نهاية قريبة؟.. مصير حرب أوكرانيا في ظل الاهتمام بالشرق الأوسط وتراجع الدعم الغربي

مع استمرار الحرب الروسية الأوكرانية للعام الثالث، وتأجج الأوضاع في الشرق الأوسط وسحب بساط الاهتمام من تحت أقدام كييف، أصبحت المخاطر المحيطة بحرب أوكرانيا أعلى من أي وقت مضى، وسط العمليات العسكرية المستمرة بين الجانبين الروسي والأوكراني والمشهد الدولي المتغير، وفي ظل النهج الغربي الحالي المتمثل في التباطؤ عندما يتعلق الأمر بالإمدادات أو الحفاظ على القيود المفروضة على استخدام أوكرانيا للصواريخ بعيدة المدى، الأمر الذي جعل أوكرانيا تبحث عن بدائل من شأنها إنهاء الحرب بما يضمن سلامتها ضد أي مهددات مستقبلية.

مع مرور أكثر من نصف العام الثالث للحرب التي تعد حربًا بالوكالة بين الغرب وروسيا، وبالرغم من الدعم غير المشروط الذي يقدمه الغرب لكييف من أجل الانتصار؛ فإن أوكرانيا لم تحرز تقدمًا كبيرًا في هذه المعركة مقارنة بالانتصارات الروسية؛ إذ استحوذت روسيا على عدد من الأراضي الأوكرانية، وتواصل تقدمها في عدة مناطق مهمة.

وبالرغم من محاولة أوكرانيا تحقيق انتصارات مؤخرًا على الصعيد الميداني بعد شن هجوم مباغت على منطقة كورسك منذ شهرين فإن هذا الانتصار لا يعد كافيًا لإنهاء الحرب وإعلان انتصار أوكرانيا، إما لأسباب داخلية تتعلق بالعوائق اللوجستية والديموجرافية، أو لأسباب خارجية تتعلق بالحلفاء وهي:

  • خلافات الاتحاد الأوروبي

يبدو للوهلة الأولى أن الحرب بين روسيا وأوكرانيا قد وحدت الموقف الغربي ضد روسيا، وذلك من منطلق أن انتصار روسيا يعني تهديدًا وجوديًا للقارة الأوروبية. وقد تحققت هذه الوحدة بالفعل، إلا أن إطالة أمد الحرب وتداعياتها الاقتصادية القاسية والتململ الشعبي منها وصعود الأحزاب اليمينية في عدة مناطق أوروبية قد جعل الاهتمام بالانتصار الأوكراني يتراجع شيئًا فشيئًا، وظهرت انقسامات عدة داخل المؤسسات الأوروبية حول استمرار دعم أوكرانيا.

وكان تسليح أوكرانيا موضع خلاف داخل الاتحاد الأوروبي، خاصة بين الدول التي تضررت من الحرب بفعل نقص الطاقة، وكذلك الدول التي تجمعها علاقات وطيدة بروسيا، وعلى رأسها المجر التي يواجه رئيس وزرائها “فيكتور أوربان” انتقادات عدة بسبب تقاربه مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. كذلك ظهرت تباينات عدة في المواقف تجاه الحرب عقب النداءات المتواصلة للرئيس الأوكراني بزيادة وتيرة الإمدادات العسكرية واستخدام الأسلحة الغربية لضرب العمق الروسي، وهو ما ترفضه بعض الدول كألمانيا وإيطاليا، بسبب المخاوف من التصعيد الذي قد يجر أوروبا لمواجهة مباشرة مع موسكو التي لا تتوقف عن التلويح باستخدام الأسلحة النووية.

ولكن مع ذلك، هناك محاولات أوروبية واضحة لتلبية الطلبات المتكررة لأوكرانيا، يمكن رؤيتها إما من خلال الاتفاق على دعم أوكرانيا ماديًا وعسكريًا بأكثر من 126 مليار دولار، والتخلي عن التردد في منح أسلحة أكثر تقدمًا، أو من خلال الاتفاق بشكل مبدئي على استخدام عائدات الأصول الروسية المجمدة (210 مليارات يورو) في الاتحاد لتسليح أوكرانيا وإعادة إعمارها، حيث قرر الاتحاد أن 90% من الأموال المصادرة ستخصص لمرفق السلام الأوروبي الذي يمول شراء الأسلحة، أما نسبة الـ 10% المتبقية فستذهب إلى موازنة الاتحاد الأوروبي لتعزيز قدرات صناعة الدفاع الأوكرانية. مع العلم أن هذا القرار أيضًا يعارضه عدد من الدول الأعضاء، وتخشى عواقبه والتداعيات القانونية التي قد تنجم عنه من قبل روسيا.

ويمكن رؤية الضجر الأوروبي من إطالة الحرب عبر مواقف معلنة في الفترة الأخيرة، حيث دعت المجر، بعد تسلمها رئاسة الاتحاد الأوروبي، أوكرانيا إلى الاستسلام ووقف إطلاق النار وفقًا للوضع الميداني الحالي، مع تسريع محادثات السلام، وهو الأمر الذي قوبل بهجوم واسع من قبل بعض دول الاتحاد. ولكن يبدو أن هذا الاتجاه بات سائدًا على غير المتوقع، فبحسب تقارير إعلامية ألمانية، يعمل المستشار الألماني أولاف شولتز على صياغة صيغة سلام تتضمن تنازل أوكرانيا عن بعض الأراضي لروسيا، وهناك تسريبات تفيد بأن هذه الصيغة من شأنها أن تلقى جدلًا واسعًا حال خروجها للنور.

  • السياسة الأمريكية

تعد الولايات المتحدة الداعم والمانح الأكبر لأوكرانيا منذ بداية الحرب، حيث صوت الكونجرس الأمريكي على خمسة مشاريع قوانين قدمت لأوكرانيا مساعدات مستمرة، بإجمالي مبلغ 175 مليار دولار. كما تعهدت إدارة بايدن ومن بعدها إدارة هاريس، حال فوزها بالانتخابات، باستمرار وتيرة المساعدات الأوكرانية الملحة حتى تحقيق الانتصار.

ولكن هذه التعهدات لا تنفي حالة التململ من إطالة أمد الحرب بالنسبة للإدارة الحالية، خاصة في ضوء إخفاقات القوات المسلحة الأوكرانية في ساحة المعركة، فقد ثبت أن إدارة بايدن “حليف حذر” في الموافقة على قائمة الرغبات الأوكرانية المستمرة للحصول على مساعدات عسكرية أكبر ورفع القيود المفروضة على الضربات الصاروخية بعيدة المدى داخل العمق الروسي، وهو الأمر الذي انتقدته أوكرانيا ورأت أنه أعاق قدراتها القتالية وسمح لروسيا باستعادة زمام المبادرة في ساحة المعركة واستعادة الأراضي على طول الجبهة الشرقية.

وقد أشارت تقارير عدة إلى حالة الغضب داخل البيت الأبيض بسبب استمرار إلحاح الرئيس الأوكراني لتقديم الدعم رغم ما تبذله الإدارة بالفعل من مجهودات. ويبدو أن تقويض ثقة أوكرانيا في الدعم الأمريكي لا يتوقف عند احتمالية تراجع إدارة بايدن أو هاريس عن دعم أوكرانيا مع استمرار الحرب؛ إذ إن وجود الرئيس السابق والمرشح الجمهوري “دونالد ترامب” داخل المعادلة يربك بالفعل الحسابات الأوكرانية، خاصة وأن تصريحات ترامب تتجه نحو اعتزامه قطع المساعدات الأوكرانية لصالح القضايا المحلية الأمريكية، وإيقاف الحرب بتقديم تنازلات إقليمية لروسيا التي تجمعه برئيسها علاقة وطيدة جدًا، وكذلك نسيان ملف انضمام أوكرانيا لحلف شمال الأطلسي، وتحميل أوروبا مسؤولية إعادة إعمار أوكرانيا. وعليه، فإن نتيجة الانتخابات الأمريكية في نوفمبر القادم تشكل عاملًا رئيسًا في حسابات الرئيس الأوكراني فلوديمير زيلينسكي وكذلك الرئيس الروسي فلاديمير بوتن، حيث أنه سيتحدد وفقها الشكل القادم للحرب أو للسلام.

  • توتر الشرق الأوسط

يحمل الصراع في الشرق الأوسط تداعيات قاسية على الوضع في أوكرانيا، خاصة بعد أن بدأت الولايات المتحدة، المانح والداعم الأكبر لكييف، بالتركيز على دعم إسرائيل ونقل الأسلحة والذخائر-التي تطالب بها أوكرانيا منذ أشهر- إليها، وتخصيص مبالغ إضافية من المساعدات لها، الأمر الذي بدا وكأنه تخفيض واضح لرصد مجريات الأمور في أوكرانيا، ويعكس أن أوكرانيا ليست أولوية بالنسبة للولايات المتحدة إذا ما قورنت بإسرائيل.

ولهذا نجد أنه ومنذ اندلاع حرب غزة، يشعر زيلينسكي برعب شديد من تحول أنظار العالم إلى الشرق الأوسط، ويراها بداية نهاية الاهتمام الغربي ببلاده، وهذا يمكن ملاحظته من تصريحاته على مدار عام من حرب غزة، والتي يدور معظمها حول ربط الصراع في أوروبا الشرقية بالصراع الحالي مع إسرائيل، مصعدًا من وتيرة هجومه على روسيا وحلفائها كإيران والصين وكوريا الشمالية، إذ وصفهم بالباب الخلفي الذي تمكنت روسيا من خلاله الحصول على تكنولوجيات ذات استخدام مزدوج لتغذية آلة الحرب الخاصة بها، ولم ينس الإشارة إلى رفض روسيا إدانة الهجوم الذي شنته حركة حماس على إسرائيل.

وهذه التصريحات وضعت كييف في مأزق، بين تعاطفها مع إسرائيل، الحليف الأوثق لداعمها الأكبر، وبين أن يؤدي هذا الدعم إلى إلحاق الضرر بعلاقات أوكرانيا مع دول الجنوب العالمي التي أدانت العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة وتصر على أنها تتحمل المسؤولية عن اندلاع العنف، وهي الدول التي كانت كييف تتنافس بنشاط مع موسكو على تعاطفها.

أدرك الرئيس الأوكراني أنه أصبح في هذه الحرب بمفرده، ولهذا تعين عليه عدم التعويل على المجهودات الغربية وحدها، فخرج زيلينسكي بما أسماه “خطة النصر” لإنهاء الحرب، وهي الخطة التي سافر واشنطن لعرضها على القادة القادمين للولايات المتحدة من الحزبين الديمقراطي والجمهوري على حد سواء، وكذلك على قادة الدول الأوروبية والمجتمع الدولي، فهي عبارة عن خارطة طريق للخطوات الملموسة التي تحتاجها أوكرانيا من شركائها لتحقيق سلام عادل. وبالرغم من عدم تبلور الخطة بشكل نهائي، إلا أنه ووفقًا لتصريحات للمطلعين عليها قد احتوت على عدة عناصر أبرزها:

  • إجبار روسيا على السلام

تسعى أوكرانيا إلى إنهاء الحرب من خلال إجبار القوات الروسية على الانسحاب بشكل كامل من الأراضي الأوكرانية، بما في ذلك شبه جزيرة القرم التي ضمتها روسيا بشكل غير قانوني. وستتضمن الخطة قدرة أوكرانيا على تحقيق التقدم اللازم على ساحة المعركة، خاصة في منطقة كورسك الروسية، وهو التقدم الذي ترى فيه أوكرانيا ورقة مساومة إقليمية سوف تجبر روسيا على الجلوس إلى طاولة المفاوضات. واستبعدت الخطة أن يكون هناك وقف إطلاق جزئي أو تجميدًا للحرب أو أي تحرك من شأنه أن يدفع روسيا إلى إعادة تجميع صفوفها واستئناف عملياتها في وقت لاحق.

  • ضمانات أمنية بديلة عن “الناتو”

نظرًا لفشل أوكرانيا -حتى الآن- في مساعيها للانضمام لحلف شمال الأطلسي، وكذلك الانضمام للتحالفات الدولية الأخرى بسبب الخلافات بين الحلفاء، باتت أوكرانيا تدرك أن الانضمام للناتو سيكون بمثابة حلم بعيد المدى في الوقت الراهن، وأن عليها خلط الخيارات المتاحة حاليًا والتركيز على أن يكون هناك ضمان أمني على غرار ميثاق الدفاع المتبادل لعضوية التحالف، وقد يكون هذا حلًا مقبولًا للأعضاء الرافضين لعضوية أوكرانيا في الناتو. وبجانب الضمانات الأمنية، هناك عنصر سياسي تبحث عنه كييف عبر خطتها للنصر يتعلق بكيفية ضمان الشعب الأوكراني بأنه سيكون موضع ترحيب في المؤسسات الغربية مثل الاتحاد الأوروبي إذا استمرت الحرب أو انتهت بالتفاوض.

  • استمرار الدعم الغربي ماديًا وعسكريًا

يتزامن الإعلان عن خطة النصر مع جهود البيت الأبيض لإعداد حزمة مساعدات عسكرية جديدة لكييف بقيمة 7.9 مليارات دولار، وتريد كييف استمرار الدعم بجانب السعي للحصول على إذن من الولايات المتحدة لشن هجوم أعمق في الأراضي الروسية عبر استخدام الأسلحة الأمريكية كصواريخ “ATACMS” الباليستية التي تطلق من الأرض، وغيرها من الصواريخ الغربية بعيدة المدى، والتي لا توافق عليها واشنطن بسبب مخاوف من التصعيد. وتؤكد أوكرانيا على حاجتها إلى تنفيذ ضربات بعيدة المدى لاستهداف المنشآت العسكرية الروسية مثل المطارات ومنشآت الطاقة. وفي حالة رفض الخطة، سيلقي زيلينسكي بالمسؤولية والفشل في ساحة المعركة على عاتق الغرب، بدعوى أنه لم يقدم الدعم الكافي لها.

وفي العموم، تعكس خطة النصر الأوكرانية التوازن الدقيق بين الدبلوماسية والعمل العسكري على أرض الواقع، فالمطالب الأوكرانية بتعزيز القدرات الدفاعية وتوفير الضمانات الأمنية والسياسية هي جزء من استراتيجية أوسع نطاقًا لكسب المزيد من النفوذ على طاولة المفاوضات، وإظهار أوكرانيا كطرف قوي في المعادلة قادر على الصمود، وإجبار روسيا على الدخول في المفاوضات من موقف ضعف.

أما عن موقف روسيا من “خطة النصر” والتفاوض بشكل عام، فحتى اللحظة ترفض موسكو أي مساعٍ للسلام أو التفاوض؛ كون الشروط التي يتم طرحها تتعارض تمامًا مع الأهداف الاستراتيجية الروسية في الحرب. ويبدو أن هذا سيكون مصير خطة النصر أيضًا؛ كونها تفترض أن يتم انسحاب القوات الروسية بالكامل من الأراضي الأوكرانية، وانضمام أوكرانيا لتحالف شمال الأطلسي أو تحالف يضمن سلامتها، وهو السبب الذي أشعل الحرب منذ البداية.

وعلاوة على ذلك، هناك سبب آخر للرفض يتمثل ببساطة في نجاح الالتزام الروسي بتحقيق النصر العسكري في ساحة المعركة والاستيلاء على مناطق لوجستية ذات أهمية استراتيجية لأوكرانيا، الأمر الذي ترى فيه موسكو أن من شأنه إجبار كييف في النهاية على الإقرار بالواقع السياسي والعسكري الجديد بما في ذلك مسألة ضم مناطق في شرق وجنوب البلاد إلى روسيا، والانسحاب نهائيًا من تلك المناطق، وهي الشروط التي تفرضها روسيا لإنهاء الحرب، بالطبع بجانب الامتناع عن انضمام أوكرانيا إلى أي تحالفات غربية ونزع سلاحها.

ومجمل القول، من الواضح أن خيارات كييف لتحقيق انتصار في هذه الحرب باتت محدودة في ظل عدم توازن استراتيجية زيلينسكي بين الضغط العسكري والتواصل الدبلوماسي مع الغرب، وعدم وجود أي ضمانات لاستمرار الوحدة الغربية، وكذلك استمرار الدعم الأمريكي مع الحسابات المعقدة التي تفرضها الانتخابات الرئاسية، وقد ينتهي الأمر بإجبار أوكرانيا على التفاوض مع روسيا وقبول شروطها، وتصبح “خطة النصر” ما هي إلا مجرد “إذن” بالاستسلام.

 

المصدر

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M