ازدادت وتيرة تبادل الرسائل في المنطقة، بعضها دبلوماسي والآخر له جانب هجومي، وفي ذروة تصريحاتها بأن الملف النووي الإيراني لم يعد من أولوياتها ترسل واشنطن رسالة إلى طهران يحملها وزير الخارجية القطري، الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني، الذي قال صريحًا بأنه يحمل رسالة أميركية. جاءت الرسالة الأميركية مباشرة عقب هجوم بمسيّرات استهدف منشأة عسكرية إيرانية تابعة لوزارة الدفاع في محافظة اصفهان، وتقول مؤشرات إن إسرائيل تقف وراء الهجوم في حين صدرت إشارات أخرى تتحدث عن دور أوكراني. وبينما أكدت مصادر إسرائيلية على “نجاح الهجوم”، قالت إيران: إن قوات الدفاع الجوي الإيرانية استطاعت إحباط محاولة ثلاث مسيّرات صغيرة استهداف مجمع صناعي تابع لوزارة الدفاع في محافظة أصفهان؛ حيث أسقطت مسيّرتين وأنزلت الثالثة سليمة وبدأ الخبراء فحصها.
ولاحقا نشر موقع نور نيوز المقرب من مجلس الأمن القومي الإيراني أن معلومات تشير إلى أن قطع المسيرات والمواد المتفجرة التي استخدمت في هجوم أصفهان قد أدخلت من حدود إقليم كردستان العراق. وطبقا لما نشره الموقع فهذه القطع “أدخلت بطلب من إحدى أجهزة الاستخبارات الأجنبية وبتعاون من الجماعات الكردية المعارضة التي تتخذ من إقليم كردستان العراق مقرا لها”.
وذهبت آراء في إيران إلى القول بأن الجهة التي تقف وراء هذا الهجوم أرادت اختبار جاهزية الدفاعات الجوية الإيرانية، فضلًا عن إلحاق أضرار فادحة بهذا المجمع العسكري، بهدف إيجاد جولة جديدة من الحرب النفسية ضد إيران.
أما أوروبا فقد خففت من حدة هجومها الكلامي على طهران، وبعد تهديدها بوضع الحرس الثوري على قائمة الإرهاب عادت لتتحدث عن أن الدبلوماسية هي الطريق الأمثل لحل معضلة التفاوض مع إيران بشأن برنامجها النووي. وأصبحت العواصم الأوروبية بعد فشل التوصل إلى اتفاق شامل، تروّج لخيار اتفاق مؤقت يضع قيودًا على البرنامج النووي الإيراني ويوقف تقدمه مقابل رفع جزئي للعقوبات.
سيزور المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية طهران قريبًا، ويستبق محمد إسلامي، رئيس هيئة الطاقة الذرية في إيران، هذه الزيارة بالتأكيد على أنه لا يوجد أي انحراف في البرنامج النووي. ويرى بأن زيارة رافائيل غروسي لإيران تحتاج لأهداف محددة وبرنامج واضح، وقد بدأت إيران بتشغيل خط إنتاج تجريبي لإنتاج النظائر المستقرة، وهي إحدى العمليات المتوازية والبديلة لإنتاج الأدوية الإشعاعية في مجال السرطان وعلاج الغدة الدرقية
في هذه الأثناء تتحرك إسرائيل ضمن خطة دؤوب لتعقيد المسار التفاوضي، والدفع نحو تصعيد متعدد الأطراف ضد إيران، ومن الواضح أنها مندفعة في اتجاه تطبيق إستراتيجية مرسومة أعدّها قادة أمنيون وبدأ تنفيذها منذ سنوات، لبُّها الأساسي الإضعاف التدريجي متعدد الجوانب لإيران. ويمكن على هذ الصعيد التوقف عند خطتين محددتين:
- حملة بين الحروب الإسرائيلية (الاسم العبري المختصر: مابام) ضد إيران والجماعات المدعومة من قبلها. وتوصف بأنها واحدة من أنجح الجهود العسكرية للرد على إيران في “المنطقة الرمادية”. ويشير كتَّاب التقرير إلى أنه منذ “بداية الحرب الأهلية السورية في عام 2011، وخاصة منذ أوائل عام 2017، شنَّت إسرائيل أكثر من 200 غارة جوية داخل سوريا ضد أكثر من 1000 هدف مرتبط بإيران وقوات الحرس الثوري الإسلامي التابعة لفيلق القدس، وضد الجماعات المدعومة من الحرس الثوري الإيراني مثل حزب الله اللبناني”. وقد أدت هذه الحملة وفق الدراسة السابقة إلى إبطاء الحشد العسكري الإيراني في سوريا مع تجنب نشوب مواجهة إقليمية واسعة كان يمكن أن تضر بمصالح إسرائيل. وفي 2018 وحدها، ألقت إسرائيل 2000 قنبلة ضمن عملياتها التي شنَّتها على أهداف إيرانية في سوريا.
ويبدو أن هناك قراءات متباينة لمدى قدرة إسرائيل على إخراج إيران من سوريا؛ فعلى الرغم من أن الإسرائيليين تسببوا بشكل واضح في إلحاق ضرر كبير بقدرات إيران في سوريا، فإنه ليس من الواضح كيف سيكون لذلك مغزى إستراتيجي في نهاية المطاف؛ إذ يتحدث المسؤولون الإسرائيليون بإصرار عن أن هدفهم الإستراتيجي طويل المدى هو إزالة الوجود العسكري الإقليمي لإيران، على الرغم من أن إسرائيل فشلت في تحقيق هدف سابق حين وضعت سقفًا زمنيًّا لإنهاء الوجود الإيراني في سوريا وحددته بـ2020.
ونجد تقييمات مختلفة لمستوى النجاح الذي حققته إسرائيل في الضغط على الوجود والتأثير الإقليمي لإيران؛ فبينما ترى تقييمات أن العملية قد نجحت في جعل نفوذ إيران يتراجع، أو على الأقل في تعطيل قدرتها على ضرب إسرائيل، يرى مراقبون آخرون أن الأمر ليس سوى انتصار قصير المدى، حيث تواصل إيران ترسيخ نفسها في سوريا والعراق ولبنان واليمن، وتواصل بهدوء وصرامة امتصاص الضربات للحفاظ على وجودها وزيادته وتعزيزه.
وبصورة منهجية، يبدو أن الضربات داخل إيران تمثل خطوات متقدمة مستلهمة من هذه الخطة، مع ضبط حدودها بالتالي:
- بدلًا من الأهداف الإستراتيجية ذات القاعدة العريضة، يتم التركيز على أهداف عملياتية محددة بوضوح ومحدودة يمكن تحقيقها من خلال قوة عسكرية محدودة (مثل استهداف المنشآت النووية مثل مفاعل نطنز في يوليو/تموز 2020 وأبريل/نيسان 2021، والهجوم على شركة لتكنولوجيا أجهزة الطرد المركزي في كرج في يونيو/حزيران 2021، وآخرها استهداف موقع تابع لوزارة الدفاع في أصفهان). وتأتي ضمن ذلك أيضًا الاغتيالات التي طالت علماء في البرنامج النووي الإيراني في مقدمتهم محسن فخري زاده بعملية استخبارية معقدة جرت في نوفمبر/تشرين الثاني عام 2020، والاغتيالات التي طالت قادة من الحرس الثوري داخل إيران وخارجها.
- رسم أهداف في ساحات تمكِّن من الحفاظ على التفوق الاستخباري الذي يتيح إجراء تحليل متعمق لردود الجهات الفاعلة المختلفة، والحفاظ على التفوق الذي من شأنه أن يقلل من احتمال الانتقام الفعال.
- حساب المخاطر والقدرة على تحملها، بما في ذلك إمكانية نشوب حرب واسعة النطاق.
- أن تكون الضربات على شكل رسائل يمكن إنكارها ولكن مضمونها يصل بوضوح إلى الهدف.
- اتباع نهج تدريجي بحيث يجري تكرار الضربات.
- الاستفادة من الدبلوماسية مع الجهات الدولية الفاعلة بجعلها أداة مكملة لتبرير وتعزيز الخيار العسكري (التحرك الأوروبي لوضع الحرس على قائمة الإرهاب، التصعيد الأميركي ضد البرنامج النووي الإيراني، توتر العلاقة مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية”.
- (مواجهة الإستراتيجية الإقليمية لإيران: نهج طويل الأجل وشامل): وهي خطة أعدها الجنرال إيال زامير، المدير العام لوزارة الدفاع الإسرائيلية، ونشرها معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى في كتيب عام 2022، وتهدف لتقويض النفوذ الإيراني بالمنطقة. ووفق التقييم الذي تقوم عليه هذه الخطة التي نشر موقع عربي بوست خلاصتها باللغة العربية، فإن العقيدة الأمنية الإيرانية تركز على ضمان بقاء النظام الحاكم منذ ثورة 1979، وهو ما يتحقق عبر نقل القتال إلى أراضي العدو وإنشاء حزام أمني خارجي لمنع وصول التهديدات إلى العمق الإيراني بهدف تجنب تكرار تجربة الحرب مع العراق (1980-1988)، التي خلَّفت خسائر بشرية باهظة، وتركت صدمة مجتمعية عميقة. ولتحقيق ما سبق، تعمل طهران بمرونة وصبر على توظيف التطورات الإقليمية والجيوسياسية لإيجاد الفرص واستغلالها عبر السير قرب الحافة دون تجاوز الخطوط الحُمْر، سعيًا لأن تصبح قوة مهيمنة في الشرق الأوسط.
ولأجل تحقيق ذلك، تعمل إيران على مسارين: تحقيق القدرات النووية العسكرية، وبناء القوات التقليدية (الحرس الثوري الإيراني وجيش إقليمي مؤمن بشعاراتها).
وللوصول إلى أهدافها تواصل إيران تطوير برنامجها النووي، وقدراتها العسكرية، وتوسيع نفوذها من خلال بناء جيش إقليمي يقارب 200 ألف مقاتل تحت اسم “محور المقاومة”، ويتكون من عدة جماعات في دول متنوعة مثل حزب الله في لبنان، وحماس والجهاد الإسلامي في فلسطين، والحوثيين في اليمن، والنجباء وعصائب أهل الحق في العراق، ولواء “فاطميون” الأفغاني، ولواء “زينبيون” الباكستاني.
تقوم خطة زامير على:
- كبح توسع إيران الإقليمي.
- إجبارها على الانسحاب إلى حدودها.
- إضعاف قوتها ثقافيًّا واقتصاديًّا وعسكريًّا، مما يمنع تحولها إلى قوة مهيمنة إقليميًّا.
ويرى زامير أن ذلك يتحقق بـ:
- تشكيل محور (أميركي إسرائيلي عربي) مع إشادة بتسارع وتيرة التطبيع مع دول خليجية.
- السعي لإفشال نقاط القوة الإيرانية عبر تبادل المعلومات الاستخبارية بين دول المحور المذكور، وبناء شبكة دفاع صاروخي إقليمي مشتركة.
- تعطيل شبكات وخطوط نقل وإمداد وتهريب الأسلحة الإيرانية بالمنطقة.
- استهداف شركات تصنيع الأسلحة الإيرانية عبر هجمات مباشرة وسيبرانية.
- مواصلة الضغط الاقتصادي وتجفيف الموارد المالية للحرس الثوري وشركاته.
- تصفية قادة الحرس وكوادره الفاعلين داخل إيران وخارجها، بغية إحراج النظام أمام مواطنيه وإثارة الانتقادات ضده وإظهاره بمظهر العاجز أمنيًّا. وذلك لأن الخطة تقوم أساسًا على فرضية أن نقطة قوة إيران الكبرى هي مؤسسة الحرس الثوري.
وتعتقد خطة زامير أن المحور الموالي لإيران -وهو إحدى نقاط قوتها الأساسية- يحمل نقطة ضعف جوهرية هي أنه محور غير متجانس، ولدى أعضائه مصالح متضاربة وخلافات أيديولوجية وسياسية واقتصادية؛ ولذلك لابد من رسم خرائط لمصالح حلفاء إيران، وتشخيص الانقسامات الأيديولوجية والثقافية بينهم، وذلك لتسهيل استقطابهم عبر إبرام صفقات معهم، ومهاجمتهم وجعل كلفة التحالف مع إيران عالية بالنسبة لهم.
ماذا عن طهران؟
في إطار تنفيذ خطتها ضد إيران تحرص إسرائيل حرصًا دعائيًّا على إظهار طهران بصورة العاجز عن الرد، والسؤال هو: هل تعجز إيران فعلًا عن الرد أم إنها ترد من دون أن تعلن ذلك وفق ما أشار إليه قادة كبار من الحرس الثوري في أكثر من مناسبة، أم إنها تتعمد عدم الرد لأسباب أهمها الحيلولة دون حرب شاملة تعيق بناء نفوذها بغية الوصول إلى هدفها الأساسي وهو أن تصبح القوة الأولى في المنطقة؟
لا يتوقف القادة الإيرانيون عن تهديد تل أبيب، وذلك مع مواصلة امتصاص الضربة تلو الأخرى من دون ردّ معلن يناسب ما تتعرض له بلادهم من هجمات. وإيران -وهي تعرف أن ذلك يحرجها داخليًّا ويضر بصورتها أمام حلفائها ويضر أيضًا بتماسك محورها- تتحدث دائمًا عن ضرورة اختيار التوقيت المناسب، على الرغم من أن قائدها الأعلى أكد في 2021 أن مرحلة “اضرب واهرب قد انتهت”.
تدرك إيران أهمية تماسك محور حلفائها، وتنظر بقلق إلى تطورات الساحة العراقية التي دخلت تعقيدات سياسية تحاول إيران تفادي تبعاتها؛ ولذلك فقد حرصت على إعادة العلاقة مع حركة حماس إلى سابق عهدها وطي صفحة الخلاف الذي نشأ بفعل الأزمة السورية، وسعت بصورة حثيثة لإعادة العلاقة بين الحركة ودمشق، وانخرطت مع حلفائها الفلسطينيين في جلسات عمل لبحث خيارات المواجهة داخل فلسطين المحتلة. كما عززت القدرة العسكرية لحزب الله بتزويده بصواريخ متطورة تحسبًا لأيّ مواجهة قادمة مع إسرائيل.
وعلى مدى سنوات من امتصاصها للضربات نجحت إيران في تطوير برنامجها النووي، فبعد أن كانت إسرائيل تؤكد أن الهجوم على منشأة نطنز قد أصاب قلبها وأخرجها من العمل، أعلنت إيران رفع مستوى تخصيب اليورانيوم إلى 60% وإدخال أجيال جديدة من أجهزة الطرد المركزي المتطورة في العمل بالمنشأة نفسها. ومع أن الاغتيالات طالت شخصيات مهمة فإنها لم تفلح في وقف تقدم البرنامج النووي الإيراني.
وبدت إيران حريصة جدًّا على تطوير برنامجها الصاروخي، وبدا اسم إيران يتردد بقوة عند الحديث عن الطائرات المسيّرة، وظهر أن هذه الدولة التي عانت دورات قاسية ومتتالية من العقوبات قادرة على إنتاج مسيّرات تصيب الأهداف بدقة. وتتهم التقارير الغربية إيران بأنها زودت روسيا بعدد كبير من الطائرات المسيّرة، التي قلبت موازين الصراع الغربي الروسي في أوكرانيا. وتذهب تقارير أخرى إلى القول بأن ذلك فتح مجالًا للتعاون العسكري وبناء مصانع مشتركة لإنتاج أجيال أكثر تطورًا من هذه الطائرات. وإذا صحّت تلك التقارير فإن إيران تزوّد روسيا بسلاح يوازن ما في جعبة أوكرانيا من سلاح غربي، وذلك بكلفة زهيدة. وقالت مصادر رسمية أوكرانية: إن عدد المسيّرات الإيرانية المستخدمة حتى الآن من قبل روسيا وصل إلى 540 مسيّرة.
ومع تصاعد الحرب في أوكرانيا، ورغم تبعات الموقف من هذه الحرب بالنسبة لإيران خاصة على صعيد علاقتها مع الأطراف الأوروبية، فإن إيران سعت لتوظيف علاقتها مع روسيا في إطار إستراتيجي أهم، وهو التعاون التسليحي التقني الذي أصبح -رغم قلة التصريحات حول أبعاده- يحوز حصة كبيرة من التعاون مع روسيا. وتمكن العودة إلى تفاصيل أكثر بهذا الخصوص في ورقة نشرها مركز الجزيرة للدراسات بعنوان: إيران والاتجاه شرقًا بين الواقع والمرجو: نقاش حول نيات الصين.
ويبدو أن إيران وظفت هذا التعاون لتحصل على أنظمة دفاعية وتسليحية متقدمة كمنظومة “إس-400″ (S-400) ومقاتلات جوية من”سوخي-35” (SU-35)، ومشاركة روسيا الغنائم التقنية العسكرية في الحرب الأوكرانية، وهي صفقة أو صفقات لا تقدر بثمن بالنسبة لإيران التي ترزح تحت عقوبات غربية تحول دون تطوير سلاحها الجوي، وهو ما يمكِّنها من الحصول على مقاتلات وأنظمة دفاعية تمنحها قدرات وميزات عسكرية تعزز قدرتها على الردع وترفع نقاط قوتها في ميزان القوى الإقليمي.
لا تقفل إيران اليوم باب الحل الدبلوماسي، رغم تراجع الآمال بشأن حل شامل تقبله جميع الأطراف، لكنها لا تسقط إمكانيات المواجهة من حساباتها؛ ولذلك فهي تحاول أن تتجاوز عقبة تلو أخرى لبناء منظومة ردع قادرة على تحييد أي تهديد عسكري جدّي. وأيًّا كانت القراءة الإيرانية بهذا الخصوص، فإن النقاش المحتدم في طهران اليوم يشير إلى أن تمرير الضربات أصبح سلوكًا يضر بالجمهورية الإسلامية؛ إذ لم يعد بالإمكان تحييد تأثير هذه الضربات في مواطنيها من جهة وفي حلفائها من جهة أخرى، كما أنه يضر بموقفها التفاوضي وكونها دولة لديها أوراق قوة مؤثرة.
.
رابط المصدر: