تعيد الولايات المتحدة تحديث أصولها العسكرية في الشرق الأوسط، لتؤسس لنمط جديد من الانتشار العسكري، يواكب هذا التحديث انتهاء حقبة 11 سبتمبر وغزوها لكل من العراق وأفغانستان والتي دامت لنحو عقدين من الزمن، وتلائم الأصول العسكرية الجديدة التعاطي مع أنماط التهديدات غير التقليدية المتنامية في المنطقة، بالإضافة إلى الاعتماد بشكل رئيسي على الأصول غير المأهولة من المسيرات الجوية والبحرية، وتطبيقات الذكاء الاصطناعي، بالإضافة إلى الأسلحة المزودة بالليزر، ولا يعني ذلك بالضرورة التخلي عن الأصول التقليدية كأنظمة الدفاع الصاروخي التي تعمل في الوقت ذاته على تطويرها، ومن المتصور أن هيكلة الأصول الجديدة ستجذب عدد أكبر من الشركاء الاقليمين من الشرق الأوسط وخارجه.
ويبدو من اللافت للانتباه أن الشرق الأوسط يمثل مسرح التجارب والعمليات لتدشين هذه الأنواع الجديدة من الأنظمة التسليح الذكي الأمريكي، ففي النصف الثاني من نوفمبر 2022 أعلنت القيادة الوسطي عن تدشين قوة الدرونز البحرية Task Force 59 لتكون أول قوه من نوعها في العالم، ويأتي هذا الإعلان بعد نحو عام تقريباً على اعلان سابق عن الشروع في بناء هذه القوة، لتغطية الانتشار البحري في الإقليم، وتتبع هذه القوة القيادة المركزية للقوات البحرية NAVCEN في اطار الأسطول الخامس، والتي تمثل الجناح الثاني للقوة الدرونز الجوية 99 التي تم تأسيسها ونشرها في قطر، والتي تتشابك مهامها العملياتية والانتشار مع دوريات القيادة الأربعة -151 153 CTF والأخيرة هي الأحدث حيث تغطي نطاق البحر الأحمر مع باب المندب وخليج عدن، وبالتالي استكملت أيضا القيادة الوسطي عملية التغطية الدفاعية بشكل كامل تقريبا.
وواكب الإعلان الأخير عن بدء تشغيل هذه الأصول الجديدة عدة تجارب وأنشطة هامة على مدار العامين الأخيرين، منها على سبيل المثال ، تجارب محاكاة لاستخدام الليزر لمواجهة الدرونز البحرية والجوية، الاولي كانت في مايو ٢٠٢٠ و الثانية في نوفمبر ٢٠٢١ من على متن المدمرة الأمريكية USS Portland في بحر العرب وباب المندب، ويعتقد أن هذه التجارب التي تطورها شركات مثل رايثيون” و”لوكهيدمارتن” و”بوينج” ستدخل حيز التشغيل خلال العامين المقبلين، بينما بدأت القوة الجديدة (TF-59) بالفعل مهام العمليات، فقد واكب الإعلان عن تشغليها توقيف سفينة إيرانية تحمل مواد للوقود الصاروخي في بحر عمان 8 نوفمبر الجاري.
وبالتوقف عن عملية توقيف شحنة الوقود الصاروخي، يمكن تصور القيمة المضافة لـ TF-59، فالمركب التي كانت تحمل الشحنة هي مركب شراعي خشبي، وكانت الشحنة وهي عبارة عن 70طن من (كلورات الأمونيوم) مخبأه بين مئات الأطنان من الأسمدة الزراعية ( اليوريا)، تم تحليل مسار التحرك، وطبيعة تكوين السفينة والوزن بالنسبة لما تحمله من مواد، ما قاد إلى الاشتباه فيها، وتحركت الدرونز البحرية لمحاصرتها، حيث تفاجأ طاقم السفينة بأن القوة المتحركة غير مأهولة، وفقاً لحديث قائد القيادة المركزية الأمريكية الجنرال إريك كوريلا في حوار المنامة – IISS2022 ، تبع ذلك وصول طاقم بحري (سفينة خفر السواحل الأمريكية USCGC John Scheuerman ومدمرة الصواريخ الموجهة USS The Sullivans) قد وصلت إلى الموقع وتمت عملية السيطرة على السفينة و في وقت لاحق تم اغرقها في البحر.
