لم تمر أيام على الهجوم الذي تعرض له مجمع “كروكوس” الواقع على أطراف العاصمة الروسية موسكو، حتى بدأت السيناريوهات المتضاربة في الظهور على السطح لمحاولة تفسير أسباب الهجوم وتحديد المسؤولين عنه، وعقب إعلان تنظيم داعش الإرهابي مسؤوليته عنه، سرعان ما تبين أن المخابرات الأمريكية حذرت الكرملين من أن فرع التنظيم في خراسان المتمركز في أفغانستان كان يخطط لهجوم في موسكو. حتى أن السفارة الأمريكية في موسكو طلبت من الأمريكيين الموجودين في العاصمة تجنب قاعات الحفلات الموسيقية.
من المسؤول عن الهجوم حسب الرواية الروسية؟
بعيدًا عن الرواية الأكثر تداولًا والتي أعلنت فيها داعش خراسان مسؤوليتها عن الحادث، فقد ظهرت روايات أخرى مثلت الرواية الروسية أبرزها، ومن وجهة النظر الروسية على الأقل، فإن الإشارات لا تأتي من فراغ خاصة عندما يتعلق الأمر باحتمالية تورط أوكرانيا في الهجوم حتى وإن لم يكن على المستوى الرسمي، لأن هذا لا يمنع وجود جماعات متطرفة أوكرانية دعمت المنفذين للهجوم لوجستيًا وماديًا.
ومن ناحية أخرى، تمتلك المخابرات الأوكرانية قدرات تؤهلها لتجنيد عملاء من داعش نفسها، وهي الرواية التي تصر موسكو على ترويجها من باب أنه حتى وإن كانت مسؤولية داعش عن الهجوم حقيقية، فإنها جاءت بترتيبات مع مخابرات وأجهزة أجنبية وعلى رأسها المخابرات الأوكرانية، التي يمكن أن تكون قد وظفت المواطنين الروس أيضًا المتواجدين على الأراضي الأوكرانية والذين يطلق عليهم الفيلق الأجنبي.
وما يدعم الرواية الروسية عدد من النقاط، أبرزها أن منفذي الهجوم وعقب إتمامهم للعملية اتجهوا على الفور إلى مقاطعة قريبة من الحدود الأوكرانية بانتظار تعليمات للدخول للأراضي الأوكرانية بالفعل. ويضاف إلى ذلك اختلاف الطريقة التي تم تنفيذ الهجوم بها عن الطريقة المعتادة للعمليات الداعشية، والتي تعتمد في أغلب الأحيان على الطابع الانتحاري حتى لا يتم استغلال عناصرها للحصول على معلومات حول التنظيم، حال سقوط العناصر المنفذة في قبضة الأمن.
كما أن ارتباط الهجوم بالحصول على مبالغ مادية فيما بعد، يحيل الشبهات مرة أخرى إلى المخابرات الأوكرانية، خاصة أن كييف كانت قد أطلقت عبر شخصيات رسمية ومنها رئيس جهاز المخابرات دعوات لقتل المواطنين الروس أينما وجدوا، في خطوة مغايرة في مسار الحرب تنتقل بها كييف إلى تصفية المواطنين الروس.
كذلك كانت هناك محاولات سريعة لإلصاق التهمة بداعش خراسان حتى قبل أن تعلن هي نفسها عن ذلك، في محاولة لإبعاد أصابع الاتهام عن أوكرانيا، ولكن هذا لا ينفي وجود تقاطعات تربط التطورات الجارية في تلك المنطقة بالجماعات الإرهابية، حيث مثل الغزو الروسي لأوكرانيا أحد العوامل التي أعادت نشاط الحركات الجهادية لأنها أعادت إلى الأذهان مظلوميات المسلمين مع الاتحاد السوفيتي السابق، بالإضافة إلى أن الغزو الروسي لأوكرانيا أعاد ترتيب بعض المحددات الأمنية في المنطقة، ومنها إقدام روسيا على سحب الفرقة 201 والتي تضم حوالي 7 آلاف جندي من على الحدود مع طاجيكستان، مما خلق فراغًا أمنيًا على الحدود سهل تحرك الجهاديين.
وحسب الرواية الروسية فإن ما يثير الشكوك بشكل أكبر حول إمكانية ضلوع أوكرانيا وأجهزة مخابرات غربية في الحادث، أن التوقيت الآن لا يضع روسيا على رأس قائمة الدول المعادية للإسلام والمسلمين بطريقة يمكن معها وصف الهجوم الأخير بأنه هجوم عقائدي، كما أن اختيار مواطني روسيا وليس مواطني إسرائيل على سبيل المثال هدفًا للعملية ينفي من جديد أن تكون حرب غزة هي المحرك للحادث. وهو ما يعني بطريقة أو بأخرى أن الهجوم يحمل أبعاد سياسية تتعلق بإحراج النظام الروسي الذي جدد شرعيته للتو على أنقاض صراعه مع أوكرانيا، بل أن الانتخابات الأخيرة تم اعتبارها بمثابة استفتاء على استمرار الحرب في أوكرانيا بما تتطلبه من حالة استمرار التعبئة الداخلية على المستوى المعنوي بأقل تقدير، وكذلك حالة الالتفاف حول القيادة السياسية.
ولكن المنتقدين للطرح الروسي يشيرون إلى أن الرئيس فلاديمير بوتين سيوظف هذا الهجوم لتحويل العملية الخاصة في أوكرانيا إلى حرب مفتوحة باعتبارها المسؤولة عن الهجوم وهي مصدر الإرهاب، ويتناسون أن هناك زوايا فنية يصعب معها تصديق رواية مسؤولية داعش عن الهجوم وأولها عامل البعد الجغرافي، فمن منظور تاريخي جاءت أغلب العمليات الإرهابية التي ضربت الأراضي الروسية من المناطق الجنوبية القريبة من القوقاز وآسيا الوسطي، أما هجوم الأيام الماضية فقد وقع شمالًا في موسكو العاصمة الأكثر قربًا من أوكرانيا. خاصة أن الإمكانات اللوجستية التي ظهرت في مقاطع فيديو الهجوم هي لوجستيات ثقيلة ويصعب للغاية نقلها من مناطق بعيدة جغرافيًا للداخل الروسي ولكن من السهل نقلها عبر الحدود الأوكرانية.
ويضاف إلى ما تقدم، العامل الخاص بمستوى التدريب الذي تلقته الجماعة التي نفذت الهجوم مما يشي بأنها قد تكون مجموعات خاصة تلقت مستوى تدريب مختلف عن الذي تتلقاه العناصر التكفيرية. وربما لذلك سارعت الولايات المتحدة في نفي الاتهام عن أوكرانيا خوفًا من الرد الروسي الذي يتوقعونه، والذي سيتخطى كل الخطوط التي وضعتها روسيا لنفسها بالتصدي للقوات الأوكرانية والبنية التحتية التي يستخدمها حلف الناتو في أوكرانيا.
ومن هنا يمكن تلخيص وجهة النظر الروسية فإنه حتى إن كانت موسكو تدرك أن التنظيم، حتى ولو كان هو المنفذ فعلًا، لكنه مخترق أمنيًا من قبل أجهزة الاستخبارات العالمية، ويتم توظيفه بشكل رئيسي وأساسي لخدمة الأجندات العالمية، كما حدث في سوريا، والعراق، وإيران، وغيرها.
المستهدف من الهجوم
جاءت اعترافات أحد المتهمين لتشير إلى أنه اشترك في الهجوم مقابل الحصول على المال، وأنه تم تجنيده من خلال مجموعة على تطبيق تليجرام، دون أن يعرف هوية المسؤول، مضيفًا أنه وجد السلاح مخبأ في أحد الأماكن التي تم توجيهه إليه، مشيرًا إلى وصوله روسيا قادمًا من تركيا في وقت سابق من الشهر الجاري.
وقد مثل استهداف المدنيين نقطة محورية في الهجوم الأخير بعد أن فشلت أوكرانيا في الهجوم المضاد ضد القوات الروسية، كما أن عملية التأثير النفسي على المواطنين الروس تعد من ضمن أبرز الأهداف وذلك عن طريق إدخال فكرة الشعور بالخطر في الأذهان والتأكيد على أن الأوضاع الأمنية في موسكو غير محكمة وهو ما يؤدي بطبيعة الحال إلى ضرب الاستقرار داخل روسيا وإظهارها بمظهر الدولة الهشة أمنيًا. حيث ترتكز جاذبية بوتين الضمنية للشعب الروسي على فكرة الدولة القوية الموحدة ذات الموارد الجيدة والقادرة على حماية مواطنيها.
كما أن توريط عناصر مسلمة في تنفيذ الهجوم يمكن أن يسهم في ضرب الاستقرار الاجتماعي داخل الاتحاد الروسي، حيث يوجد أكثر من عشرين مليون مسلم يتمتعون بحقوقهم الدينية والمدنية دون تمييز، مع الأخذ بالاعتبار أن مسلمي جمهورية الشيشان يلعبون دورًا مهمًا في القتال بجوار القوات الروسية في حربها ضد أوكرانيا.
من ناحية أخرى، فإن حالة التعاطف مع القضية الفلسطينية بعد السابع من أكتوبر استدعت بدورها حالة من التعاطف مع الإسلام، وأعادت ظاهرة الإسلاموفوبيا إلى الواجهة لدى الدول الغربية التي لا يستبعد في هذا السياق توظيفها لداعش كأداة لإعادة إلصاق تهمة الإرهاب بالمسلمين، للقضاء على حالة التعاطف بعد السابع من أكتوبر.
ويضاف إلى ما تقدم، أن ما تداولته وسائل إعلام من أن منفذي الهجوم وصلوا إلى روسيا عبر تركيا ربما يجر العلاقات بين البلدين لحالة متأزمة تلقي بظلالها على الملفات المتقاطعة بينهما إقليميًا ودوليًا. وفي هذا السياق، فقد أشار مسؤول أمني في تركيا إلى إن المسلحين الطاجيك الذين نفذوا الهجوم الدموي دخلوا تركيا ومكثوا لفترة وجيزة لتجديد تصاريح إقامتهم الروسية، حيث لم يكن هناك مذكرات اعتقال بحق المهاجمين، مما يعني أنه كان بوسعهم السفر بحرية بين تركيا وروسيا وإنهم عاشوا في موسكو لفترة طويلة. ونقلت صحيفة Hürriyetالتركية عن مصدر أن اثنين من الإرهابيين الأربعة الذين هاجموا مركز كروكوس، زارا تركيا، لكن في ذلك الوقت لم تكن هناك أي تحذيرات من موسكو بشأنهما.
لماذا لم تتعاون الولايات المتحدة مع روسيا “استخباراتيًا”؟
منذ اندلاع الحرب على غزة وتركيز الولايات المتحدة وأجهزتها الاستخباراتية كان منصبًا على ما يحدث هناك ومساندة إسرائيل، وفي نفس الوقت حاولت روسيا أن تستغل انشغال العالم بتطورات غزة من أجل محاولة التقدم داخل الأراضي الأوكرانية، وهو ما سبب تراجعًا في مستوى التعاون الاستخباراتي بين البلدين من الناحية العملية. أما من الناحية النظرية، فإن هناك من الأسباب ما هو أكثر عمقًا للتأثير سلبًا على التعاون بين البلدين، مثل وجود خلافات عميقة ظهرت في الفترة الماضية بعد فشل محاولات الولايات المتحدة للضغط على روسيا لعدم الاستمرار في ضرب أهداف معينة في أوكرانيا، واستمرار الدعم الأمريكي لأوكرانيا الذي يغضب موسكو، وهو ما سبب قصورًا في تبادل المعلومات الاستخباراتية بين البلدين.
وعلى المستوى الداخلي في روسيا، فقد بالغ النظام في تحويل أمريكا إلى عدو بشكل مطلق، مما يجعل من غير المقبول على المستوى الشعبي التعاون مع واشنطن في مكافحة الإرهاب، ولكن هناك تيار داخل روسيا يرى أنه لو أخذ الكرملين تحذيرات السفارة الأمريكية على محمل الجد، لكان من الممكن تفادي سقوط مئات القتلى، وهو ما يعني أن واشنطن ربحت مرة أخرى على المستوى الأخلاقي، بعدما بدا أنها الأكثر حرصًا على حماية المواطنين الروس.
وهو نفس الأمر الذي أثار توجهًا عامًا داخل الولايات المتحدة، يعارض قيام واشنطن بتحذير موسكو ومن قبلها تحذير إيران في تفجير كرمان، لأن الولايات المتحدة ومصالحها ظلت على الدوام مستهدفة من قبل موسكو أو طهران، ولكن هذا لا ينفي الواجب والمسؤولية القانونية، حيث يقع على عاتق مجتمع الاستخبارات الأمريكي “واجب تحذير” ضحايا الهجمات الإرهابية الوشيكة، وبينما يتم إرسال هذه التحذيرات عادةً إلى المواطنين الأمريكيين وحلفاء الولايات المتحدة، إلا أنه يتم إرسالها أيضًا حسب المعلومات وحسبما تقتضيه الحاجة.
أخيرًا، فإنه ومع ترجيح روسيا لضلوع مخابرات أجنبية في الهجوم عن طريق التعاون مع داعش، إلا أن هناك قناعة مستقرة لدى تنظيم الدولة الإسلامية بأن روسيا تحمل نفس قدر العداء الذي تحمله الولايات المتحدة ضد الإسلام من وجهة نظر التنظيم، وأن إرث الاتحاد السوفيتي السابق حاضر وإن كان ليس جديرًا بدفع هذه العداوة للأمام.
ومع التجاهل أو التأكيد على أن الدول الغربية والمخابرات الأجنبية توظف داعش، تظل حقيقة أن تنظيم الدولة الإسلامية لا تزال لديه القدرة على تنفيذ مثل هذه الهجمات – على الرغم من الحملة المناهضة لداعش التي أطلقها قبل عقد من الزمن تحالف دولي يضم الولايات المتحدة – يحمل في طياته تذكيرًا قاتمًا بمدى صعوبة القضاء على أي منظمة إرهابية.
المصدر : https://marsad.ecss.com.eg/81232/