هاريس مرشحة الديمقراطيين… شعار “إنقاذ أميركا” قيد الاختبار

على مدى أربعة أيام حافلة، نجح الديمقراطيون في إنجاز مؤتمر عام لحزبهم يعيد الأمل لهم في الاحتفاظ بالبيت الأبيض وهم يتهيأون لخوض حملة انتخابية صعبة كان كثيرون منهم، قبل شهر تقريبا، يخشون خسارة مؤكدة فيها.

وعلى مدى الأيام هذه أظهروا حماسة كبيرة وهم يطوون صفحة جو بايدن ويفتحون فصلا جديدا في سيرتهم السياسية تتصدرها نائبته كامالا هاريس. يدور هذا الفصل حول ثنائية الخوف والأمل: أميركا تواجه خطرا وجوديا اسمه دونالد ترمب، فيما هاريس- عبر التصويت لها في نوفمبر/تشرين الثاني المقبل- تبعد هذا الخطر… في خطاب قبولها الترشيح في الليلة الختامية للمؤتمر توقفت عند هذا الخطر المفترض “إن عواقب وضع دونالد ترمب في البيت الأبيض مرة أخرى خطيرة جدا… تخيلوا ما الذي ينوي فعله إذا منحناه السلطة من جديد. فكروا في نيته المعلنة بإطلاق سراح المتطرفين العنيفين الذين هاجموا رجال الشرطة في مبنى الكونغرس، نيته المعلنة في سجن صحافيين ومعارضين سياسيين وأي شخص يراه عدوا، نيته المعلنة في أن ينشر قواتنا المسلحة ضد مواطنينا”. في تأطيرها لترمب، هيمنت على خطابها هذه الزاوية الحقوقية- القانونية التي تعكس ثقافتها كمحامية وخلفيتها المهنية كمدعية عامة، لتقدم نفسها بوصفها مدافعة عن حقوق الأميركيين “من قاعة المحكمة إلى البيت الأبيض”.

تتبع المؤتمرات العامة للحزبين الأميركيين الكبيرين، الجمهوري والديمقراطي، التي تعقد مرة كل أربع سنوات، أعرافا خاصة، بينها أن يُعقد مؤتمر الحزب الحاكم الذي يسيطر على البيت الأبيض بعد مؤتمر الحزب الذي في المعارضة. أفاد هذا العرف الديمقراطيين كثيرا هذه المرة لإتاحته لهم بعض الوقت لإعادة ترتيب بيتهم الداخلي سريعا بعد انسحاب بايدن من السباق الرئاسي الشهر الماضي. كثير من إعادة الترتيب هذا كان يجري في بناية أخرى كبيرة في شيكاغو، مركز مكورمك (McCormick Place)، لم يحظ بالاهتمام الإعلامي الذي حظيت به البناية الأخرى، يونايتد سنتر (United Center) حيث ألقت هاريس خطابها على المنصة نفسها التي ألقى عليها- في الأيام السابقة- كبار الديمقراطيين، مثل بيل كلينتون وباراك أوباما ونانسي بيلوسي، خطبهم فيها، دعما لترشيحها وتأكيدا لوحدة الصف الديمقراطي ضد الحزب الجمهوري ومرشحه الرئاسي الممقوت بشدة ديمقراطيا، ترمب.

 

ما يهم في المؤتمر- الذي حضره نحو 50 ألف شخص وكَلَّف تنظيمه، حسب تقديرات أولية، نحو 160 مليون دولار، هو السياسة، بمعادلاتها الخفية وصراعاتها المعلنة وآمالها المرتقبة

 

 

في مركز مكورمك حيث احتشد الآلاف من ممثلي الحزب الديمقراطي ومندوبيه البالغ عددهم نحو سبعة آلاف،  ليشتغلوا نهارا على الجانب الرسمي للترشيحات وعلى آلاف المناصب التي سيتنافس عليها الديمقراطيون في الخامس من نوفمبر، معظمها ضد خصومهم الجمهوريين. بين هذه المناصب 435 مقعدا في مجلس النواب، و33 مقعدا آخر في مجلس الشيوخ، فضلا عن التنافس الانتخابي للفوز بـ11 منصب حاكم في ولايات مختلفة وآلاف المقاعد الأخرى في برلمانات الولايات. تتطلب كل هذه الترشيحات الحسم الرسمي للتنافس داخل الحزب بخصوص من سيمثل الحزب فيها، علاوة على الموافقة على البرامج الانتخابية المتعلقة بكل هذه المناصب وتقديم اقتراحات بخصوص السياسات حول القضايا الرئيسة وتبني إجراءات تنظيمية ترتبط بالحياة الداخلية للحزب والاستماع إلى تقارير حزبية وسواها كثير من العمل الروتيني الممل الذي لا يحظى باهتمام الإعلام. الأهم بين هذه التفاصيل البيروقراطية كلها هي تلك المتعلقة بالمرشح لشغل منصب حاكم البيت الأبيض.
في “يونايتد سنتر” حيث وجه المؤتمر الإعلامي وتركيز شاشات التلفزيون الأميركية والصحافة العالمية- إذ يحضر نحو  15 ألف إعلامي- تبدأ الحياة مساءً في الخامسة والنصف تقريبا، بخلاف  حياة العمل الحزبي النهارية في مكورمك سنتر. في هذه المساءات التي تحتشد بعشرات الخطب تتخللها أنشطة فنية من موسيقى وغناء وغيرها، يتركز الاهتمام على خطب ساسة الصف الأول وصولا إلى الخطابين الأهم: خطاب الشريك الانتخابي لهاريس كنائب لها، حاكم ولاية مينيسوتا، تِيم والز، الذي ينبغي أن يقبل إجرائيا الترشيح الرسمي الذي أنتجه مركز مكورمك، على بعد 12 كيلومترا. ثم، في الليلة الأخيرة، خطاب الذروة السياسية والإعلامية الذي تلقيه هاريس وتقبل فيه رسميا، كما فعل والز، الترشيح القادم من المركز نفسه.
بعيدا عن هذه الخطوات الإجرائية المطلوبة حزبيا لشرعنة الترشيح، ما يهم في المؤتمر- الذي حضره، في مكورمك ويونايتد معا، نحو 50 ألف شخص وكَلَّف تنظيمه، حسب تقديرات أولية، نحو 160 مليون دولار- هو السياسة، بمعادلاتها الخفية وصراعاتها المعلنة وآمالها المرتقبة. عبر خطب كبار الساسة الديمقراطيين في المؤتمر، منذ الليلة الأولى حين ألقى بايدن خطابه، مرورا بالليالي التالية، التي شهدت خطب باراك أوباما وبيل كلينتون وهيلاري كلينتون ونانسي بيلوسي، وصولا إلى خطبتي والز وهاريس، رُسمت خطوط السياسة، حزبيا ووطنيا، بوضوح عمومي هيمنت فيه الشعارات على السياسات.

 

 أ ف ب أ ف ب

حاكم ولاية مينيسوتا والمرشح الى منصب نائب الرئيس الاميركي تيم والز في ختام اليوم الرابع لمؤتمر الحزب الديمقراطي في شيكاغو في 22 اغسطس 

حزبيا، كان السعي الأول هو تطبيب الجراح السياسية للرئيس بايدن الذي اضطر، تحت ضغط الزعماء الديمقراطيين، إلى التخلي عن الترشح الرئاسي بعد أدائه السيئ في المناظرة الانتخابية مع ترمب. أثنى عليه بسخاء أوباما وكلينتون، الشخصيتان الأكثر شعبية في الحزب الديمقراطي والأمهر خطابيا، لجهة أدائه رئيسا واستعداده للتضحية بطموحه السياسي من أجل مصلحة الحزب. فعل الخطباء الآخرون الشيء نفسه، في سياق أوسع يُظهر أن بيتا أبيض تديره هاريس مستقبلا هو امتداد منطقي وطبيعي لرئاسة لبايدن وتركته. بدا هذا تعويضا نفسيا لبايدن، الشخص والسياسي، القَلِق من سؤال التركة كرئيس بفترة رئاسية واحدة ما يُعد فشلا في تاريخ سياسي أميركي ينظر عموما للرؤساء ذوي الرئاستين بوصفهم صناعا للتاريخ وأصحاب بصمة تتجاوزهم كأشخاص. عبر خطب الإطراء على الأداء وهتافات جمهور المؤتمر المحتفية بالرئيس “المضحي” الذي هزم ترمب وسَلَّم الشعلة  لخليفته هاريس، كان المؤتمر يصنع لبايدن بَصمته مقدما، أو يقنعه بوجودها.
تولى جزءا كبيرا من هذا التطبيب أوباما نفسه، الذي لعب الدور الأكبر، من وراء الكواليس، في تنحي بايدن، الغاضب بصمت من رئيسه السابق على هذا الدور، بحسب مصادر عديدة. قال بحقه في خليط مؤثر بين المهام الرئاسية والمشاعر الشخصية: “في وقت كان اقتصادنا يعاني ، احتجنا زعيما لديه التصميم كي يقود ما أصبح أقوى تعاف اقتصادي في العالم: 15 مليون فرصة عمل، أجورا أعلى، وتكاليف رعاية صحية أقل. في وقت تحول فيه الحزب الآخر إلى عبادة الفرد، احتجنا زعيما كان صلبا ليوحد الشعب، وكان مضحيا بما يكفي كي يقوم بأشد الأشياء ندرةً في السياسة: يضع طموحه جانبا من أجل البلاد. سيتذكر التاريخ جو بايدن كرئيس استثنائي دافع عن الديمقراطية في ظل خطر عظيم. أنا فخور أن أسميه رئيسي، بل أنا أكثر فخرا بأن أسميه صديقي”…
بعض هذا التطبيب بدأ في الليلة الأولى من المؤتمر عندما ألقى بايدن خطابه  أمام 23 ألف شخص، معددا ما أنجزه في سنواته الأربع في البيت الأبيض، وسط مقاطعة الجمهور بهتاف “نحبك يا جو” رافعين لافتات كتبت عليها الجملة نفسها. بكى بايدن تأثرا.

وطنيا، كانت رسائل المؤتمر للجمهور عامةً في المحتوى، وشحيحة في التفاصيل، تحتفي بالقيم المعروفة للحزب الديمقراطي بخصوص دعم الفقراء والطبقة العاملة والوسطى والأقليات، والارتياب بشديدي الثراء، والتأكيد على احترام التنوع الذي يقوضه خطابٌ حزبيٌ جمهوريٌ يؤكد على أصالة أميركية مفترضة ترتاب بالمهاجرين والمختلفين. الأشد حضورا بين هذه القيم هي الخصومة الشديدة نحو ترمب بوصفه التمثل الأسوأ لكل الأشياء التي عادةً يفاخر الحزب الديمقراطي بالوقوف ضدها: الطبقية والأنانية. انتزع بيل كلينتون ضحك الجمهور الديمقراطي وهو يصف ما اعتبره الرئيس الأسبق تمحورَ ترمب حول نفسه: “كيف يستخدم ترمب صوته؟ غالبا للحديث عن نفسه، عن خصوماته وانتقامه وشكاواه ونظرياته المؤامراتية. عندما تستمع له في المرة المقبلة لا تعد الأكاذيب التي يقولها، بل عُدّ كم مرة يقول أنا”.
كان ترمب أحد ثوابت المؤتمر الكبرى، فثمة حماسة ديمقراطية هائلة  لهزيمته في نوفمبر. لذلك لم يغب الرجل، مذكورا في سياق سلبي دائما، عن أي من خطب المؤتمر الرئيسة. قد يكون هذا التأطير الشخصي والأخلاقي للسباق الرئاسي بوصفه صراعا بين “دعاة الحرية” و”دعاة الاستبداد” سببا رئيسا في شح التفاصيل عن البرنامج الانتخابي الديمقراطي. جاء أقصى هذه “التفاصيل” في خطاب هاريس التي أشارت فيه إلى النية في تمرير تخفيض ضريبي يستفيد منه 100 مليون أميركي، وتشريع قانون أمن الحدود (الذي أفشله ترمب ويُعد نقطة ضعفها الكبرى)، والدفاع عن حق النساء في الإجهاض، القضية الديمقراطية التقليدية التي ستكسبها أصواتا كثيرة بحسب استطلاعات رأي، في ظل التضييق الشديد الذي قاده ترمب رئيسا على هذا الحق.

 

هاريس أشارت إلى نيتها في تمرير تخفيض ضريبي يستفيد منه 100 مليون أميركي، وتشريع قانون أمن الحدود، والدفاع عن حق النساء في الإجهاض، القضية الديمقراطية التقليدية التي ستكسبها أصواتا كثيرة بحسب استطلاعات رأي

 

 

في السياسة الخارجية، كانت أوكرانيا وضرورة مساعدتها في الدفاع عن نفسها ضد روسيا حاضرة في المؤتمر، في خطاب بايدن الذي فاخر بصمود أوكرانيا، وفي خطاب هاريس التي وعدت فيه أن يتواصل الدعم الأميركي لأوكرانيا في ظل رئاسة محتملة لها. لكن غزة وحربها ومآلاتها كانت أشد حضورا في خطاب الرئيس ونائبته، أولا عبر وعد بايدن بضرورة أن تنتهي هذه الحرب وينتهي معها عناء الفلسطينيين، وثانيا بشرح هاريس المسهب نسبيا لموقفها من النزاع الفلسطيني-الإسرائيلي: “بخصوص الحرب في غزة، الرئيس بايدن وأنا نعمل طول اليوم فالآن هو الوقت المناسب لإبرام صفقة تحرير رهائن ووقف إطلاق النار. ودعوني أكون واضحة: سأدعم دائما حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها، لأن شعب إسرائيل ينبغي أن لا يواجه أبدا مرة أخرى الرعب الذي تسببت فيه منظمة إرهابية اسمها (حماس) في السابع من أكتوبر، بضمنه العنف الجنسي الذي يصعب وصفه، والمجزرة التي تعرض لها شباب في احتفال موسيقي. في الوقت نفسه ما حصل في غزة على مدى الأشهر العشرة الماضية مثير للألم الشديد، إذ فقد الكثير من الأبرياء حياتهم، وهناك الكثير من الناس الجائعين الذين يهربون من أجل سلامتهم مرة بعد أخرى. إن مستوى العناء يحطم القلوب. يعمل الرئيس بايدن وأنا لإنهاء هذه الحرب على نحو يحفظ أمن إسرائيل ويُطلق سراح الرهائن ويُنهي العناء في غزة ويستطيع عبره الشعب الفلسطيني أن يتمتع بحقه في الكرامة والأمن والحرية وتقرير المصير”.

 

أ ف ب أ ف ب

الرئيس السابق باراك اوباما يلقي كلمته امام المؤتمر في شيكاغو في 20 اغسطس 

أثار هذان الوعدان- الدفاع عن أمن إسرائيل والالتزام بتأسيس دولة فلسطينية- دعما حارا من الجمهور. يكشف هذا الترابط بين أمن إسرائيل وحق الفلسطينيين في دولة مستقلة، الكثير عن تغير المزاج داخل الحزب الديمقراطي تجاه إحياء الاهتمام الأميركي، الذي دخل قبل حرب غزة موتا سريريا، بحل الدولتين.

المؤتمرات الحزبية العامة، جمهورية وديمقراطية، هي أوقات للترويج السياسي والاحتفاء الحزبي والإبراز الشخصي للمرشح. هي نادرا ما تنتج محتوى سياسيا جادا أو تثير نقاشا عميقا في السياسة ودلالاتها، لكنها مفيدة انتخابيا دائما، فعادة ما يتبعها، بحسب استطلاعات الرأي على امتداد السنين والمؤتمرات والتجارب، ارتفاع في شعبية المرشح والحزب، في الغالب لا يستمر طويلا. عاشت كامالا هاريس أيامها من النشوة السياسية المبررة لمرشحة رئاسية لم تواجه تحدي خوض انتخابات حزبية على امتداد ولايات البلد، إذ جاءها الترشيح الرئاسي مريحا وجاهزا، على طبق من ذهب.

لن يتأخر اختبارها السياسي الحقيقي كثيرا، فبعد نشوة المؤتمر، سيكون عليها إدارة حملة انتخابية في جو تنافسي حاد. ستحتاج أن تظهر فيها متمكنة من التفاصيل وعارفة بالسياسات وقادرة على استدعاء الأرقام، والمهارات المختلفة والدقيقة التي لا يتطلبها مهرجانُ الفوز بالترشيح الرئاسي في مؤتمر حزبي عام.

في العاشر من سبتمبر/أيلول المقبل، ستحتاج هاريس كل هذه المهارات كي تهزم دونالد ترمب في مناظرتها التلفزيونية ضده، وكي تمحو من الذاكرة الديمقراطية والأميركية العامة آثار فشل رئيسها بايدن في مناظرته الأخيرة ضد ترمب، الفشل الذي مهد السبيل لها كي تكون بدلا منه على رأس البطاقة الانتخابية.

 

المصدر : https://www.majalla.com/node/321977/%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D8%A9/%D9%87%D8%A7%D8%B1%D9%8A%D8%B3-%D9%85%D8%B1%D8%B4%D8%AD%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%8A%D9%85%D9%82%D8%B1%D8%A7%D8%B7%D9%8A%D9%8A%D9%86-%D8%B4%D8%B9%D8%A7%D8%B1-%D8%A5%D9%86%D9%82%D8%A7%D8%B0-%D8%A3%D9%85%D9%8A%D8%B1%D9%83%D8%A7-%D9%82%D9%8A%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%AE%D8%AA%D8%A8%D8%A7%D8%B1

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M