على هذا النحو، لن تكون هناك حاجة لانتشار بقوة عسكرية كبيرة للتدخل السريع، ورصد الأنشطة المعادية وعمليات التهريب الواسعة النطاق، وفقا للتقارير الأمريكية هناك قوة قوامها 14 ضابطاً فقط ترصد هذه التحركات على طول الساحل من بحر عمان مرورا ببحر العرب وصولاً إلى باب المندب وتتابع مع القيادة المركزية في البحرين، ومن المقرر أن تتسع قدرات هذه القوة لتصل إلى 100 مركبة بحرية وفقا الإعلان الرسمي الأمريكي. وهي نقطة مهمة من خفض تكلفة الانتشار التي لا تتحملها الولايات المتحدة وحدها، اذ تعد تلك القدرات رخيصة للغاية اذا ما قورنت بالقدرات التقليدية المأهولة، كما ستقلل من حجم تواجد العامل البشري، بالإضافة إلى مسالة تحليل طبيعة التهديدات وكثافتها والوصول إلى المواقع التي كان من الصعوبة بمكان الوصول إليها أو الأهداف التي كان من الصعوبة الاشتباه فيها) .
في هذا السياق من الأهمية بمكان النظر إلى أهداف الانتشار على هذا النحو، مقارنة بمؤشرات المخاطرات والتهديدات الملاحية في المنطقة ومن بينها على سبيل المثال: –
- صحيح أن هذه القوة تمثل قيمة مضافة لعمليات الإنذار المبكر والرصد والتحرك السريع، وبالتالي ستقوض الكثير من التهديدات التي كان من الصعوبة بمكان الوصول اليها، لكن على الجانب الأخر، فإن هناك تنامي للقدرات الاستراتيجية، على سبيل المثال بالتزامن مع هذا الإعلان كانت الحركة الحوثية في اليمن تختبر صاروخ بحري جديد على سواحل الحديدة في رسالة إلى بدائل التهديد، جنباً إلى جنب مع تكثيف الهجمات بالدرونز الجوية المفخخة التي استخدمها في وقف تشغيل المنشآت النفطية والموانئ في شبوه وحضرموت. وهو ما يستدعي القول بالضرورة أنه مهما تم الحد من التهديدات فإن بقاء اليمن كبؤرة صراع مفتوحه ومستدامة وكدولة هشة سيساهم في الإبقاء على هذه التهديدات، وأن المعالجة لا تتوقف فقط على سد الثغرات الدفاعية ، لأن هناك على الجانب الأخر طرف سيسعي إلى تطوير قدراته كنوع من الردع من وجهة نظره بطبيعة الحال.
- عندما تم توقيف السفينة واغراقها، يعتقد أن عملية استهداف ناقلة النفط “باسيفيك زيركون” الإسرائيلية من جانب ايران على الأرجح بطائرة دون طيار ، وفي أعقاب ذلك توجه فريق من القيادة الوسطي إلى إسرائيل، ربما في محاولة لاحتواء الموقف خشية استئناف ” حرب الناقلات” التي خاضها الطرفان العام الماضي، وبالتالي فالمتصور أن عملية التحديث لم تضمن الحيلولة دون اندلاع مواجهة من هذا النوع، وبغض النظر عن موقف إسرائيل ومدي استجابتها لعدم العودة إلى الصدام، فهي الأخرى تقوم بتحديث اسطول من هذا النوع، تحت مسمي ( القبة الحديدة البحرية)، فخلال الحرب الأخيرة على غزة كانت الفصائل الفلسطينية قد استخدمت مسيرات بحرية محدودة، ربما شكلت الدافع لدي إسرائيل لتدشين هذه المنظومة، ويعطي هذا الوضع انطباعاً بأن المنطقة ليست بصدد الهدوء والاستقرار، وإنما في الأخير ، أمام عمليات ردع وعمليات ردع مضاد.
- صحيح أن القوة الجديدة تشكل قيمة مضافة من النواحي اللوجستية والتكتيكية يصعب تجاهلها، كما أنها تقلل من أعباء التكاليف، بالإضافة إلى أن عامل الشراكة مع القوي الإقليمية في إدارة وتنظيم وتنسيق عملية الانتشار الجديدة، وهو عامل حيوي للغاية، لكن في هذا الاطار يصعب تجاهل تطوير القدرات والامكانيات التقليدية والخبرات التي تمتلكها الجيوش، في منطقة تتعدد فيها مستويات المخاطر والتهديد. ,لا تتعلق فقط بأنماط التهديد غير التقليدية، وإنما التهديدات الاستراتيجية أيضاً والتي تتنامي هي الأخرى، فقد كان من اللافت قيام الولايات المتحدة بإخراج الغواصة النووية ( ويست فريجينا) في بحر العرب، بعد نحو أسبوعين كانت الطائرات B25 تنطلق في الخليج وتحلق في الأجواء في الشرق الأوسط ، ربما نكون للمرة الأولي أمام حديث جدي عن مظلة نووية أمريكية في الشرق الأوسط.
.
رابط المصدر: