- فتحت نتائج الانتخابات البلدية الأخيرة في تركيا البابَ على تغير محتمل في موازين القوى السياسية والمشهد السياسي الداخلي عموماً؛ إذ مُني حزب العدالة والتنمية الحاكم لأول مرة بهزيمة انتخابية، وحل ثانياً في نسبة التصويت بعد حزب الشعب الجمهوري المعارض، وخسر أهم البلديات الكبرى.
- من أهم مفاجآت الانتخابات البلدية بروز حزب الرفاه الجديد الإسلامي، الذي استطاع جذب ناخبي حزب العدالة والتنمية الحاكم، ليظهر مُنافساً أول للحزب الحاكم في محافظات الأناضول المحافظة.
- بفوز رئيس بلدية إسطنبول المعارض، أكرم إمام أوغلو، بولاية جديدة، برز زعيماً سياسياً حقيقياً، وبات مرشحاً للمنافسة على رئاسة الجمهورية في انتخابات 2028.
- ستشكل الأشهر الـ18 المقبلة اختباراً مهماً للحزب الحاكم وحزب الشعب الجمهوري المعارض على السواء، وستدخل تركيا مرحلة من المنافسة بين المعارضة والحكومة على أداء الخدمات الأفضل والإصلاح، على حساب الاستقطاب القومي والطائفي، وهو ما قد يؤدي إلى انفتاح أكبر على القضية الكردية، وجعل السياسة الخارجية أكثر ميلاً باتجاه الاتحاد الأوروبي والغرب.
جرت الانتخابات البلدية في تركيا بعد عشرة أشهر فقط من الانتخابات الرئاسية والبرلمانية التي فاز بها التحالف الحاكم في مايو 2023، وكان من المفاجئ أن تنقلب النتيجة في الانتخابات البلدية لصالح المعارضة التي حققت انتصاراً كبيراً تجاوز كل التوقعات، وقد يؤدي مستقبلاً إلى تغيير في المشهد السياسي، وموازين القوة على الساحة السياسية التركية. لكنْ يجب الانتباه هنا إلى أن هذه النتيجة لم تأت بفضل تحسُّن أداء المعارضة -حتى الآن على الأقل- وإنما بسبب سوء أداء التحالف الحاكم، وكذلك تراجع نسبة المصوتين في الانتخابات بنحو 10% يُعتقد أن غالبية هؤلاء كانوا من ناخبي التحالف الحاكم.
وبغض النظر عن الأسباب التي سنأتي على شرحها تفصيلياً لهذه النتيجة، فإن حزب الشعب الجمهوري المعارض، الذي غيّر قيادته في نوفمبر الماضي بعد خسارة الانتخابات الرئاسية، حقّق أفضل نتيجة له منذ عام 1977، بكسره حاجز الـ 30% الذي بقي تحته طوال العقود الثلاثة الماضية بعد أن حصد 37 % من عموم الأصوات في تركيا، بالإضافة إلى التقدم في 35 محافظة، تضم 14 بلدية كبرى، مثل إسطنبول وأنقرة وإزمير وأضنة وبورصة، مقابل التقدم في 24 محافظة، تضم 12 بلدية كبرى لحزب العدالة والتنمية الحاكم. وسيشكل هذا النجاح لحزب الشعب الجمهوري فرصةً ذهبية للحزب من أجل تغيير الصورة النمطية لدى الناخبين عنه إنْ هو أحسن استخدامها، وأثبت جدارته في الأعوام المقبلة في تقديم خدمات بلدية أفضل، والتواصل بشكل مباشر مع الناخبين من خلال المشاريع الخدمية لبلدياته، خصوصاً أن نجاح حزب العدالة والتنمية في الوصول إلى الحكم والبقاء فيه لأكثر من عقدين متواصلين، كان أساسه إثبات جدارته في تقديم الخدمات البلدية قبل الوصول إلى سدة الحكم السياسي.
ومثلما كسرت هذه الانتخابات الحاجزَ النفسي بين شرائح من الناخبين وحزب الشعب الجمهوري، كسرت أيضاً الاعتقاد الذي تجذَّر خلال عقدين بأن حزب العدالة والتنمية لا يمكن هزيمته في الانتخابات، بعد أن كسب كل الانتخابات التي خاضها منذ تأسيسه، فقد خسر الحزب في هذه الانتخابات المزيد من البلديات التي كان يسيطر عليها، وجاء ثانياً للمرة الأولى في المجموع الكلي للأصوات التي حصدها في عموم تركيا، بنسبة 35%، وهي ضربة نفسية ثانية بعد عدم تمكّن الرئيس أردوغان من الفوز في الانتخابات الرئاسية الأخيرة من الجولة الأولى، ناهيك بأن الدستور التركي يمنع أردوغان من الترشح مجدداً للرئاسة عام 2028 -في حال لم يتغير الدستور حتى ذلك الحين- مما يُنعش آمال المعارضة بشكل غير مسبوق للوصول إلى الحكم.
ما الذي تغيَّر منذ الانتخابات الرئاسية؟
كانت نتائج الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في مايو العام الماضي قد وجهت ضربة إلى آمال الناخبين المعارضين، وأدت إلى تشتت تحالفهم ودخولهم في دوامة من تبادل الاتهامات حول سبب خسارة تلك الانتخابات، فيما خرج الرئيس أردوغان منتصراً رغم الوضع الاقتصادي السيء، مما أعطى انطباعاً باستحالة هزيمته هو وحزبه. لكنْ، من زاوية تحليلية أخرى، يرى عثمان سيرت، رئيس شركة بانورامامتر لاستطلاعات الرأي، أن الانتخابات البلدية التي جرت في 31 مارس جاءت في شكل دورة ثالثة للانتخابات الرئاسية السابقة، وأن الناخب كان يبحث عن بديل لأردوغان منذ الانتخابات الرئاسية، ويريد التخلص من سياساته، لكنه لم يجد في مرشح المعارضة، كمال كيلجدار أوغلو، المرشح البديل الجيد الذي يثق به، بسبب ضعف شخصيته وهويته العلوية، فيما وجد الناخب الفرصة سانحة في الانتخابات البلدية ليوجه تصويتاً عقابياً للرئيس أردوغان وحزبه.
وإضافة إلى ما سبق، فإن الرئيس أردوغان فشل في تحقيق وعوده الانتخابية في الانتخابات الرئاسية، ولم يستطع تحقيق إصلاح في الوضع الاقتصادي ينعكس على الحياة المعيشية للمواطن، كما أن العجز الكبير في ميزانية الدولة لم يسمح له بتحقيق وعده برفع الحد الأدنى للأجور للمتقاعدين، والذي يبلغ نحو 10 آلاف ليرة فقط (نحو 300 دولار)، ويُعتقد أن المتقاعدين هم الذين قاطعوا الانتخابات البلدية هذه المرة. وعليه فإنه رغم تشرذم المعارضة وضعف أدائها، إلا أن الرغبة لدى الناخب في “معاقبة” الرئيس أردوغان هي التي أدت إلى هذه النتائج.
لماذا خسر حزب العدالة والتنمية الانتخابات؟
هناك عدة عوامل مهمة أدت إلى تراجع شعبية الرئيس أردوغان وحزبه، أهمها:
أولاً، الوضع الاقتصادي: عادة ما يؤثر الوضع الاقتصادي في رأي الناخب في تركيا، لكن الرئيس أردوغان وحزبه نجحا في فرض استقطاب أيديولوجي (بين العلماني والإسلامي)، وقومي (بين التركي والكردي) في السنوات الأخيرة، من أجل رص صفوف الناخبين خلفهم رغم تراجع الوضع الاقتصادي تدريجياً. لكن في هذه الانتخابات وصل التدهور الاقتصادي إلى درجة لم يعد يستطيع معها الرئيس أردوغان أن يزيح أنظار الناخبين عن وضعهم المعيشي، بل اعترف خلال كلمة له في 18 فبراير الماضي حين ذُكِّرَ بوعده برفع الحد الأدنى لأجور المتقاعدين، “بأن خزينة الدولة خاوية، ولو أننا رفعنا أجور المتقاعدين فإننا لن نتمكن من دفع رواتب الموظفين في الحكومة”. وهو اعتراف خطير وغير مسبوق، ناهيك عن أن خطة التعافي الاقتصادي التي اعتمدها الرئيس أردوغان –مرغماً– بعد الانتخابات الرئاسية والمبنية على استعادة ثقة المستثمرين الأجانب في تركيا، كان من الممكن أن تصاب في مقتل في حال نفّذ وعده هذا ورفع أجور المتقاعدين.
وتقول المحللة السياسية نوراي مرت إن أردوغان نجح بشكل بارع في تأجيل غضب الناخبين ضده بسبب أدائه الاقتصادي والسياسي منذ المحاولة الانقلابية الفاشلة عام 2016، من خلال استخدام سياسة الاستقطاب الأيديولوجي، وأن رد فعل الشارع التركي على سياساته جاء متأخراً بسبب نجاحه في جذب الشارع، لكن الوضع الاقتصادي وصل حداً ما عاد يمكن معه الاعتماد على سياسة الاستقطاب هذه. وفي المقابل، يقول المحلل السياسي طانجو طوسون إن إردوغان نجح من خلال إدارته لعدد من البلديات الكبرى، وعلى رأسها أنقرة وإسطنبول، في تقديم خدمات جيدة للناخبين، وقدم معونات اقتصادية للفقراء، وفتح العديد من المحلات التجارية والمطاعم التي تقدم الوجبات الغذائية بأسعار مخفضة، كما ابتعد مؤخراً عن رفع الشعارات الأتاتوركية والعلمانية المستفزة، بعد تغيير قيادته في نوفمبر الماضي، وأن هذه السياسة أثرت في رأي الناخبين الأكثر فقراً والذين كان يعتمد عليهم الحزب الحاكم في تأمين أصواته.
ثانياً، سياسة حكم الرجل الواحد: يبدو واضحاً تراجع شعبية حزب العدالة والتنمية منذ اعتماد تغيير نظام الحكم من البرلماني إلى الرئاسي، ومن الرئاسي الذي يكون فيه الرئيس محايداً سياسياً، إلى النظام الرئاسي الذي يركز كل السلطات بيد زعيم حزب سياسي. فقد أدى هذا النظام إلى زيادة خلل كبير في سياسات القضاء والتوظيف العام والرقابة السياسية والإدارية. وقد أشار زعيم حزب الشعب الجمهوري أوزغور أوزال إلى ذلك في خطابه بعد الانتخابات البلدية، حيث قال “إن الشعب التركي وجّه رسالة قوية برفضه نظام الحكم الحالي الذي يقوده زعيم سياسي واحد، وفي أول انتخابات في المئوية الثانية للجمهورية التركية أكد الناخب التركي أنه يريد عودة نظام الرقابة والمحاسبة السياسية من جديد، وهذا يفتح الباب واسعاً أمام تغيير سياسي قوي وحقيقي في تركيا الجديدة”.
ثالثاً، بروز حزب الرفاه الجديد بوصفه خياراً إسلامياً جديداً: برز حزب الرفاه الجديد الإسلامي في هذه الانتخابات فائزاً حقيقياً ثانياً بعد حزب الشعب الجمهوري، إذ إن هذا الحزب الذي يُعد الوريث السياسي لحزب الرفاه الإسلامي الذي أسسه نجم الدين أربكان، لم يكن موجوداً على الخريطة السياسية قبل الانتخابات الرئاسية الأخيرة، وقد دخل حينها في تحالف مع الحزب العدالة والتنمية، لكنه منذ ذلك الحين بدأ يتصرف كحزب معارض ووجّه انتقادات كثيرة لأداء الحكومة الاقتصادي، كما استغل زعيمه فاتح أربكان -النجل الأكبر لنجم الدين أربكان- أزمة غزة بشكل قوي، خصوصاً مع تواتر الأخبار عن تزايد التجارة بين تركيا وإسرائيل في خلال هذه الأزمة.
ونجح الحزب في سحب البساط من تحت أقدام الرئيس أردوغان، وجذْب جزء مهم من التيار الإسلامي، خصوصاً مع توجه حزب العدالة والتنمية إلى السياسات القومية مؤخراً بشكل أكبر. ووضع فاتح أربكان الحكومة في مأزق عندما عرض قبل الانتخابات بأيام قليلة الانسحاب من الانتخابات لصالح الحزب الحاكم، مقابل إعلان الحكومة حظر التعامل التجاري مع إسرائيل، ووقف التعاون الاستخباراتي معها. ويمكن القول بأن حزب الرفاه الجديد استطاع أن يُزايد على سياسة الرئيس أردوغان الإسلامية تجاه القضية الفلسطينية بنجاح.
وعليه حقق حزب الرفاه الجديد نتائج غير متوقعة مع جذبه لصوات التيار الإسلامي الغاضب من أردوغان، وحقق نسبة 6% في عموم أصوات تركيا، وانتزع رئاسة بلديتي أورفا ويوزغات من حزب العدالة والتنمية الحاكم، كما حقق أرقاماً كبيرة في معاقل الحزب الحاكم ذات التوجه الإسلامي، مثل 23% في قونية، و20% في قيصري، و33% في كهرمان مرعش، و21% في العزيز وسط الأناضول، فيما حقق نسبة 18% في ريزه، مسقط رأس الرئيس أردوغان على البحر الأسود. وبهذا بدا واضحاً أن الناخبين الإسلاميين المنزعجين من سياسات الرئيس أردوغان السياسية والاقتصادية، والذين لا يريدون التصويت لحزب الشعب الجمهوري العلماني الأتاتوركي، وجدوا ضالتهم في الانتخابات البلدية في حزب الرفاه الجديد الإسلامي.
رابعاً، تراجُع نسبة المشاركة في الانتخابات: على العكس مما كان متوقعاً من أن يقاطع الناخبون المعارضون الانتخابات احتجاجاً على الأداء السيئ لأحزاب المعارضة، فإن الذي حصل كان العكس، فوفق استطلاعات الرأي الأولية فإن الناخب الذي اعتاد على التصويت للحزب الحاكم هو الذي قاطع الانتخابات في الأغلب. ففي انتخابات البلدية عام 2019 كانت نسبة المشاركة نحو 82%، فيما تراجعت إلى 78% في انتخابات مارس 2024.
خامساً، تراجع أداء الشريك القومي: من أهم ما أسعف الرئيس أردوغان في الانتخابات البرلمانية والرئاسية السابقة، توجه الناخبين الساخطين على سياساته للتصويت لحزب الحركة القومي المتحالف معه، كبديل عن التصويت للمعارضة، لكن حزب الحركة القومية لم يقدم أي جهد يذكر في حملته الانتخابية هذه المرة، بسبب مرض زعيمه دولت باهشلي وضعف كوادره، وهو ما أدى إلى تراجع أصواته من 11% في الانتخابات البرلمانية الأخيرة إلى 3% في الانتخابات البلدية.
سادساً، ضعف المرشحين وملفات الفساد: رفض جميع مرشحي التحالف الحاكم الدخول في مناظرات سياسية إعلامية مع مرشحي المعارضة في هذه الانتخابات، وهو ما شكل اعترافاً واضحاً بضعفهم. وبسبب الانشقاقات التي توالت في الحزب الحاكم، لم يعد لدى الرئيس أردوغان في كوادره أسماء قيادية يستطيع تقديمها للمنافسة في الانتخابات. والمثال الأبرز على ذلك مرشحه لبلدية إسطنبول مراد كوروم الذي يفتقر إلى الكاريزما والخبرة السياسية، وعلى الرغم من أن استطلاعات الرأي كانت تشير إلى تقارب شعبيته مع منافسه إمام أوغلو قبل الانتخابات بشهر، لكنْ مع الوقت وقع كوروم في العديد من الهفوات والأخطاء التي أضرت بصورته. كما أن مرشح التحالف الحاكم لبلدية أنقرة ترغوت ألطنوك اضطر إلى الكشف عن ذمته المالية التي أدهشت حتى حزبه الحاكم بسبب عظم ثروته، مما أثار شكوك الفساد تجاهه، في وقت تمر تركيا بأزمة اقتصادية خانقة.
أسباب نجاح حزب الشعب الجمهوري المعارض
لم تتوقع استطلاعات الرأي فوز حزب الشعب الجمهوري في هذه الانتخابات، وذلك لأن معظم استطلاعات الرأي كانت تظهر وجود نحو 20% من المترددين وغير المحددين لخيارهم الانتخابي، والواضح أن نصف هؤلاء قاطعوا الانتخابات والنصف الآخر صوَّت لحزب الشعب الجمهوري وحزب الرفاه الجديد باعتباره خياراً جديداً، وهو ما أدى إلى هذه النتيجة المفاجئة. لكنْ هناك عوامل على الأرض أدت أيضا إلى تقدم هذا الحزب، أهمها الآتي:
أولاً، عودة أصوات ناخبي حزب الجيد القومي المعارض إلى الشعب الجمهوري: ظهر حزب الجيد القومي المعارض بديلاً عن حزب الحركة القومي الذي انشق عنه بعد عام 2018، واستقطب أصوات الناخبين القوميين المستائين من سياسات الحكومة وحليفها حزب الحركة القومية، وساعدت سياسة الاستقطاب القومية التي انتهجها الرئيس أردوغان في تعزيز قوة حزب الجيد في المعارضة وحصوله على نسبة 10% من مجموع الأصوات في تركيا. كما أن تحالف حزب الجيد مع حزب الشعب الجمهوري في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية الأخيرة عزز موقعه في المعارضة. لكنْ بعد الانتخابات الرئاسية، عمدت زعيمة حزب الجيد السيدة ميرال أكشنار، وبشكل مفاجئ وغير مفهوم، إلى فك تحالفها مع حزب الشعب الجمهوري، وانتهجت سياسات معادية له، وحاولت التقرب من الرئيس أردوغان، وقد أدى ذلك إلى تصدعات كبيرة في الحزب واستقالة عدد كبير من قياداته احتجاجاً على قرارات زعيمة الحزب ونهجها.
عزز هذا النهج إشاعات انتشرت في الوسط السياسي بأن زعيمة الحزب أكشنار كانت متواطئة مع الرئيس أردوغان منذ البداية، وأنها لعبت دور “حصان طرواده” داخل المعارضة في الانتخابات الرئاسية، وأن دورها كان التأكد من ترشح كمال كليجدار أوغلو للرئاسة، المرشح الأضعف بين المرشحين الثلاثة لهذا السباق حينها مقارنة بأكرم إمام أوغلو رئيس بلدية إسطنبول، ومنصور ياواش رئيس بلدية أنقرة. كما ذهبت السيدة ميرال أكشنار إلى تقديم مرشح لحزبها في إسطنبول على الرغم من علمها بأن لا فرصة له بالفوز، وأن مشاركته في هذا السباق تصب في مصلحة مرشح الحزب الحاكم، وتقلل فرص رئيس البلدية الحالي المعارض أكرم إمام أوغلو الذي كانت تجمعها معه علاقة جيدة سابقاً، بل ذهبت إلى توجيه انتقادات قوية لأداء أكرم إمام أوغلو في رئاسة البلدية، وهو الأمر الذي لم يستطع أحد تفسيره، ما عزز قوة تلك الشائعات ضدها. وفي المحصلة أدت سياسات زعيمة الحزب أكشنار إلى تراجع أصوات حزبها إلى 2.5%، وذهاب ناخبيها للتصويت لحزب الشعب الجمهوري.
ثانياً، فشل الصفقة بين الأكراد والرئيس أردوغان: أدى حزب المجتمع الديمقراطي الكردي دوراً مهماً في الانتخابات دوماً، وكان ناخبوه سنداً مهمهاً في وصول المعارض أكرم إمام أوغلو إلى رئاسة بلدية إسطنبول عام 2019 حين لم يقدم الحزب الكردي هناك مرشحاً له، لتذهب أصوات الحزب الكردي البالغة نحو 10% من أصوات ناخبي إسطنبول إلى أكرم إمام أوغلو.
لكن قبل الانتخابات البلدية الأخيرة، حاول الحزب الكردي طرح صفقة على الرئيس اردوغان، من أجل الحصول على وعد ببدء مسار جديد لحل القضية الكردية، والإفراج عن قيادات الحزب السياسية، وعلى رأسهم زعيم الحزب السابق صلاح الدين دميرطاش، مقابل ترشيح شخصية قوية للحزب في إسطنبول تحرم أكرم إمام أوغلو من الحصول على دعم الأكراد هناك، مما يصب في مصلحة مرشح الحكومة. لكن الرئيس أردوغان تجاهل هذا العرض بسبب تحالفه مع حزب الحركة القومي المعارض لهذا النهج. ورغم ذلك قدم حزب المجتمع الديمقراطي مرشحة له في إسطنبول، لكن ناخبي الحزب لم يصوتوا لها لعلمهم بأنها لا فرصة لها في الفوز، وفضلوا تأييد أكرم إمام أوغلو، وهو ما وسع الفارق بينه وبين مرشح الحكومة وزير الإعمار السابق مراد كوروم إلى 12 نقطة، حيث حصل أكرم إمام أوغلو على 51% من الأصوات. فيما حصد الحزب الكردي معظم بلديات جنوب شرقي تركيا ذات الغالبية الكردية كعادته، لكن مع تراجع في نسب أصواته في عموم تركيا من 9% إلى 5.5% بسبب خسارته لناخبيه في إسطنبول.
ثالثاً، دور تغيير قيادة حزب الشعب: يبدو أن إزاحة الزعيم السابق لحزب الشعب الجمهوري والمرشح الرئاسي السابق كمال كيلجدار أوغلو من المشهد السياسي قد أفاد حزب الشعب الجمهوري رغم استمرار الخلافات الداخلية في الحزب، إذ إن ارتباط اسم كليجدار أوغلو بخسارة الانتخابات التي خاضها منذ توليه زعامة الحزب، وهويته العلوية، شكّلا عاملاً نفسياً ضد تصويت ناخبين جدد لحزبه. كما أن بروز كل من أكرم إمام أوغلو ومنصور ياواش بوصفهما قياديين مهمين، إلى جانب زعيم الحزب الجديد أوزغور أزال، جدّد الأمل لدى ناخبي الحزب بإحداث تغيير حقيقي وجذري في سياسات الحزب وكوادره. ويمكن القول بأن أكرم إمام أوغلو ظهر عملياً زعيماً للحزب أكثر من أوزغور أوزال، وأن محاولات الإيقاع بينهما من قبل بعض التيارات في الحزب الحكومة فشلت، وظهر الاثنان في صورة الثنائي المتعاون.
الاستنتاجات
من المهم التأكيد على أن نتائج الانتخابات البلدية هذه لا تعني نهاية حزب العدالة والتنمية الحاكم، وإنما تمثل كبوةً له يمكن أن يقوم من بعدها إنْ هو استطاع إصلاح الوضع الاقتصادي، وتغيير سياساته الداخلية باتجاه الإصلاح الديمقراطي. وكذلك، فإن هذه الانتخابات لا تعني تعافي حزب الشعب الجمهوري من مشاكله الداخلية وأنه سيحافظ على شعبيته الحالية، وهو أمر منوط بترتيب الحزب لصفوفه الداخلية من جديد وتقديم أداء خدمي مميز من خلال البلديات التي حصل عليها.
ومن ثمَّ، ستشكل الأشهر الـ18 المقبلة اختباراً مهماً وحقيقياً للحزب الحاكم وحزب الشعب الجمهوري المعارض على السواء، فإن استطاع الرئيس أردوغان إجراء إصلاحات سياسية واقتصادية مهمة وحصل على الدعم الدولي اللازم لذلك، فإن بإمكانه استعادة شعبيته وشعبية حزبه من جديد. وفي المقابل، إنْ قدم حزب الشعب الجمهوري خدمات بلدية مميزة، وأحسن استغلال فرصة تواصله مع الناخبين على الأرض في بلدياته، وعزز من قيادة أكرم إمام أوغلو بوصفه زعيماً للمعارضة بأكملها، فإنه حينها سيشكل تهديداً حقيقياً وقوياً للرئيس أردوغان وحزبه الحاكم. وعليه، فإن تركيا ستدخل مرحلة من المنافسة بين المعارضة والحكومة على أداء الخدمات الأفضل والإصلاح، على حساب الاستقطاب القومي والطائفي الذي كان طاغياً في السنوات الماضية، وهو ما قد يؤدي إلى انفتاح على القضية الكردية والسياسات الخارجية باتجاه الاتحاد الأوروبي والغرب أكثر.
ومن أهم الاستنتاجات التي تجدر الإشارة إليها ما يلي:
- كان حزب الشعب الجمهوري بهويته العلمانية الأتاتوركية، محصوراً في حصد أصوات المدن الساحلية في غرب وجنوب تركيا، لكنه بعد هذه الانتخابات حصل على فرصة الوصول إلى مناطق الأناضول والبحر الأسود، وهذا يعني كسر الحاجز النفسي لدى الناخبين المحافظين تجاه هذا الحزب، بعد أن كانوا ينظرون إليه على أنه حزب يساري يمثل التيار العلوي في تركيا. وفي حال عزز أكرم إمام أوغلو ومنصور ياواش الصورة الجديدة للحزب فإن هذا سيجعله منافساً قوياً مستقبلاً للتحالف الحاكم، ويُنهي الاستقطاب الأيديولوجي الذي يصب في مصلحة الحكومة. كما يمكن القول بأن هذه الانتخابات أنْهت “الفقاعة” القومية في تركيا، وأدت إلى تحجيم شعبية هذه الأحزاب ودعايتها.
- يشير بعض المحللين المقربين من الرئيس أردوغان وحزبه الحاكم، إلى أن الرئيس أردوغان يركز أكثر على الانتخابات الرئاسية المقبلة عام 2028، لذا وضع أولويته إصلاح الاقتصاد وعدم تقديم وعود انتخابية للمتقاعدين والإنفاق بتوسع في الانتخابات البلدية على عكس عاداته. وعليه فإنه من المتوقع أن يذهب الرئيس أردوغان إلى الاستمرار في إصلاحاته الاقتصادية رغم قساوتها من أجل تحقيق نجاح ما قبل الانتخابات الرئاسية، ومن المحتمل أيضاً أن يلجأ إلى تغيير في تشكيل حكومته الحالية من أجل إرضاء الناخبين، وإجراء بعض الإصلاحات الديمقراطية المحدودة.
- هذا الفوز الكبير للمعارضة في الانتخابات كسر هيبة الرئيس أردوغان داخلياً وخارجياً، خصوصاً مع ظهور أكرم إمام أوغلو زعيماً محتملاً للمعارضة مستقبلاً، ومنافساً قوياً على الانتخابات الرئاسية المقبلة. ومع اضطرار الرئيس أردوغان لفرض سياسة اقتصادية إصلاحية قاسية لعدة أشهر، فإن شعبية إمام أوغلو وأسهمه قد ترتفع بشكل كبير وربما يُنظَر إليه كمُنقذٍ لتركيا، وهو ما يضع الرئيس أردوغان وحكومته أمام وضع صعب، ويجعلهما أكثر حذراً في سياساتهما الداخلية.
- عودة حزب العدالة والتنمية إلى شعبيته السابقة ممكنة، إذ نلاحظ أن الناخبين الذين صوتوا لمرشحي المعارضة لرئاسة البلديات، صوتوا لصالح الحزب الحاكم في تشكيل مجلس البلدية، وهو مؤشر مهم على أن هذه الشريحة من الناخلين لا يثقون في المعارضة وإنما يريدون توجيه تحذير للحكومة، ويمكن استعادة ولائهم مستقبلاً.