نهج جديد: الاقتصاد التركي في عام الحرب الروسية الاوكرانية

أحمد بيومي

 

منذ بداية العام 2022، وفي الوقت الذي لا يزال العالم يعاني فيه من الآثار الاقتصادية لجائحة كورونا والأزمات المتلاحقة لها، فإن أبرز ما يمكن تسميته في تلك الأزمات هو الموازين المالية المختلة عالميًا إلى حد كبير أو كثرة الديون الخارجية، واختلال حركة التجارة العالمية، وانهيار سلاسل التوريد التي دفعت بالموازين الخارجية للبلاد إلى العجز، كل تلك الأوضاع الاقتصادية المختلفة ازدادت سوءًا بعد بداية الحرب الروسية الأوكرانية في فبراير من عام 2022، ومنذ ذلك الحين ارتفعت أسعار الطاقة والغذاء عالميًا وأصبحت معدلات التضخم بمستويات لم يسبق لها مثيل عالميًا وفي دول لم تعهد ذلك من قبل، وقد ترتب على ذلك إقدام العديد من الدول عالميًا -وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية- على اتّباع سياسات نقدية انكماشية هدفها خفض مستوى السيولة المتاحة بالسوق بغرض خفض الطلب العام ومن ثم السيطرة على الأوضاع وعودة الاقتصاد العالمي للاستقرار، وقد كان الإصرار الأمريكي على بلوغ ذلك الهدف واضحًا باتخاذ الفيدرالي الأمريكي عشرة قرارات برفع أسعار الفائدة ليدفع أسعار الفائدة على الدولار الأمريكي من مستوى 0.25 % في بداية عام 2022 إلى 5.25 % حتى يوليو من عام 2023 (عام ونصف تقريبًا)، بل ولا تزال تشير البيانات الأمريكية حول معدلات التوظيف المرتفعة ومعدلات التضخم المرتفعة إلى أن ذلك النهج الانكماشي في السياسات النقدية قد يستمر لبعض الوقت وحتى نهاية عام 2023 وقد يستمر إلى النصف الأول من عام 2024.

كان لتركيا رأي آخر، حيث اتخذ البنك المركزي التركي قراره بتثبيت سعر الفائدة حتى نهاية النصف الأول من العام 2022، وهو نفس الوقت الذي رفعت فيه الولايات المتحدة الأمريكية سعر الفائدة، بل ومع استمرار الولايات المتحدة في انتهاج سياسة رفع سعر الفائدة في النصف الثاني من عام 2022 والنصف الأول من عام 2023، بدأت تركيا نهجًا معاكسًا تمامًا للولايات المتحدة الأمريكية والعالم أجمع باتخاذها قرارات بخفض أسعار الفائدة استمرت حتى مايو من عام 2023 لتصل إلى 10 نقاط أساس مقابل 15.50 في يوليو من عام 2022، وفي الوقت نفسه كانت الولايات المتحدة الأمريكية مستمرة في نهجها برفع أسعار الفائدة وقد بلغ الرفع 21 ضعف معدل الفائدة الذي كانت عليه في يناير من عام 2022، ومع بدء الولايات المتحدة الأمريكية في النظر إلى سياستها النقدية بشكل أكثر استقرارًا وتثبيت سعر الفائدة خلال اجتماعها الأخير قامت تركيا وبشكل مفاجئ في اجتماعها لشهر يونيو 2023 برفع أسعار الفائدة بنسبة 6.5 %، لكن كيف كان وضع الاقتصاد التركي خلال تلك القرارات؟

الشكل 1: المصدر: قاعدة بيانات رويترز – 15/7/2023

على مستوى العملة الوطنية لتركيا (الليرة التركية) فقد شهد سعر صرفها انخفاضًا مستمرًا منذ بداية عام 2022، حيث انخفضت بنسبة 100% تقريبًا من 13.32 ليرة لكل دولار في يناير من عام 2023 لتصل إلى 26.19 ليرة لكل دولار وفقًا لبيانات يوليو 2023. وبالطبع، كان لتلك الانخفاضات في سعر صرف العملة التركية أثر كبير على زيادة معدلات التضخم والذي سجل نسبة بحوالي 72.3 % لعام 2022، لكن معدل التضخم بدأ في الانخفاض في عام 2023 ليسجل 38.2 % وفقًا لبيانات يونيو من عام 2023. بالطبع الانخفاض في معدل التضخم لا يعني انخفاض الأسعار، لكن ذلك الانخفاض ناتج عن أن المعادلة الحسابية التي يتم استخدامها لحسابه تقوم بقسمة أسعار السلع في يونيو العام الحالي على أسعار السلع في يونيو العام السابق، ومن ثمّ فإن الارتفاع في أسعار السلع في يونيو العام السابق كان له أثر إيجابي على زيادة المقام وخفض النتيجة النهائية لمعدل التضخم.

الأداء الاقتصادي

اتسم أداء الاقتصاد التركي بالتماسك خلال عام الحرب الروسية الأوكرانية، كان لخفض سعر الصرف المستمر أثر إيجابي على تحسين وضع الميزان الجاري لتركيا، حيث انخفض عجز الميزان الجاري تدريجيًا من 7.1 مليارات دولار في يناير 2022، ليصل إلى 360 مليون دولار في أكتوبر من عام 2022، وهو ما يمكن معه القول إن السياسات الاقتصادية التركية الخاصة بخفض سعر الصرف وتثبيت أسعار الفائدة ساعدت في توفير السيولة للمصنعين الأتراك للإنتاج، الأمر الذي سمح لهم بزيادة الصادرات بشكل كبير، خاصة في ضوء انخفاض سعر صرف العملة الذي ساهم في زيادة الصادرات وخفض فاتورة الواردات؛ إلا أن تلك السياسات لم تستمر في النجاح، حيث عاد الأمر مرة أخرى إلى تحقيق عجز بداية من نوفمبر من عام 2022 بمقدار 3.6 مليارات دولار لشهر نوفمبر، واستمر في الارتفاع ليصل إلى حده الأقصى في يناير من عام 2023 عند مستوى 9.8 مليارات دولار، وانخفض إلى 7.9 مليارات دولار وفقًا لبيانات مايو من عام 2023، ويمكن تفسير ارتفاع العجز في زيادة الطلب على مشتقات الطاقة مرتفعة السعر عالميًا والتي أثقلت كاهل الميزان الجاري التركي. ومن ثم فإنه يمكن القول إجمالًا إنه على الرغم من توفير التمويل الداخلي للمصانع بأسعار فائدة مدعومة لا تتوافق مع الاتجاه العالمي لرفع سعر الفائدة، والخفض المستمر لسعر صرف الليرة بنسبة 100% خلال عام ونصف؛ فإنه لم يكن لتلك السياسات تأثير على تحسن حساب معاملات تركيا مع العالم الخارجي، حيث عاد العجز في الميزان الجاري مرة أخرى إلى نطاق 7 مليارات دولار شهريًا.

أما على مستوى معدلات البطالة فقد ساعدت تلك السياسات على بقاء معدلات البطالة مستقرة لفترة تقترب من عام ونصف (بداية عام 2022 وحتى منتصف عام 2023) بمتوسط 10.5% تقريبًا، قبل أن تنخفض بشكل كبير في شهر مايو 2023 لتصل إلى 9.5%، ومن ثم فإن أداء معدلات البطالة والتشغيل بالبلاد لم تتأثر إلى حد كبير بالوضع الاقتصادي العالمي، وقد عكس تلك الحقيقة مؤشر المنتجين PMI Index، الذي عاد للارتفاع مرة أخرى فوق مستوى 50 نقطة منذ يناير 2023 ليصل إلى 51.5 نقطة في يونيو 2023 (مؤشر مديري المنتجين فوق 50 نقطة يعكس الوضع الإيجابي للعملية الإنتاجية بالاقتصاد).

الشكل 2 – المصدر: البنك المركزي الروسي – منصة رويترز 15 يوليو 2023

أما عن إجمالي احتياطي النقد الأجنبي فلم يستجب لتلك السياسات الحكومية التي تنطوي عن تثبيت أو خفض الفائدة وخفض سعر الصرف، حيث استمر إجمالي احتياطي النقد الأجنبي في التراجع من يناير 2022 عند مستوى 71.6 مليار دولار أمريكي وحتى يوليو 2022 والتي بلغت 59.7 مليار دولار مع استمرار المركزي التركي في تقديم الدعم لعملة الليرة التركية لمنع انخفاض قيمتها بسرعة خلال الفترة من يناير وحتى يوليو. لكن شهر أغسطس شهد زيادة كبيرة في الاحتياطيات، حيث تلقت تركيا دفعة بحوالي 9 مليارات دولار أمريكي من صديقتها روسيا وفقًا لما تم نشره في منصة بلومبرج الإخبارية، وأشارت “فايننشال تايمز” إلى أنّ هناك مصدر أموال غير معروف يُساعد تركيا على سد فجوة التمويل لديها، ويتطابق ذلك مع بيانات الميزان المالي والرأسمالي الخاص بتركيا، حيث شهدت الفترة من مارس وحتى مايو من عام 2022 ارتفاعًا كبيرًا في التدفقات المالية، حيث تخطت التدفقات حاجز المليار دولار للمرة الأولى في عام 2022 بها لتصل إلى 1.59 مليار دولار. وارتفع الاحتياطي حتى شهر ديسمبر من عام 2022 ليصل إلى 82.9 مليار دولار، قبل أن يعود للانخفاض مرة أخرى ليصل إلى 56.5 مليار دولار أمريكي، قبل أن يتلقى الاقتصاد التركي جرعة تحفيزية أخرى في يونيو من العام 2023 بخفض قيمة الليرة بشكل كبير، ورفع سعر الفائدة بمقدار 6.5%، والتوقف عن التدخل في سوق الصرف إلى حد كبير.

حتى يوليو 2023، لا يمكن الحكم بشكل حاسم بأن السياسات الاقتصادية التركية كان لها أثر إيجابي في التعامل مع الأزمة الاقتصادية العالمية، حيث كان لتلك السياسات آثار إيجابية على مستوى التوظيف والإنتاج، لكنها أثرت سلبيًا على مستوى التضخم وسعر صرف العملة، حيث فضلت تركيا الحفاظ على أسعار الفائدة عند مستويات منخفضة لأطول فترة ممكنة مع استخدام علاقتها بدول الجوار العربي وروسيا في توفير تمويل لاحتياطيات النقد الأجنبي للتدخل في سعر الصرف، وعدم السماح له بالانخفاض بشكل كبير. حافظت تلك السياسات على مؤشر المنتجين وعلى معدلات البطالة عند مستويات جيدة، لكن الحساب الجاري التركي لم يستفد من تلك السياسات. في المقابل، كان للانخفاض الكبير في سعر العملة آثار كبيرة على ارتفاع معدلات التضخم التي لم تحرك الحكومة التركية ساكنًا لاحتواء ذلك التضخم. ويُمكن تفسير ما حدث مؤخرًا بالاقتصاد التركي من رفع كبير لسعر الفائدة بمقدار 6.5 % أو الانخفاض الكبير في سعر العملة بمقدار 25 % تقريبًا بتفسيرين، أولهما هو أن تلك الإجراءات تأتي بشكل تصحيحي لتغيير مسار السياسة النقدية التركية خاصة مع تغيير محافظ البنك المركزي التركي وتولي المحافظة الجديدة “حفيظة غاي” تلك المهمة، والتي تأتي بخلفية اقتصادية رأسمالية عميقة كونها عملت بمؤسسات عديدة بالولايات المتحدة الأمريكية، ومن ثم فقد سعت إلى إعادة مسار الاقتصاد التركي إلى الاتجاه الصحيح الذي يتوافق مع الاتجاه العالمي. أما التفسير الثاني فهو أن تركيا افترضت أنه لا جدوى تقريبًا من رفع أسعار الفائدة في الوقت الحالي لاحتواء التضخم، خاصة وأن التضخم مستورد، وأنه لا يمكن جذب استثمارات مالية بالميزان المالي والرأسمالي لمعاملات تركيا مع العالم الخارجي نظرًا للوضع الاقتصادي العالمي، وهو ما يعني أن اتخاذ اتجاه مشابه للاتجاه العالمي لرفع سعر الفائدة سيكلف الاقتصاد أكثر من نفعه، خاصة وأنه سيترتب عليه توقف حركة الإنتاج وزيادة البطالة، ومن ثمّ فقد فضلت الاستمرار في تحفيز الإنتاج وخفض أسعار الفائدة، وضخ أموال للسوق في شكل رواتب من خلال فرص العمل التي يتم خفضها، ثم أقدمت على تلك الخطوة عندما شعرت أن مسار رفع الفائدة العالمي الذي تنتهجه الولايات المتحدة الأمريكية قد قارب على النهاية، خاصة مع تثبيت الولايات المتحدة لسعر الفائدة للمرة الأولى خلال عام ونصف، وهو ما يعني اقتراب بداية السياسات التيسيرية وعودة التدفقات الأجنبية غير المباشرة للبحث عن الأسواق عالميًا ومنها الأسواق الناشئة، وهو ما يُعزز نصيب تركيا من تلك الاستثمارات، فبدلًا من أن تعاني تركيا لعامين ونصف حتى نهاية تلك السياسات، اختارت أن تعاني عامًا أو النصف فقط.

 

.

رابط المصدر:

https://ecss.com.eg/35180/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M