سيباستيان مالابي
قبل سنتين توقعت في “فورين أفيرز” أن يحمل الركود الناتج من “كوفيد-19” غداة الأزمة المالية عام 2008، الديمقراطيات الغنية على إعادة تعريف الحدود القصوى لسلطتها النقدية والمالية، والإيذان بـ “عصر من المال السحري”.
ولأن المصارف المركزية تملك سجلاً مديداً في احتواء التضخم، كان من المرجح ألا ندفع ضريبة الإسراف في الإنفاق، وكان من الممكن أن تتعايش الحوافز الضخمة مع أسعار مستقرة، ولا شك في أن نجاح هذه التجربة كان قيد استمرار صدقية المصارف المركزية في مكافحة التضخم، وفي مقدمها مجلس الاحتياط الفيدرالي الأميركي، ولاحظت قائلاً “إذا خسر المجلس استقلاله فقد ينتهي عصر المال السحري إلى كارثة”.
ومذ ذاك فقدت فكرة المال السحري صدقيتها، وعلى الرغم من أن مجلس الاحتياط الفيدرالي لم يخسر بعد استقلاله، تخبط أمام تحدي التضخم على نحو لم أحسن تقديره بجدية كافية، فللمرة الأولى منذ نحو عقدين تقيد حتمية استقرار الأسعار قدرة المصارف المركزية على تحقيق أهداف أخرى، من الاستقرار المالي (سيكون من الصعب خفض معدلات الفائدة لمساعدة المقترضين الضعفاء) إلى استقرار العمالة (مع محاولة المجلس مواكبة التضخم، فمن المرجح أن يتسبب ذلك في ركود اقتصادي).
وقبل بضع سنوات صور رسامو الكاريكاتور بانتظام مسؤولي المصارف المركزية في ملابس “سوبرمان”، واليوم مع عودة التضخم خسر أبطال النقد الخارقون سلطانهم.
ويتوقف مدى استمرار هذا السقوط غير المضبوط على مسألتين، أولاً هل كانت فكرة المال السحري برمتها محكوماً عليها بالفشل منذ البداية؟ أم هل كان بوسعها أن تنجح لو أديرت في شكل مختلف؟ ثانياً إذا كان في وسع نهج آخر أن ينجح فهل يستطيع مجلس الاحتياط الفيدرالي أن يتعلم دروساً من تجربته؟
الطريق المتبع
نبدأ بالسؤال الأول وهو الأكثر مباشرة، في ظل الظروف المناسبة لا شك في أن الأموال السحرية [الإغداق في الإنفاق] يمكن اللجوء إليها بنجاح، فكلتا النظرية والخبرة تفيد بأن الحوافز الاقتصادية الكبيرة التي يقدمها مسؤولو المصارف المركزية أو سلطات الموازنات أو كلاهما، لا تزعزع بالضرورة استقرار الأسعار، وإذا تسبب انهيار مالي أو جائحة في انهيار الإنفاق الخاص تستطيع الحكومات طباعة أوراق النقد وإدارة العجز في الموازنات في سبيل زيادة الإنفاق من جديد، وإذا جرت معايرة [موازنة] هذا التدخل في شكل جيد بقي الطلب في توازن مع العرض، ولم يتسبب في أي تغيير في التضخم، ولا شك في أن المعايرة أمر صعب، على الأخص لأن سخاء الحكومات يضع المال بين أيدي الشركات الخاصة والأسر، ورغبة هذه في الإنفاق غير مؤكدة، ولكن التحفيز على الأقل يؤدي دوراً في موازنة العرض والطلب، وعلى النقيض من ذلك يضمن عدم التحفيز أن يكون الطلب أدنى مما ينبغي، ومن شأن هذا أن يؤدي إلى الانكماش والركود.
وتوضح استجابة الحكومة للأزمة المالية عام 2008 هذه العملية، فالمصارف المركزية طبعت تريليونات الدولارات، وتكهن منتقدوها بتضخم رهيب، ولكن في غضون 36 فصلاً سنوياً بين عامي 2009 و2017 لم يتجاوز معدل التضخم الأساس قط مستهدف مجلس الاحتياط الفيدرالي البالغ اثنين في المئة، مسجلاً في المتوسط 1.5 في المئة، وإذا كانت التجربة الأولى هذه مع المال السحري بعيدة من التهور فهي اتسمت فعلاً بالخجل الشديد نظراً إلى معدل التضخم المتدني، كان من شأن تحفيز أكبر أن يبدو أكثر مناسبة. وعلى الرغم من ذلك كان التحفيز ناجحاً، وهو أنقذ الاقتصاد الأميركي من تكرار أزمة الكساد الكبير خلال ثلاثينيات القرن الـ 20.
فقدت فكرة المال السحري صدقيتها
في البداية كانت الاستجابة لـ “كوفيد-19” أكثر إثارة للإعجاب، ولقد تسببت الجائحة في انهيار الناتج المحلي الإجمالي الأميركي خلال الفصل الثاني من عام 2020 انكمش الناتج بمعدل سنوي يبلغ 32 في المئة، وكان هذا التراجع أعمق بأربعة أضعاف من الضربة التي تسببت بها الأزمة المالية في الفصل الرابع من عام 2008، وحقيقة كان أشد انكماش حدة في ما بعد الحرب العالمية الثانية على الإطلاق، واستجاب مجلس الاحتياط الفيدرالي بحزم فولد مالاً يساوي ضعفي ما كان في التداول بين عامي 2008 و2009، وأقر الرئيس والكونغرس تحفيزاً للموازنة بلغ ضعفي حجم نسخة عام 2009، ومن خلال العمل بهذه القوة أظهرت السلطات أنها تعلمت الدرس من الركود الأخير عندما خفضت إنفاقها، وشجعها كون توقعات التضخم كانت منخفضة، مما حد من خطر أن يطلق التحفيز دوامة أسعار تضخمية.
وفي النصف الثاني من عام 2020 والفصل الأول من عام 2021 نجح هذا التحفيز الضخم نجاحاً مثالياً، فالاقتصاد الأميركي انتعش مستعيداً تقريباً مستوى ناتجه السابق للجائحة، وعلى الرغم من الطباعة السخية للعملة لم تبرز علامة على التضخم، وفي الفصل الأول من عام 2021 كان المؤشر المفضل لدى مجلس الاحتياط الفيدرالي للأسعار الأساس أعلى بواقع 1.7 في المئة فقط عن العام السابق. وحتى مارس (آذار) ظل مؤشر أسعار سلة المستهلكين الأوسع نطاقاً داخل المدى المريح، ولو وسع السلطات التوقف عند ذلك الحد لوضعت مثالاً أكاديمياً لتثبيت الاقتصاد الكلي، لكن التجربة بدأت تفشل منذ ربيع العام 2021، وتقدم طريقة فشلها دروساً إلى واضعي السياسات الذين يحاولون اجتياز الدور الحالي من الاقتصاد الكلي.
لا تلوموا منصة السلطة
حين اقترحت فكرة المال السحري عام 2020 بدا المصدر الأكثر ترجيحاً لسوء التقدير الاقتصادي مقيماً في البيت الأبيض، ولم يكن الرئيس الأميركي دونالد ترمب ليكن إلا احتراماً قليلاً لاستقلال المصرف المركزي فغرد في شأنه أكثر من 100 مناسبة.
“سؤالي الوحيد هو من هو عدونا الأكبر؟ جاي باول أو الرئيس شي؟”.
هذا ما كتبه محتجاً صيف العام 2019، حين كان رئيس مجلس الاحتياط الفيدرالي جيروم باول يرفع معدلات الفائدة إلى مستويات أعلى من المعدل الذي اعتبره ترمب مناسباً، وأظهرت أقرب سابقة تاريخية لهذا التنمر مدى خطورة العواقب. وفي سبعينيات القرن الـ 20 تقدم الرئيس ريتشارد نيكسون بافتراءات في حق رئيس المجلس آرثر بورنز، وأسهم هذا الترهيب في رسم السياسة النقدية الخجولة المزمنة في ذلك العقد، وبالتالي في الركود التضخمي.
وفي ضوء هذه التجربة بدا طعن ترمب غير المعتدل في مجلس الاحتياط الفيدرالي الخطر الرئيس الذي يتهدد المال السحري، وكان من السهل أن نتخيل إجراء يؤدي إلى طفرة أولية في التضخم بسبب صعوبة معايرة التحفيز، وبمجرد حدوث ذلك قد يتردد المجلس في انتهاج سياسة صارمة، فيسمح للتضخم بالاستمرار خوفاً من ضغوط البيت الأبيض.
وغيرت انتخابات عام 2020 هذه الحسابات، فخلافاً لسلفه لم يبد الرئيس جو بايدن ميلاً إلى ترهيب مجلس الاحتياط الفيدرالي إن على “تويتر” أو على واسطة اجتماعية أخرى، وكانت وزيرة الخزانة جانيت يلين رئيسة سابقة للمجلس، وقد تكون آخر من قد يهاجم المؤسسة.
وفي مايو (أيار) 2022 ومع تعاظم تهديد التضخم بذل بايدن جهداً خاصاً للتأكيد على استقلال المصرف المركزي، فكتب في “وول ستريت جورنال”، “حط سلفي من قدر مجلس الاحتياط الفيدرالي وسعى رؤساء سابقون إلى التأثير في قرارات المؤسسة في شكل غير مناسب أثناء مدد التضخم المرتفع”. وأضاف، “لن أفعل ذلك”.
لكن تبين أن التنمر الرئاسي ليس السبب الوحيد وراء خسارة المصارف المركزية قوتها على ضبط التضخم، ومنذ ربيع وصيف 2021 ارتكب مجلس الاحتياط الفيدرالي ثلاثة أخطاء وفتح الباب أمام ارتفاع الأسعار اليوم، ولكن من المؤسف أن عدداً قليلاً جداً من المراقبين، وكاتب هذه السطور ليس قطعاً منهم، توقعوا الثلاثة.
ولكن النبأ السار هو أن اثنين من هذه الأخطاء يشيران إلى سبل يستطيع بواسطتها مجلس الاحتياط الفيدرالي إصلاح نهجه في المستقبل، وربما إتاحة فرصة العودة في نهاية المطاف لاستخدام المال السحري.
ليست المرحلة عابرة
حظي الخطأ الأول الذي ارتكبه مجلس الاحتياط الفيدرالي بأكبر قدر من الاهتمام، لكنه الخطأ الذي يصعب التعلم منه أكثر من الخطأين الآخرين، واشتمل على سوء معايرة التوازن بين العرض والطلب، وهو تحد بات صعباً بالضرورة كما لاحظنا بالفعل نظراً إلى قرارات الإنفاق غير المتوقعة لدى المواطنين والشركات الخاصة.
وبدأ سوء المعايرة بتمرير “خطة الإنقاذ الأميركية” في مارس 2021، إذ كانت خطة التحفيز الثالثة في الموازنة التي يقترحها الكونغرس الأميركي، وتجاوزت الموازنة الخط الفاصل بين الدعم المناسب وبين المبالغة المريبة، ففي مارس وأبريل (نيسان) 2020 استنّت واشنطن تحفيزاً مالياً بقيمة 2.4 تريليون دولار، وفي ديسمبر (كانون الأول) أتبعته بحزمة أخرى بلغت 900 مليار دولار، وحين كان هذا الإنفاق الإضافي في طور الإعداد كان من المتوقع أن ينمو الاقتصاد الأميركي بمقدار أربعة في المئة بين الفصل الرابع من عام 2020 والفصل الرابع من عام 2021 وهذا أداء معتبر، وصب تحفيز مارس 2021 ما قيمته 1.9 تريليون دولار من الزيت على النار.
وتعليقاً على التحسن المحتمل قبل إقرار مشروع القانون توقعت “مؤسسة بروكنغز” أن الاقتصاد في نهاية عام 2021 سوف “يعمل بما يتجاوز أقصى مستوياته المستدامة”.
وفي مواجهة الخطر المتمثل في التضخم المفرط رفض مجلس الاحتياط الفيدرالي رفع معدلات الفائدة أو التراجع عن التيسير الكمي، أي برنامج شراء السندات الذي يؤثر بواسطته في معدلات الفائدة الأبعد أجلاً، ويرى بعض منتقدي المجلس أن هذا كان خطأ واضحاً، ولو أن مسؤولي المصرف المركزي أنصتوا إلى خبراء في التوقعات مثل فريق “مؤسسة بروكنغز” لكانوا تجنبوا تضخم اليوم، ولكن الحقيقة هي أن التوقع وسط الجائحة كان فناً أكثر منه علماً، وكان موقف مجلس الاحتياط الفيدرالي المترقب مفهوماً.
،، التنمر الرئاسي ليس السبب الوحيد وراء خسارة المصارف المركزية قوتها على ضبط التضخم ،،
وعلى الرغم من أن التحفيز الذي بلغت قيمته 1.9 تريليون دولار يشكل خطراً واضحاً يترتب على المبالغة، ظل من الممكن أن تتضافر قوى أخرى على تخفيف الطلب، وفي إشارة إلى احتمال عشوائي واحد فقط انتشرت المتحورة “دلتا” المعدية من “كوفيد-19” بسرعة صيف 2021، مما أدى إلى ارتفاع معدل العدوى الإجمالي في أغسطس (آب) وسبتمبر (أيلول).
وبينما قبع مجلس الاحتياط الفيدرالي على الهامش ارتفع التضخم الأساس إلى معدل سنوي مقداره 3.4 في المئة خلال الفصل الثاني من عام 2021 و3.6 في المئة في الفصل الثالث.
ومرة أخرى بالاستفادة من الإدراك المتأخر كان لزاماً على المجلس أن يرفع معدلات الفائدة فيطفئ التضخم قبل أن يصبح خطراً، لكن المجلس برر المماطلة بالزعم أن التضخم كان “انتقالياً” وحسب، وبدا كأن اضطرابات سلاسل الإمداد المرتبطة بـ “كوفيد-19” هي التعليل الشافي للضغط المتعاظم على الأسعار. ومع عودة العاملين للعمل وإعادة فتح الموانئ كان من شأن هذه الاختناقات أن تصحح نفسها بكل تأكيد، وكي نكون منصفين مع مسؤولي المصرف المركزي، شارك خبراء اقتصاد محترمون من القطاع الخاص وجهة النظر المتفائلة هذه نفسها، وفي وقت قريب هو نوفمبر (تشرين الثاني) رأى فريق الاقتصادات في “غولدمان ساكس” أن “الاختلالات الأساس بين العرض والطلب ستعالج نفسها بنفسها إلى حد بعيد، مما يبقي معدل التضخم قريباً من هدف المجلس”.
وفي الشهر نفسه عزا بول كروغمان الحائز على جائزة نوبل التضخم إلى اختناقات سلاسل الإمداد، ووصفه بأنه “مشكلة يمكن تبريرها ويمكن إدارتها”.
وبطبيعة الحال، في شكل استرجاعي، كان الفريق القائل بانتقالية التضخم مخطئاً وشاركت في هذا الخطأ، ومن حق هؤلاء الذين تكهنوا بارتفاع الأسعار على النحو الصحيح أن يحتفلوا بانتصارهم، وإذا كان ثمة من درس مستفاد من هذه الأزمة فهو أن التحفيز تضخمي عندما تلحق صدمة اقتصادية ضرراً بالعرض أكبر من الضرر الذي يصيب الطلب، فالحقيقة المذهلة حول الخروج من الجائحة في مرآة خلفية هي أن الناس استأنفوا الإنفاق بسرعة أكبر من استئنافهم العمل، ولكن الأمر الحاسم الأكبر هو أن الاستجابة لأزمة صحية غير مسبوقة مقترنة بصدمة غير مسبوقة على صعيد الناتج المحلي الإجمالي لا بد لها من أن تكون صعبة، وأن المعروف والشائع عن الاختلاف بين صدمات العرض وبين صدمات الطلب لا يجعل الاستجابة أسهل، ويحتفظ مجلس الاحتياط الفيدرالي بالفعل بخبراء اقتصاديين يفوق عددهم بنحو ثمانية أضعاف عدد خبراء جامعة هارفارد، ولو كان واضحاً أن الناس يعودون للعمل ببطء في خطوة من شأنها أن تقيد العرض، لكان مسؤولو المصرف المركزي اتبعوا سياسة مالية صارمة في وقت باكر، وتشبه مطالبة المجلس بالتمييز بين صدمات العرض وصدمات الطلب نصيحة عداء في السباقات السريعة بالعدو بسرعة، فالنصيحة بديهية إلى حد تصبح معه عديمة الجدوى.
وأياً كانت مزايا مناقشة “التضخم الانتقالي” فقد انتهت نهاية نوفمبر 2021، وسجل معدل التضخم الأساس 4.2 في المئة خلال أكتوبر (تشرين الأول) مقارنة به قبل سنة، في تسارع ملحوظ منذ الصيف، وفي الـ 30 من نوفمبر قال باول في شهادته أمام الكونغرس إن الوقت حان لسحب عبارة “تضخم انتقالي” من التداول.
ولكن مجلس الاحتياط الفيدرالي ارتكب بعدها خطأه الثاني، فبدلاً من الاعتراف بإساءته التقدير ورفع معدلات الفائدة بسرعة انتظر أكثر من ثلاثة أشهر للقيام بذلك، وعندما حل الوقت المؤاتي في النهاية في مارس 2022 أقر أقل رفع محتمل: 25 نقطة أساس، أو ربع نقطة مئوية، وكانت الخطوة لافتة أكثر لأن الحجة التي ترجح استخدام دواء أقوى كانت واضحة بحلول اجتماع مارس حين ارتفع معدل التضخم الأساس في شكل مطرد حتى بلغ 5.3 في المئة في فبراير (شباط) مقارنة به قبل سنة، وكان غزو روسيا لأوكرانيا في الـ 24 من فبراير سبباً في زيادة كلفة الغذاء والطاقة، وعلى الرغم من ذلك لم يتخذ المجلس أخيراً موقفاً جدياً حتى اجتماعه في يونيو (حزيران)، فأقر رفعاً بلغ 75 نقطة أساس.
وإذ ذاك كانت ستة أشهر قد مرت على تخلي باول عن “التضخم الانتقالي”، وخلافاً لنهج الترقب الذي تبناه مجلس الاحتياط الفيدرالي عام 2021 كان التصحيح البطيء إلى حد لا يحتمل للمسار خلال النصف الأول من عام 2022 غير مبرر، ففي مواجهة صدمة سلبية للاقتصاد كان المجلس سريعاً دوماً في تقديم التحفيز، وحين تعلق الأمر بمكافحة التضخم رفض العلاج المرير القاضي برفع معدلات الفائدة رفعاً يكافئ إلحاح الحاجة، فما السبب في تخاذل مجلس الاحتياط الفيدرالي إلى هذا الحد؟
السبب هو ارتباطه المضلّل بـ “التوجيه المسبق”، أي التنبيه إلى تغيرات معدلات الفائدة قبل إنفاذ قراره فيها بوقت طويل جداً، وهذه القفزة الثلاثية المركبة من إعلان وانتظار وإجراء مفيدة عندما يكون معدل التضخم منخفضاً جداً، وعندما يكون المجلس خفض بالفعل معدل الفائدة القريبة الأجل إلى الصفر فلا يبقى لديه مجال لمزيد من الخفض، وفي ظروف كهذه عندما تبلغ السياسة النقدية ما يسميه مسؤولو المصرف المركزي الحد الأدنى الصفري يسمح التوجيه المسبق للمجلس بأن يعد بمدة طويلة من معدلات فائدة قريبة الأجل ومنخفضة إلى أدنى مستوياتها، فضمان معدلات فائدة قريبة الأجل ومنخفضة مدة طويلة تتيح المجال لمعدلات أدنى للفائدة البعيدة الأجل، فيصبح التوجيه المسبق وسيلة إضافية تتولى تحفيز الاقتصاد.
ولا يعود هذا المنطق مهماً عندما يواجه مجلس الاحتياط الفيدرالي تحدياً معاكساً يمثله التضخم المرتفع، ومن أجل خفض التضخم يستطيع المجلس أن يرفع معدل الفائدة القريبة الأجل قدر ما يرغب، فلا حدّ أعلى وبالتالي لا حاجة ملحة إلى التوجيه المسبق، ولكن المجلس بعد اعترافه بأن التضخم لم يكن انتقالياً تمسك بالتوجيه المسبق على الرغم من ذلك، وأذاع توقع رفع معدلات الفائدة ثم انتظر وتصرف، وأفضل تبرير منطقي لهذا السلوك هو أن المجلس خشي أن يؤدي رفع معدلات الفائدة المفاجئ إلى إقلاق المستثمرين والتسبب في ذعر يجر الأسواق إلى الهبوط، وهذا التخوف تمليه المبالغة، وعندما يكون الهدف تهدئة الاقتصاد وخفض التضخم يمسي تراجع الأسواق مرغوباً فيه.
ولا بد من إعادة النظر في ولع مجلس الاحتياط الفيدرالي بالتوجيه المسبق، فمن طريق رفض رفع معدلات الفائدة على وجه السرعة ومن خلال انتظار نصف سنة قبل رفع قدره 75 نقطة أساس، سمح المجلس لتضخم سيئ بأن يزداد سوءاً، وهو خطأ يسدد الاقتصاد الآن ثمناً باهظاً له، إلا أن النبأ السار هو أن الدرس المستفاد من هذا الخطأ جلي ومباشر.
وفي بعض الأحيان يتعين على المجلس أن يتحرك من غير توجيه الأسواق، وأحياناً تعود الأولوية إلى السرعة.
انتبهوا إلى الأسواق
والخطأ الأخير الذي ارتكبه مجلس الاحتياط الفيدرالي هو تجاهل الفقاعة المالية التي تضخمت أثناء العام 2021 وكانت علامة على نضوج الصعوبات، وكما هي الحال مع التمسك المفرط بالتوجيه المسبق كانت سياسة تجاهل مسؤولي المصرف المركزي الفقاعة عبارة عن رد فعل عميق الجذور في مسلكهم، ويعود أول هذه السياسة لعام 1996 حين نبه رئيس المجلس ألان غرينسبان إلى النشوة غير المنطقية التي أصابت “وول ستريت” وارتفعت أسعار الأسهم طوال السنة التالية، وخلص رؤساء المجلس إلى أن التعليق على الأسواق أصبح عقيماً وغير ذي جدوى وقرروا أن السياسة الفضلى تقضي بالتزام الهدوء إزاء موجات الازدهار، ثم خفض معدلات الفائدة في أثناء الركود لحماية الاقتصاد.
والحق أن قياس تراجع الأسواق أمر صعب وحذرُ مجلس الاحتياط الفيدرالي مفهوم، فالمصارف المركزية تملك شريك أداة رئيسة واحدة في مجال السياسات (معدل الفائدة) ولا يسعها على هذا الاستجابة إلى إشارتين مختلفتين ومستقلتين إذا نبهتا إلى اتجاهين متناقضين، فيبدو الاقتصاد ضعيفاً في حين تبدو سوق الأوراق المالية مستقرة داخل فقاعة، ولكن موقف المجلس وهو لا يرى شراً في الفقاعات أُوّل على معنى أبعد مما ينبغي، فأعقبت مدتا الركود قبل صدمة “كوفيد-19” عام 2020 تصحيحات صادمة في الأسواق مثل انهيار التجارة الإلكترونية خلال 2000-2001 وانهيار الرهن العقاري في 2007- 2008.
وفي الاقتصادات الحديثة تلك التي تضطلع فيها القطاعات المالية بدور رئيس يتعذر تجاهل أسعار الأصول ببساطة، وهي تحتل مكانة تتحدى التجاهل، فهي في وقت واحد قرينة على ضغوط يتعين على المجلس أن يستجيب لها، وتحذير من وشك عطل جسيم إذا لم يفعل المجلس شيئاً.
وفي المناقشات التي دارت حول هذه المسألة على مدى السنوات الـ 20 الماضية نوه مؤيدو تحريك معدلات الفائدة بأحوال لجأ فيها المصرف المركزي إلى رفع معدلات الفائدة في سبيل ثقب فقاعة قائمة، وبمبادرته إلى عكس المسار عندما تضر هذه الزيادة بالاقتصاد الحقيقي، وهذه حجة واهية، فليس ثمة من يقترح على مسؤولي المصرف المركزي التشدد في السياسة النقدية عندما يرتفع معدل البطالة أو عندما ينخفض معدل التضخم كثيراً عن المستوى المستهدف، أو أخيراً عندما يكون معدل النمو أضعف من اتجاهه، فلا بد من أن يتصدر الاقتصاد الحقيقي الأولويات. إن ما يواجه مجلس الاحتياط الفيدرالي في بعض الأحيان ظروف تكون فيها مؤشرات الاقتصاد الحقيقي صلبة في حين تبدو المؤشرات المالية إيجابية، وفي مثل هذه الظروف تشير أسعار الأصول الفقاعية إلى ضرورة انتهاج المجلس سياسة نقدية أشد صرامة من سياسة تستهدف التضخم فقط، ومن بين الأمثلة السابقة أواخر العام 1998 وأوائل العام 1999، سماح المجلس للهوس بالتجارة الإلكترونية بالإفلات من عقاله، والمدة بين 2004- 2005 عندما تجاهل فقاعة الرهن العقاري.
وفي منتصف العام 2021 خدمت سياسة العمل الكفء في مواجهة الرياح المالية مجلس الاحتياط الفيدرالي في شكل جيد، ففي الأول من يوليو (تموز) أغلق مؤشر “ناسداك” المثقل بأسهم شركات التكنولوجيا عند مستوى 14522 ألف نقطة بزيادة مخيفة بلغت 48 في المئة قياساً على ذروته عشية الجائحة، وفي الوقت نفسه كانت العقارات ترتفع على نحو فقاعي والعملات المشفرة تزدهر والمشاهير يشكلون شركات استحواذ ذات هدف خاص، وهي آليات لإدراج الشركات في البورصات مع تجنب التدقيق المناسب. ولو في إطار تصور المجلس أن التضخم الوليد انتقالي كانت أسعار الأصول تصرخ أن الاقتصاد مصاب بالحمى، وكان مال كثير أكثر مما ينبغي يطارد أدوات ادخار أقل حجماً مما ينبغي، ولو أن المجلس احتسب الإشارات المالية في قراراته لكان شدد سياسته النقدية في وقت أسبق، ولكان الاقتصاد نجا من تضخم العام 2022، وهذا هو الدرس الجلي الثاني الذي ينبغي على رؤساء مجلس الاحتياط الفيدرالي أن يأخذوه في الاعتبار خلال المستقبل: عندما ترتفع أسعار الأصول انتبهوا، وبناء على ما يحدث مع الاقتصاد الحقيقي فقد يكون هذا إشارة تدعو إلى رفع معدلات الفائدة.
الدروس المستفادة
أين موضع المال السحري من هذا كله؟ في المستقبل المنظور ليس المال السحري أمراً مطروحاً على التداول، والأولوية تعود للسيطرة على التضخم وهذا شرط ضروري لدعم صدقية مجلس الاحتياط الفيدرالي، ومن دونه يستحيل الاستقرار الاقتصادي، ومن المؤسف أن مكافحة التضخم قد تستغرق بعض الوقت، والعقود الثلاثة الماضية شهدت معدلات تضخم منخفضة ومعدلات فائدة منخفضة بين عامي 1992 و2022 تقريباً ناتجة جزئياً من العولمة، وفرضت ضغوطاً نزولية على الأسعار، واليوم العولمة معلقة ومشلولة، ويعد الرواج الجديد لتخزين السلع الاستراتيجية والإمدادات “الداعمة للأصدقاء” عملاً تضخمياً، وإذا أضفنا الشيخوخة السكانية واحتمال إصرار العاملين الشباب على تبني نهج مرن للعمل [يجمع بين العمل من المنزل والعمل من المكتب]، فربما اضطر المجلس إلى انتهاج سياسة نقدية أكثر تشدداً مقارنة بربع القرن الأخير، وقد تدعو الحاجة إلى مراجعة التوقعات التي ترسخت أواخر التسعينيات في شأن جواز الاعتماد على المجلس لحماية الاقتصاد من أي صنف تقريباً من الصدمات، وقد تكون السنوات القليلة المقبلة طاحنة، ولكن على نحو ما أفسح الركود التضخمي خلال السبعينيات المجال للاستقرار والازدهار خلال السنوات اللاحقة، وقد تدور العجلة من جديد فيتمكن مجلس الاحتياط الفيدرالي من السيطرة على التضخم، وتعود المصارف المركزية لممارسة السحر مرة أخرى. طوال المدة التاريخية غداة الحرب العالمية الثانية تقدم فن العمل المصرفي المركزي وعلمه في شكل ثابت، وبنى كل عقد من الخبرة على عقود الخبرة السابقة، وفي بعض الأحيان قد تعلم النكسات الكاسرة الدروس الأكثر قيمة.
* سيباستيان مالابي زميل أول لكرسي بول إيه فولكر في الاقتصاد الدولي في مجلس العلاقات الخارجية.
المقال مترجم من فورين أفيرز، يوليو (تموز) 2022
https://www.independentarabia.com
.
رابط المصدر: