2- انتقاء بعض المشاكل للتركيز عليها بحيث يكون لكل منها مكانة عالية، 3- الالتزام بجدول زمني للتقارير العامة عن التقدم المحرز، 4- محاسبة مجموعات صغيرة من القادة بشكل جماعي، 5- استخدام المؤشرات الرئيسة حتى يتمكن الموظفون العموميون من التعلم والتكيف.
مؤسسات وهياكل الإصلاح الإداري النيوزيلندية
يبدو أن أغلب تجارب الإصلاح الإداري ارتكزت بشكل رئيس على إنشاء مؤسسات تدريبية وتأهيلية تقوم بتدريب وتنمية موظفي الخدمة المدنية، ومن هذه المؤسسات: كلية الخدمة المدنية في سنغافورة CSC وهي مؤسسة علمية وتدريبية متخصصة في تطوير قدرات ومؤهلات موظفي القطاع العام والنهوض بإمكانياتهم الإدارية، والمدرسة الوطنية الفرنسية للإدارة ENA التي تخرج منها كبار موظفي البلاد من النخبة وكانت رمزًا للنظام الطبقي الفرنسي والتي تم إلغاؤها في أبريل 2021 لتحل محلها مؤسسة جديدة أكثر انفتاحًا على التنوع الاجتماعي وأقل نخبوية هي “معهد الخدمة العامة”.
وفي مصر، تم إنشاء الأكاديمية الوطنية للتدريب NTA بقرار رقم 434 لسنة 2017، كذراع هيكلي لتدريب وتأهيل الكفاءات من كل الفئات والطبقات الاجتماعية؛ لخلق مجموعة من المسؤولين يتمتعون بالكفاءة العالية وتمكينهم من شغل الوظائف والمناصب العليا في مؤسسات الدولة، والارتقاء بكفاءة موظفي الجهاز الإداري بالدولة.
وفي هذا الصدد، تأتي أهمية إلقاء الضوء على أبرز المؤسسات التي استندت إليها التجربة النيوزيلندية والتي على الرغم من كونها مؤسسات غير حكومية إلا أن لها دور بارز في القيام بنفس الأدوار التي تقوم بها نفس المؤسسات الوطنية من حيث التدريب والتأهيل، ومنها:
- مدرسة أستراليا ونيوزيلندا الحكومية “ANZSOG”:
هي مؤسسة غير حكومية وغير هادفة للربح تم تأسيسها من قبل حكومتين وطنيتين وتسع حكومات ولايات وأقاليم أسترالية وستة عشر جامعة عضو. يسهم أعضاء الحكومة بحوالي 8% من دخلها، ويسهمون في أنشطتها وتطويرها. وتشارك 14 مؤسسة حكومية وغير حكومية أسترالية ونيوزيلندية أخرى مع مدرسة أستراليا ونيوزيلندا الحكومية في برامج محددة، وتشمل هذه المؤسسات الشريكة الهيئات الوطنية والولائية، مثل: لجنة الخدمات الحكومية النيوزيلندية، ووزارة رئيس الوزراء ومجلس الوزراء في نيوزيلندا، ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية.
وتتميز هذه المدرسة بعدة ميزات منها: الشراكة التعاونية بين الحكومات والجامعات والتي تضمن أن تكون جميع عروض الدورات صارمة أكاديمًيا وقابلة للتطبيق بشكل مباشر على متطلبات الخدمة المدنية، والاعتماد على نقاط القوة في الجامعات الأعضاء في أستراليا ونيوزيلندا، بالإضافة إلى ضمها أفضل الأكاديميين والممارسين على المستوى الدولي، إلى جانب تركيز المدرسة على بناء قدرة إدارية استراتيجية وتكيفية قادرة على تقديم خدمة عامة في البيئات الصعبة، والالتزام بتقديم البرامج بناءً على إمكانياتها في بلوغ مناصب قيادية رفيعة المستوى وإدارتها، والتزامها بالخدمة العامة.
- معهد الإدارة العامة في نيوزيلندا “IPANZ”:
يحتل المعهد مكانًا مهمًا في السياسة العامة لنيوزيلندا، ويعد منظمة غير ربحية رائدة للموظفين، تعمل على تعزيز التحسينات في السياسة العامة والإدارة والتنظيم عبر القطاع العام في نيوزيلندا. وتضم عضويتها أكثر من 140 منظمة بالإضافة إلى أفراد يعملون داخل القطاع العام أو على اتصال وثيق به بما في ذلك: إدارات القطاع العام، وكيانات التاج، والمجالس المحلية، والمؤسسات الأكاديمية، والمنظمات غير الهادفة للربح، وبعض وكالات القطاع الخاص.
ويساعد معهد الإدارة العامة في بناء المهارات والمعرفة والأداء والوظائف، ويعزز من نظام الإدارة العامة؛ إذ يقدم العديد من برامج التأهيل والتدريب للمهنيين على كافة المستويات، بدءًا من الموظفين الجدد الذين يسعون إلى البناء الوظيفي، مرورًا بالموظفين من المستوى المتوسط الذين يبحثون عن الترقي، وصولًا إلى كبار القادة الذين يطورون أفضل الممارسات في مؤسساتهم.
ومما سبق نستنتج أنه على الرغم من الصعوبة النسبية في استخلاص تجارب دول ناجحة إداريًا وتطبيقها على دول أخرى نظرًا لاختلاف البيئة الثقافية والسياسية في تقليد خدمة مدنية كفؤة ومحايدة سياسيًا كالحادثة في نيوزيلندا، إلا أنه يمكن للدول النامية أن تستلهم من تجربة الإصلاح الإداري النيوزيلندية بعض الدروس منها:
• للتغلب على مآخذ تقديم الخدمات الحكومية: فإن نظام الإدارة الذي يركز على المخرجات سيكون مناسبًا للدول النامية، وسيحتاج السياسيون والمديرون إلى إحداث نقلة نوعية كبيرة في الطريقة التي تعمل بها الحكومة. وسيكون نشر المخرجات المتفق عليها بين السياسيين (الوزراء) والمديرين (الإداريين) خطوة أولى في الشفافية، ومن المحتمل أن يؤدي إلى تحسين المساءلة. إلى جانب استناد أنظمة التخطيط والميزنة والاعتمادات وتقييم الأداء وإعداد التقارير إلى المخرجات.
• للتغلب على ضعف أداء الموظفين: فإن تغيير أنظمة التعيين والتقييم والترقية عن طريق تطبيق “الحافز على قدر الأداء” والذي يُنظر إليها على أنها فعالة للغاية على الرغم من أنها قد تكون صعبة إلى حد ما على ثقافة شعوب الدول النامية، وقد تكون صعبة من الناحية السياسية، لكنها كانت جزءًا أساسيًا من الإصلاح المؤسسي في نيوزيلندا، وكانت المفتاح لتغيير ثقافة الخدمة العامة.
• للتغلب على مشكلات الوضع الاقتصادي والمالي: فإن اعداد الميزانية على أساس نظام “المحاسبة على أساس الاستحقاق” سيحسن الأداء المالي إلى جانب تحسين الإدارة المالية وأنظمة الرقابة المالية.
• للتغلب على تضارب المصالح بين الإدارات: فإن فصل أنشطة السياسة وتقديم الخدمات يحد من تضارب المصالح بين الإدارات؛ إضافة إلى فصل الأنشطة التجارية عن وظائف الإدارات الأساسية، وتطبيق نظام تنظيمي قائم على تكافؤ الفرص، وتعيين مجالس مستقلة ذات خبرة تجارية وليس سياسية. ويعتمد نجاح هذه الإصلاحات على اكتساب المهارات الإدارية والحوكمة اللازمة من القطاع الخاص.
• للتغلب على مركزية السلطة: فإن نهج نيوزيلندا في تفويض المديرين لسلطة إدارة المدخلات مفيد في العديد من البلدان النامية؛ بشرط مساءلتهم عن المخرجات. فضلًا عن أن الفصل بين دور السياسيين والمديرين قد يكون مفيدًا؛ فالأول يحدد الناتج الذي سيتم إنتاجه، بينما يحدد الأخير طريقة الإنتاج.
.
رابط المصدر: