أعلن مكتب رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي يوم 20 يوليو 2022 عن هجوم صاروخي تركي استهدف منتجعًا سياحيًا في مدينة زاخو بدهوك الواقعة على الحدود بين إقليم كردستان العراق وتركيا، ما أودى بحياة 9 أشخاص بينهم نساء وأطفال، وأدى إلى إصابة 23 آخرين، الأمر الذي أعاد العلاقات التركية بالعراق والمحيط العربي ككل إلى مربع التوتر، بما قد يدفع باتجاه تبني العراق العديد من الإجراءات التصعيدية ردًا على انتهاك سيادته، وهي فرضية ستزيد من المصاعب الجيوسياسية التي تواجهها أنقرة في الفترة الراهنة، وتطرح العديد من التساؤلات حول مستقبل العلاقات التركية العراقية في المرحلة المقبلة.
إنكار تركي واستهجان عراقي
انتفضت كافة الدوائر السياسية العراقية ردًا على استهداف منتجع زاخو، فقد نشر رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي تغريدة على تويتر ندد فيها بـ “ارتكاب القوات التركية مجددًا انتهاكًا صريحًا وسافرًا للسيادة العراقية وحياة المواطنين العراقيين وأمنهم باستهداف أحد المصايف السياحية في محافظة دهوك”، وأضاف الكاظمي أن “العراق يحتفظ بحقه الكامل بالرد على هذه الاعتداءات، وسيقوم بكل الإجراءات اللازمة لحماية شعبه وتحميل الطرف المعتدي كل تبعات التصعيد المستمر”، وبدوره أكد رئيس الجمهورية، برهم صالح، أن القصف التركي يمثل انتهاكًا لسيادة البلد وتهديدًا للأمن القومي العراقي وتكراره أمر غير مقبول.
وفي سياق متصل، أعلنت الحكومة العراقية عن استدعاء القائم بأعمالها لدى أنقرة “لغرض المشاورة”، إثر اجتماع طارئ للمجلس الوزاري للأمن الوطني ترأسه رئيس الوزراء، أعقب القصف، وقرر المجلس جملة من القرارات كان أهمها، دعوة وزارة الخارجية لإعداد ملف كامل عن الاعتداءات التركية المتكررة على سيادة العراق وتقديمه لمجلس الأمن الدولي، واستدعاء السفير التركي لدى البلاد وتبليغه بالإدانة، ومطالبة تركيا بتقديم اعتذار رسمي، وسحب قواتها العسكرية من جميع الأراضي العراقية.
وفي المقابل، نفت تركيا اتهامات بغداد لها، قائلة إن الهجوم يشكل “عملًا إرهابيًا”، وقالت وزارة الخارجية التركية في بيان الأربعاء إن أنقرة حزينة لسقوط ضحايا في الهجوم. وأضافت أن تركيا تولي أقصى درجات الحذر لتجنب وقوع إصابات في صفوف المدنيين أو إلحاق أضرار بالمواقع التاريخية والثقافية في عملياتها لمكافحة الإرهاب ضد حزب العمال الكردستاني المحظور وغيره، وأضاف البيان أن “تركيا مستعدة لاتخاذ كل الخطوات لكشف الحقيقة”، لافتة إلى أن العمليات العسكرية التركية تتسق مع القوانين الدولية، كما ذكر البيان أن “تركيا تدعو الحكومة العراقية إلى الامتناع عن الإدلاء بتصريحات متأثرة بخطاب المنظمة الإرهابية ودعايتها والتعاون لكشف مرتكبي هذا العمل الوحشي”، وفق قولها، في إشارة واضحة إلى حزب العمال الكردستاني.
وبالنظر إلى ردود أفعال الحكومة العراقية والمجلس الوزاري للأمن الوطني، نجد أن هذه الردود كانت “متزنة”، حيث جرى التأكيد على إدانة هذا الاعتداء والبدء في تحقيقات سينبثق عنها إجراءات بخصوصه، وفي الوقت ذاته تم التأكيد على عدم السماح بجعل الأراضي العراقية مُنطلقًا لاستهداف دول أخرى، أو ساحة لتصفية الحسابات.
حسابات متشابكة لأنقرة
على الرغم من نفي أنقرة لتنفيذها هذا الهجوم إلا أن كافة أصابع الاتهام تُشير إليها، خصوصًا وأن الشمال العراقي أصبح في السنوات الأخيرة مسرحًا رئيسًا للعمليات العسكرية التركية ضد حزب العمال الكردستاني الذي تصنفه أنقرة تنظيمًا إرهابيًا، ويبدو أن الهجوم التركي جاء مدفوعًا ببعض الاعتبارات، وذلك على النحو التالي:
1- أحد الاعتبارات الرئيسة التي يُمكن في ضوئها فهم الهجوم التركي، هو سعي أنقرة إلى استغلال حالة الفوضى والاضطراب السياسي التي تعيشها الدولة العراقية في الفترة الراهنة، بل واتخاذ هذه الحالة ذريعة لشن هجمات جديدة في مناطق الشمال، حيث أشارت أنقرة في أكثر من مناسبة إلى أن هذه الحالة تدفع باتجاه سيادة حالة من الفوضى في المناطق الحدودية، وتستغلها “التنظيمات الإرهابية”، بما يهدد الأمن القومي التركي.
2- ربما تحاول أنقرة توسيع قاعدة استهدافها لحزب العمال الكردستاني في الفترة الراهنة، استغلالًا للانشغال الدولي بالحرب الروسية الأوكرانية، وما صاحبها من تداعيات دولية خصوصًا على مستوى رغبة حلف الناتو في ضم دول فنلندا والسويد، وهو العامل الذي هدأ من حدة الصدام بين الدول الغربية بقيادة الولايات المتحدة وتركيا، بمعنى أن أنقرة ستزيد من هجماتها في العراق (وكذا سوريا) وستقوم بالتعاطي مع ردود الأفعال الغربية عبر ابتزاز هذه الدول من خلال هذه الورقة.
3- يمثل الاتفاق الأمني بين العراق وتركيا والذي تم توقيعه في التسعينات من القرن الماضي، وتعديله في أغسطس 2007 في إطار ما عٌرف بـ “الوثيقة الأمنية” أحد المداخل الرئيسة التي تستند إليها تركيا لشرعنة هجماتها العسكرية المتكررة في العراق، وهي الوثيقة التي تُتيح لأنقرة شن هجمات ضد حزب العمال الكردستاني في المناطق الشمالية الحدودية، وتمثل وثيقة تدافع بها أنقرة عن نفسها أمام أي إدانة دولية، بالإضافة إلى دوافع أخرى تسوقها أنقرة، ومنها حماية أمنها القومي، وحماية “التركمان” المتواجدين في العراق.
تداعيات سلبية
سوف يدفع هذا الاعتداء باتجاه حدوث العديد من التداعيات السلبية على مستوى العلاقات التركية بالعراق، بل وربما بالمحيط العربي والدولي، وذلك على النحو التالي:
1- بدأت السلطات العراقية في التحرك من أجل فتح ملف الاعتداءات التركية على سيادة البلاد أمام مجلس الأمن الدولي، وهو تحرك جاء بالتزامن مع مطالبة العديد من القوى الدولية وعلى رأسها الولايات المتحدة وجمهورية ألمانيا الاتحادية بفتح تحقيق في الحادث، وهو ما يعني أن تركيا سوف تواجه المزيد من الضغوط الدولية في الفترة المقبلة، خصوصًا مع اتهام السلطات العراقية لها بشكل مباشر.
2- أدانت كافة الدول العربية بالإضافة إلى جامعة الدول العربية والبرلمان العربي الحادث، وأكدوا على دعمهم للعراق في مواجهة مُهددات سيادته، وهو ما يعني أن الدولة العراقية حال تقديمها ما يُثبت أن الهجوم كان مصدره أنقرة، فإن هذا الهجوم سيؤثر على العلاقات العربية بأنقرة، وسوف يمثل حجر عثرة أمام مسار تطبيع العلاقات العربية مع تركيا، خصوصًا في ضوء حالة الانفراجة والتضامن التي تطغى على العلاقات العربية العربية في الفترة الراهنة.
3- مع تأكيد السلطات العراقية أن أنقرة هي المسؤولة عن هذا الهجوم واتهامها بشكل مباشر بالوقوف خلفه، بدأت التحركات الحكومية في اتخاذ إجراءات مضادة، كان أهمها مُطالبة تركيا بسحب كل قواتها الموجودة في العراق وتقديم اعتذار رسمي، بل إن الدوائر السياسية العراقية بدأت في المطالبة بالإعلان من قبل الحكومة عن إنهاء العمل بـ “الوثيقة الأمنية” لكونها المدخل الذي توظفه تركيا لشرعنة استهدافها للسيادة العراقية، وكان من أبرز المطالبين بذلك السيد “مقتدى الصدر”، الذي طالب بالإضافة إلى ذلك بتقليل مستوى التمثيل الدبلوماسي مع تركيا ردًا على الهجوم. وفي سياق متصل، طالبت دوائر عراقية السلطات بحل المعضلة من جذورها عبر الإفصاح من جانب عن حقيقة وجود حزب العمال الكردستاني في الشمال العراقي، وضمان عدم جعل هذه المنطقة ساحة لاستهداف أنقرة، ومن جانب آخر إلغاء الاتفاقية الأمنية الموقعة مع أنقرة.
4- سوف يكون لهذا الحادث وما ترتب عليه من تداعيات وردود أفعال ارتدادات على العملية العسكرية المزمع تدشينها في الشمال السوري، بما قد يؤجل هذه العملية، خصوصًا في ظل الرفض الإيراني والأمريكي الحازم لهذا التوجه، حيث حذرت الولايات المتحدة في أكثر من مناسبة أنقرة من الإقدام على هذه الخطوة، وبدوره حذر المرشد الإيراني علي خامنئي خلال لقاء الرئيس التركي من أن “أي هجوم عسكري على شمالي سوريا سيأتي بالضرر على سوريا وتركيا، وسيكون لمصلحة الإرهابيين”.
ويبدو أن أنقرة أدركت هذه التداعيات السلبية للهجوم سواءً على علاقاتها بالعراق أو حتى محيطها الإقليمي، وبدأت في الترويج لرواية رسمية مفادها أن المسؤول عن الهجوم هو حزب العمال الكردستاني، أو رواية أخرى روجت لها دوائر غير رسمية، بأن مسؤولية الهجوم تقع على طهران التي تريد منع العملية العسكرية التركية في الشمال السوري، وهي الروايات التي رفضتها السلطات العراقية، التي أكدت أن أنقرة هي الجهة التي تقف خلف الهجوم.
وختامًا، يمكن القول إن هذا الهجوم وما تبعه من ردود أفعال خصوصًا من الجانب العراقي سوف يكون له ارتدادات على العلاقات التركية العراقية من جانب، وعلى الدور الإقليمي لأنقرة من جانب آخر، بما قد يُفقد الدور التركي بعضًا من فاعليته وديناميكيته خصوصًا حال اتخاذ دول إقليمية وعربية إجراءات تصعيدية ضد تركيا.
.
رابط المصدر: