هذه الجولة من المعارك ربما تكون انتهت اليوم، وقد تتواصل في جولات مقبلة، فالأمر منوط من جهة، بما ستقرّره إسرائيل من ردٍ على الرد، والأهم بما ستفعله واشنطن لكبح جماح أزعر الحي المنفلت من كلّ عقال في “تل أبيب” من جهة ثانية، لكن في مطلق…
خرجت إيران عن “صبرها الاستراتيجي”، بعد أن أيقنت بأنّ “إسرائيل”، فهمت صبرها ضعفاً، وتمادت في استهداف قادتها ومواقعها الحسّاسة، أمنياً وعسكرياً وتكنولوجياً، وصولاً إلى ضرب قنصليتها في دمشق، وقتل سبعة من رجالات حرسها الثوري، ضاربة عرض الحائط، بكل الأعراف والقوانين الدولية والأخلاقية.
هذه المرة، ليست ككل المرات، فـ “إسرائيل” لم “تُجهّل” الفاعل، ولم تعتمد التكتيكات المتداولة في “حروب الوكالة”، ضربت أرضاً إيرانية، وقتلت ضباطاً إيرانيين، فكان لا بدّ لردّ الفعل أن يكون من “قماشة” الفعل ذاته، كان لا بدّ للانتقام أن ينطلق من أرضٍ إيرانية، وبأيادٍ إيرانية، وضد أهدافٍ إسرائيلية، وفي العمق الإسرائيلي، بخلاف ذلك، وأقلّ من ذلك، كان سيُقرأ ضعفاً، لا صبراً، وهرباً من المعركة قبل وقوعها.
لكنّ إيران الصبورة والمثابرة، لم تتخلَّ عن “استراتيجية حياكة السجادة العجمية”، حتى وهي تتعرّض لأوقح عملية استهداف لقنصليتها وقادتها… سعت لاستصدار بيانات الإدانة من عواصم الغرب، من دون جدوى، بحثت عن ثمن سياسي يمكّنها من تفادي الضربة العسكرية، ولم تحصل عليه، وهي سرّبت بأن إنهاء الحرب على غزة، ووقف المذبحة ورفع الحصار، يمكن أن يكون بديلاً مقبولاً عن “ليلة المسيّرات والصواريخ”.
لكنّ “إسرائيل” رأت في العرض الإيراني، هزيمة مركّبة، تخرج معها طهران بوصفها الطرف المنقذ لغزة من كارثتها الإنسانية الكبرى، وتخرج معها فلسطين ومقاومتها، مكلّلة بأقواس النصر… فكان لا بدّ مما ليس منه بُدّ، كان لا بدّ من ضربة تعيد ترسيم “قواعد الاشتباك” وتجدّد تعريف “الصبر الاستراتيجي” بوصفه مظهر قوة لا أمارة ضعف.
والصحيح أن نظرية “الصبر الاستراتيجي”، مكّنت إيران وحلفاءها من تحقيق جملة من المكاسب، خلال السنوات العشر أو العشرين الفائتة، لكن الصحيح أيضاً، أن هذه النظرية قد استنفدت أغراضها، وباتت تشجّع خصوم طهران، سيما “إسرائيل”، على التطاول والعربدة دون خشية من عقاب، وقديماً قيل “من أمن العقاب أساء الأدب”، و”تل أبيب” باتت على قناعة، أن بمقدورها أن تفعل ما تشاء، كيفما تشاء، وقتما تشاء، وأينما تشاء، دون خشية من عقاب، وهذا وحده، ما يفسّر هجومها الأرعن على القنصلية الإيرانية في دمشق.
ولم يقف الأمر عند هذا الحد بـ “تل أبيب”، فقد ظنت للحظة، أن بمقدورها أن تفرض على لبنان قواعد اشتباك كتلك المعمول بها على الساحة السورية، وهي التي طالما ميّزت بدقة بين المجالين، خطوط خضراء و”معادلة استباحة” في سوريا تقابلها خطوط حمراء في لبنان ارتسمت بالدم بعد تموز 2006، ومنذ السابع من أكتوبر و”إسرائيل” تحاول تغيير قواعد الاشتباك مع لبنان، لكن محاولاتها كانت تصطدم بمعادلة “الدم مقابل الدم” و”النار مقابل النار”…
وما كان لـ “إسرائيل” أن تستمرئ الاستباحة والتطاول، لولا رهانها على عاملين اثنين رئيسين، من بين عوامل عديدة أخرى: أحدهما: “صبر إيران الاستراتيجي” وحرص طهران على تفادي الانزلاق لحرب إقليمية واسعة، وثانيهما: رغبة حزب الله وحرصه، على تفادي الذهاب بلبنان إلى حرب شاملة، لا يبدو أن لبنان ـــــ وليس الحزب ـــــ مستعدّ لخوضها لأسباب باتت معروفة للجميع.
اليوم، ينقلب المشهد رأساً على عقب، ويصح معه القول، بأن ما بعد الرابع عشر من نيسان/أبريل ليس كما قبله… فللمرة الأولى منذ خمسة وأربعين عاماً، تدخل طهران على خط النار مباشرة مع “إسرائيل”، وللمرة الأولى منذ قيامها قبل أكثر من خمسة وسبعين عاماً، تتعرّض “إسرائيل” لهذا الوابل من الطيران المسيّر والصواريخ المنطلقة من دولة إقليمية وليس من فصيل مقاوم… ومن الآن فصاعداً، فإنّ على “تل أبيب” أن تتوقّع أن يأتيها الرد مباشرة، وفي عمقها، عن أي عملية استهداف لشخصيات ومواقع إيرانية، فمرحلة “الصبر الاستراتيجي” انتهت، لتحلّ محلّها مرحلة “العين بالعين والسن بالسن”.
صحيح أن إيران لا تريد الانخراط في حرب إقليمية واسعة وشاملة، بل وتسعى في تفاديها ما أمكن لذلك سبيلاً، لكن من قال إن “المعارك بين الحروب” لا تحدث، ولا تحدث باستمرار، وما جرى بالأمس، هو معركة بين الحروب، قد يدفع المنطقة إلى “حافة الهاوية”، ولكن ليس بالضرورة الانزلاق إلى قعرها… وكما عمدت “تل أبيب” في مرات عديدة سابقة، لوضع الإقليم برمّته على مرمى حجر من “الطامة الكبرى”، فإنّ من حقّ طهران، أن تستخدم تكتيك “حافة الهاوية” بدورها، أقلّه لاستعادة الردع وزمام المبادرة، وهذه هي الخلاصة الأولى والأهم، لليلة المسيّرات والصواريخ.
أما الخلاصة الثانية التي تكشّف عنها الهجوم الإيراني على “إسرائيل”، فتتلخّص في أن الأخيرة قد فقدت تماماً ما تبقّى من صورتها “الردعية”، لا هيبة لـ “إسرائيل” ولا صورة ردعية لـ “جيشها” بعد السابع من أكتوبر… إيران نفّذت تهديدها ووعيدها، وقبلها كانت “المقاومات” في المنطقة، قد جعلت ضرب “تل أبيب” و”إيلات” والغلاف وعسقلان والجولان و”كريات شمونة”، ومنع السفن الإسرائيلية من عبور باب المندب، خبراً عادياً، لا تحتفي به الصحافة بما يليق به… الرابع عشر من نيسان/أبريل، أجهز على ما تبقّى من صورة “إسرائيل” الردعيّة التي تهشّمت في السابع من أكتوبر.
الخلاصة الثالثة؛ إن “إسرائيل” تبرهن للمرة الثانية في غضون سبعة أشهر، بأنها أعجز عن حماية نفسها بنفسها، وأن أمنها الفردي والجماعي، بات رهناً بنجدة الحلفاء والأعوان لها… إذ من دون الجسرين الجوي والبحري بعد السابع من أكتوبر، والاستنفار الأميركي –الفرنسي–البريطاني ليلة الرابع عشر من نيسان/أبريل لصدّ المسيّرات والصواريخ الإيرانية عن أجوائها، ما كان لها أن تصمد أو أن تنجو.
تاريخياً، قضت نظرية “الأمن القومي” الإسرائيلية، بالاعتماد على الذات في كل ما يتعلق بقضايا الأمن الفردي والجماعي، مهما كان مستوى العلاقة مع الحلفاء الأقربين والأبعدين… هذه النظرية اختُبرت مرتين في سبعة أشهر وسقطت سقوطاً ذريعاً، وهي لم تختبر من قبل إلا في مرات نادرة (حرب أكتوبر 1973) لأن العرب لا يحاربون… اليوم، سقطت هذه النظرية مرة وإلى الأبد وثبت أن “إسرائيل” كيان يتحوّل إلى عبء على داعميه ورعاته، بدل أن يكون ذخراً لهم…
وتلكم خلاصة نضعها برسم “المطبّعين العرب” الذين ظنوا – وبئس ما ظنوا – أنهم قد يجدون الحماية لديها، فإذا بها أعجز عن حماية نفسها، فلولا استنفار واشنطن لكامل مقدّراتها وحلفائها في الإقليم، لانهمرت الصواريخ والمسيّرات بكامل طاقتها صوب أهدافها المرسومة، ومع ذلك، فإن ما وصل منها، كفيل بنقل رسائل طهران بالكامل.
أياً يكن من أمر، فإن هذه الجولة من المعارك ربما تكون انتهت اليوم، وقد تتواصل في جولات مقبلة، فالأمر منوط من جهة، بما ستقرّره “إسرائيل” من “ردٍ على الرد”، والأهم بما ستفعله واشنطن لكبح جماح “أزعر الحي” المنفلت من كلّ عقال في “تل أبيب” من جهة ثانية، لكن في مطلق الأحوال، فما مضى لـ “إسرائيل” لن يستمرّ بعد الآن، والمنطقة غادرت مربّعات “الصبر الاستراتيجي” و”قواعد حروب الوكالة”، وبات الصراع محتدماً، مكشوفاً ومباشراً، ومن يضحك أخيراً يضحك كثيراً.
المصدر : https://annabaa.org/arabic/authorsarticles/38581