راغورام راجان
شيكاغو ــ تتطلب عملية صنع السياسات الاقتصادية الذكية على نحو ثابت لا يتغير تـحـمـل بعض الآلام اليوم في سبيل تحقيق مكاسب أعظم في المستقبل. لكن هذا افتراض صعب على المستوى السياسي، وخاصة في البلدان الديمقراطية. فمن الأسهل دائما أن يسارع القادة المنتخبون إلى تدليل ناخبيهم، على أمل أن يتأخر وصول الفاتورة إلى ما بعد تركهم لمناصبهم. علاوة على ذلك، من الواضح أن أولئك الذين يتحملون الآلام التي تتسبب السياسات العامة في إحداثها ليسوا هم بالضرورة من سيستفيدون منها.
لهذا السبب، كانت الاقتصادات الأكثر تقدما اليوم حريصة على إنشاء آليات تسمح لها باتخاذ اختيارات صعبة عند الضرورة. وبين أكثر هذه الآليات أهمية البنوك المركزية المستقلة والقيود المفروضة على عجز الميزانية. من المهم هنا أن الأحزاب السياسية توصلت إلى الإجماع حول إنشاء ودعم هذه الآليات بصرف النظر عن أولوياتها السياسية المباشرة. ومن الأسباب وراء تأرجح العديد من الأسواق الناشئة من أزمة إلى أخرى أنها فشلت في تحقيق مثل هذا الإجماع. لكن التاريخ الحديث يثبت أن الاقتصادات المتقدمة أيضا أصبحت أقل تسامحا مع الآلام، ربما بسبب تآكل الإجماع السياسي.
فقد أصبحت الأسواق المالية متقلبة مرة أخرى، بسبب المخاوف من أن يضطر بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي إلى إحكام سياسته النقدية بدرجة كبيرة للسيطرة على التضخم. ولكن يظل العديد من المستثمرين متشبثين بأهداب الأمل في أن يتساهل الاحتياطي الفيدرالي إذا بدأت أسعار الأصول تنخفض بشكل كبير. إذا أثبت الاحتياطي الفيدرالي أنهم كانوا محقين، فسوف تزداد صعوبة تطبيع الأوضاع المالية في المستقبل بدرجة كبيرة.
الواقع أن تمسك المستثمرين بالأمل في أن يطيل الاحتياطي الفيدرالي أمد حفله السخي ليس بلا أساس. ففي أواخر عام 1996، حَـذَّرَ رئيس الاحتياطي الفيدرالي ألان جرينسبان من “الوفرة الطائشة”. لكن الأسواق تجاهلت التحذير، ثم تبين لاحقا أنها كانت على حق. ربما امتنع الاحتياطي الفيدرالي عن القيام بأي شيء بعد ردة الفعل السياسية القاسية التي أثارها خطاب جرينسبان. وعندما انهارت سوق الأوراق المالية (البورصة) في نهاية المطاف في عام 2000، لجأ الاحتياطي الفيدرالي إلى خفض أسعار الفائدة، وبهذا ضمن أن الركود كان معتدلا.
في شهادة أدلى بها أمام اللجنة الاقتصادية المشتركة في الكونجرس الأميركي في العام السابق، زعـم جرينسبان أنه في حين لا يستطيع الاحتياطي الفيدرالي منع “الأثر الاقتصادي السلبي الحتمي” الناجم عن طفرة أسعار الأصول، فإنه قادر على “تخفيف التداعيات عندما تحدث، ونأمل أن ينجح أيضا في تخفيف الانتقال إلى التوسع التالي”. بهذا، طمأن الاحتياطي الفيدرالي التجار والمصرفيين إلى أنهم إذا راهنوا بشكل جماعي على أصول مماثلة، فلن يحد ذلك من الجانب الإيجابي، لكنه سيحد من الجانب السلبي إذا أخفقت رهاناتهم.
وقد رسخت تدخلات الاحتياطي الفيدرالي اللاحقة هذه المعتقدات، الأمر الذي زاد من صعوبة مهمة الاحتياطي الفيدرالي في كبح جماح الأسواق المالية من خلال تحركات متواضعة. والآن وقد بات من المحتمل أن تنشأ الحاجة إلى قدر أعظم كثيرا من إحكام السياسات وما يترتب على ذلك من آلام، فربما يكون التوصل إلى الإجماع لصالح هذه السياسات أشد صعوبة.
السياسة المالية أيضا مذنبة بالترويج لتدابير اقتصادية يفترض أنها غير مؤلمة. قد يتفق أغلب الناس على أن الجائحة أوجدت الحاجة إلى الإنفاق الموجه (من خلال إعانات البطالة الممتدة والسخية، على سبيل المثال) لحماية الأسر الأشد تضررا. لكن في هذه الحالة لم يكن الإنفاق موجها على الإطلاق. فقد أقر الكونجرس الأميركي فواتير بقيمة تريليونات الدولارات تقدم شيئا للجميع.
قدم برنامج حماية الرواتب، على سبيل المثال، 800 مليار دولار في هيئة مِـنَـح (بشكل فعال) للشركات الصغيرة في مختلف المجالات. تشير تقديرات دراسة جديدة أجراها ديفيد أوتور وزملاؤه في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا إلى أن البرنامج ساعد في الحفاظ على 2 مليون إلى 3 مليون سنة عمل من العمالة على مدار 14 شهرا، بتكلفة مذهلة تراوحت من 170 ألف دولار إلى 257 ألف دولار لكل سنة عمل. الأسوأ من هذا أن 23% إلى 34% فقط من هذه الأموال ذهبت مباشرة إلى العاملين الذين كانوا ليفقدوا وظائفهم لولاها. فقد ذهب القسم الأعظم من هذه الأموال إلى دائنين، وأصحاب أعمال، ومساهمين. في الإجمال، ذهب ما يقدر بثلاثة أرباع مزايا برنامج حماية الرواتب إلى المنتمين إلى الخمس الأعلى على جدول أصحاب الدخول.
بطبيعة الحال، ربما أنقذ البرنامج بعض الشركات التي كانت لتنهار لولاه. ولكن بأي تكلفة؟ بينما يتوقع الرأسماليون الأرباح، فإنهم يدركون أيضا أن الفشل احتمال قائم. علاوة على ذلك، تعمل العديد من الشركات الصغيرة كعمليات صغيرة دون قدر كبير من رأس المال التنظيمي. إذا اضطر مَـخـبَـز صغير إلى الإغلاق، فإن التأمين المحسن ضد البطالة كان ليعمل على تخفيف التداعيات الاقتصادية المترتبة على إغلاقه. وإذا كان عملاء المخبز مخلصون له، فقد يتمكن من العودة إلى العمل بعد الجائحة، ربما بمساعدة بسيطة من أحد البنوك.
يتمثل الخط المعياري هنا في أن الإنفاق غير المقيد كان مدفوعا بإحساس مفاده أن الأوقات غير المسبوقة تتطلب إجراءات غير مسبوقة. الواقع أن الاستجابة للأزمة المالية العالمية في عام 2008 هي التي كسرت الإجماع السابق لصالح سياسات أكثر حكمة. فقد عمل الاستياء العام المستمر إزاء حصول “وال ستريت” على قدر من المساعدات أكبر من ذلك الذي تلقاه “مين ستريت” على تحفيز الساسة في كل من الحزبين الرئيسيين على الإنفاق بسخاء عندما اندلعت الجائحة. لكن إعانات البطالة الموجهة كانت مرتبطة بالديمقراطيين، مما حمل الجمهوريين على السعي إلى تحقيق مكاسب لصالح قواعدهم الانتخابية. ومن قد يشكل أفضل دعم لهم غير الشركات الصغيرة؟
في حين كانت الانقسامات السياسية تدفع الإنفاق غير الموجه إلى الارتفاع، لم يتقدم أحد من صقور الميزانية للإدلاء بدلوه في الأمر: فقد طغى الاقتصاديون على أصواتهم إلى أن أصبحت غير مسموعة. بالإضافة إلى المهووسين الذين يظهرون بشكل دوري للدعوة إلى وجبات غداء مجانية ظاهريا من خلال الإنفاق الممول بالنقود، كانت جوقة متنامية من الاقتصاديين المنتمين إلى التيار الرئيسي تزعم أن أسعار الفائدة المنخفضة الغالبة أعطت البلدان المتقدمة مجالا أكبر كثيرا لتوسيع العجز المالي. وتجاهل الساسة الذين كانوا حريصين على تبرير سياساتهم المحاذير التي أعرب عنها هؤلاء الاقتصاديون ــ أن الإنفاق يجب أن يكون معقولا، وأن أسعار الفائدة يجب أن تظل منخفضة. استُـقـبِـلَـت الرسالة الرئيسية فقط بالاهتمام، وكل من اقترح غير ذلك كان يلقى معاملة متعصب يحاول التكفير عن ذنبه.
تاريخيا، كانت مهمة الاحتياطي الفيدرالي تتلخص في إحكام السياسة النقدية قبل أن يتملك الجنون من الحفل، وكانت وظيفة الكونجرس تتمثل في توخي الحكمة في التعامل مع العجز المالي والدين. لكن رغبة الاحتياطي الفيدرالي في تجنيب السوق الآلام أفضت إلى زيادة في النزوع إلى خوض المجازفات، وعملت على تعزيز التوقعات بالمزيد من التدخلات. كما أضافت تصرفات الاحتياطي الفيدرالي إلى الضغوط المفروضة على الكونجرس لحمله على القيام بوظيفته لصالح “مين ستريت”، وأدى هذا بدوره إلى التضخم والاعتقاد بأن الاحتياطي الفيدرالي سيتراجع عن رفع أسعار الفائدة.
كل هذا يجعل العودة إلى الإجماع السابق أكثر صعوبة. عندما يرفع الاحتياطي الفيدرالي أسعار الفائدة بشكل كبير، فإن التكاليف التي تتحملها الحكومة لسداد أقساط الدين من الإنفاق السابق ستحد من الإنفاق في المستقبل، بما في ذلك على السياسات الرامية إلى تضييق فجوات التفاوت (التي غذت الانقسامات السياسية)، ومكافحة حالات الطوارئ في المستقبل، والتصدي لتغير المناخ.
يتمتع كل اقتصاد بمخزون محدود من مصداقية السياسات والموارد، والتي يتسنى أفضل استخدام لها من خلال التخفيف من الضائقة الاقتصادية الحقيقية، وليس حماية أولئك القادرين على تحمل بعض الآلام. إذا كان الجميع راغبين في الحصول على وجبة غداء مجانية، فسوف يتحمل الفاتورة في النهاية أولئك الأقل قدرة على تحملها. كان لزاما على اقتصادات الأسواق الناشئة أن تتعلم هذا بالطريقة الصعبة. وربما تضطر البلدان المتقدمة إلى تعلم ذات الدرس مرة أخرى.
* راغورام ج. راجان، محافظ بنك الاحتياطي الهندي السابق، وأستاذ المالية في كلية الأعمال بجامعة شيكاغو، ومؤلف كتاب الركيزة الثالثة: كيف تترك الأسواق والدولة المجتمع وراءهم
https://www.project-syndicate.org