شهدت مناطق الجنوب التركي والشمال السوري ما يُمكن اعتباره أسوأ كارثة طبيعية خلال قرن عندما ضرب زلزال بقوة 7.8 درجات على مقياس ريختر مركزة غرب مدينة غازي عنتاب يوم 6 فبراير الجاري، أثر على ما يقرب من 10 آلاف حي سكني في 11 ولاية جنوبي تركيا، وامتد تأثيره إلى 4 محافظات سورية هي إدلب وحلب واللاذقية وحماة، وعقب تسع ساعات ضربت هزة زلزالية بقوة 7.5 درجات على مقياس ريختر مركزها إيكين أوزو بالقرب من مدينة كهرمان مرعش، وخلفت الكارثة خسائر بشرية قدرت بما يربو على 42 ألف قتيل يتراوح بين أكثر من 40 ألفًا في تركيا و6 آلاف في سوريا (حتى يوم 20 فبراير)، وما يجاوز 36 ألف مصاب بحسب الإعلانات الرسمية، إضافة إلى خسائر اقتصادية تقدر بعشرات المليارات من الدولارات ولا تزال التقديرات بشأنها أولية. لكن رغم غلبة البُعد الإنساني إلا أن الاستجابة السياسية للكارثة تُنذر بتداعيات على المشهد السياسي الداخلي والخارجي في البلدين.
مظاهر الارتدادات السياسية للزلزال
يقدم الزلزال نموذجًا لكيفية تأثير الأحداث الخارجية التي لا يمكن التنبؤ بها على السياسة الداخلية والخارجية للدول، ويناقش هذا الجزء التداعيات السياسية المحتملة للزلزال على الملفات السياسية الأبرز في سوريا وتركيا:
1. الفرص الانتخابية للحكومة والمعارضة التركية: يتسم أردوغان بالقدرة على توظيف الأزمات لخدمة أهدافه السياسية، هكذا حاول استثمار كارثة الزلزال عبر زيارته ووزرائه للمناطق المتضررة والتعهد بإعادة الإعمار السريع خلال عام ومهاتفة قادة أحزاب المعارضة لإظهار أولوية مصلحة الشعب التركي وجهود الانقاذ على الخلافات السياسية، لكن السياق السياسي المصاحب للكارثة قبل ثلاثة أشهر من انتخابات حاسمة سيجعل لها عواقب مباشرة على مستقبل أردوغان السياسي، وأنماط التصويت وبالأخص بالنسبة للأكراد الأتراك، وسيكون موضوعًا جوهريًا للخطاب والبرامج الانتخابية ويحتل أولوية متقدمة على أجندة المزايدات السياسية؛ فمن جانب ستوظفها المعارضة لشن انتقادات ضد الحكومة، ومن جانب أخر ستوظفها الحكومة لحشد التضامن والاصطفاف الوطني خلفها، ويُمكن اعتبار مدى نجاحها أو فشلها في إدارة واحتواء الأزمة وتخفيف تداعياتها وتقديم إجابات لانتقادات المواطنين بمثابة برنامج انتخابي عملي.
وكما كانت الاستجابة غير الكافية لزلزال 1999 الذي خلف أكثر من 18 ألف قتيل أحد العوامل الرئيسية لصعود حزب العدالة والتنمية خلال انتخابات 2002، فإن زلزال 2023 يشكل تحديًا انتخابيًا كبيرًا لأردوغان وحزبه فقد تصاعدت الانتقادات ضد الاستجابة الحكومية البطيئة للكارثة وفرض القيود على الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي. علاوة على أن سبعة من المقاطعات العشر الواقعة في منطقة الكارثة (أديامان، ملاطية، كيليس، غازي عنتاب، كهرمان مرعش، عثمانية، سانليورفا) يسيطر عليها رؤساء بلديات من حزب العدالة والتنمية، وتشكل المناطق الجنوبية القاعدة الانتخابية الأكبر للحزب، فعلى سبيل المثال قدمت أديامان – المتضررة بشكل كبير – ما يقارب ثلثي الأصوات في الانتخابات الأخيرة لحزب العدالة والتنمية، مما يثير مخاوف بشأن اتجاهاتهم التصويتية خلال الانتخابات المقبلة.
وبدأ التوظيف الانتخابي مبكرًا؛ فقد أجرى أردوغان اتصالًا هاتفيًا بميرال أكشنار زعيمة حزب الجيد (ضمن أحزاب الطاولة السداسية المعارضة) في محاولة لإثارة الشقاق بين المعارضة، استغلالًا لرفضها ترشح كمال كيليجدار أوغلو والتحالف مع حزب الشعوب الديمقراطي الموالي للأكراد. وبالمقابل أعلن كيليجدار أوغلو، في 7 فبراير، توجهه إلى هاتاي مع رؤساء بلديات اسطنبول وأنقرة وأزمير أكرم إمام أوغلو ومنصور يافاش وتونش سوير على الترتيب، وجميعهم فازوا في سباقات ضد مرشحي حزب العدالة والتنمية في انتخابات 2019، حيث ألقى خطابًا حمل خلاله أردوغان وسياساته الريعية المنهجية مسئولية الكارثة. وغير هذا وذاك، تتعدد الاستفهامات بشأن مدى اللياقة السياسية لتخصيص موارد لحملة انتخابية بينما يرزح الأتراك تحت هذه الظروف الصعبة، بل يذهب المتابعون للتفكير فيما إذا كانت الانتخابات ستجرى في موعدها المحدد يوم 14 مايو ما يلجأ أردوغان لإرجائها إلى ما بعد الموعد النهائي 18 يونيو، ويعتمد القرار على عاملين رئيسيين هما توفر البنية التحتية اللازمة لإجرائها ومصلحته من تمديد حالة الطوارئ المعلنة وتأجيل التصويت.
2. توجيه اتهامات بالفساد للحكومة التركية: أُثيرت التساؤلات بشأن أوجه إنفاق ضريبة الزلزال المفروضة مُنذ 1999 بهدف جمع مليارات الدولارات للوقاية من الكوارث والإغاثة وظل الناس يدفعونها على مدار السنوات الـ 23 الماضية حتى عندما تضرب كارثة كهذه البلاد تكون وكالة طوارئ الكوارث جاهزة لنشر مواردها، كما تصاعدت الانتقادات لما اعُتبر فساد في قطاع البناء – الذي يسيطر عليه شخصيات مقربة من الحكومة – وتجاهل تطبيق أكواد البناء للحماية من الزلازل القوية. وضرب الزلزال حجر الأساس للنموذج الاقتصادي لحزب العدالة والتنمية القائم على صناعة البناء بهدف التعافي من الركود الاقتصادي خلال التسعينيات وعقب الأزمة المالية العالمية لعام 2008 ولكن تبين أنه في إطار الاندفاع لبناء كميات هائلة من المساكن الجديدة أصدرت الحكومة التركية مئات الآلاف من الإعفاءات من المعايير الزلزالية في جميع أنحاء البلاد، بما في ذلك 75 ألف مبنى في المنطقة المتضررة، وقد باتت الحكومة الآن أمام تكاليف باهظة للغاية لإعادة تأهيل الطرق والجسور والمباني والبنية التحتية الأخرى وإعادة إعمارها. كما تساءل المواطنون الأتراك بشأن أسباب عدم تفعيل القوة الكاملة للدولة التي تم التباهي بها كثيرًا، حيث يبدو أن الحكومة التركية فشلت في تعبئة الجيش بالكامل للمساعدة في ضمان توزيع الطعام والملابس على الناجين، وقد اشتكى الجنرالات المتقاعدون علنًا من أن الحكومة أوقفت السماح للقوات المسلحة بالتدريب على الاستجابة للكوارث، ورأوا وكالة الاستجابة للطوارئ الحكومية التي تديرها وزارة الداخلية لم تستطيع مواجهة الكارثة بمفردها.
3. تصاعد المشاعر المعادية للاجئين: بينما تحاول حكومة أردوغان تهدئة قضية اللاجئين السوريين بفتح قنوات تواصل مع الحكومة السورية لمعالجة المشكلة وخلق مساحة داخل سوريا لعودة اللاجئين، جاءت كارثة الزلزال لتحيي مشاعر العداء تجاه السوريين لاسيمَّا أنهم يتواجدون بكثافة في المناطق الجنوبية المتضررة وبالأخص مدينة غازي عنتاب التي تعتبر عاصمة اللاجئين السوريين في تركيا (يعيش بها نصف مليون لاجئ من أصل 2 مليون)، حيث اتهم بعض السكان السوريين بسرقة المتاجر والمنازل المتهدمة، ورفضت بعض مراكز الإيواء استقبالهم وفضلت فصلهم عن الأتراك، فيما عرض بعض المواطنين استضافة المتضررين على ألا يكونوا من السوريين، هذا العداء سيكون ورقة حشد رابحة في أيدي أحزاب المعارضة خلال الانتخابات المقبلة، وربما يدفع بالحكومة التركية لتصعيد الإجراءات العدائية تجاه اللاجئين وتسريع عودتهم الجبرية إلى سوريا لكسب تأييد الناخبين.
4. تحفيز المصالحات الدبلوماسية: خلقت دبلوماسية الكوارث فرصًا للعديد من الدول لإبداء حسن النية تجاه أنقرة بطرق تبشر بتخفيف حدة مواقفهم التصادمية وتدعم خلق بيئة سياسية؛ فعقب ساعات من الكارثة نحى رئيس الوزراء اليوناني كيرياكوس ميتسوتاكيس جانبًا علاقته الشخصية المتوترة مع أردوغان وهاتفه لتقديم التعزية وتعهد بتقديم المساعدات الفورية للمجتمعات المتضررة، وسرعان ما انتشرت فرق الإنقاذ اليونانية، ولم يقتصر التضامن على القنوات الرسمية بل عجت وسائل التواصل الاجتماعي بالأتراك الذين يشكرون جيرانهم اليونانيين على الدعم المادي والمعنوي وغردت السفارة التركية بأثينا عن تقديرها للزهور التي تركها المارة اليونانيون على عتبة بابها، وشكر أردوغان نظيره اليوناني للإرسال الفوري لرجال الإنقاذ وإمدادات المساعدات، ويتأمل المتابعون إسهام الاستجابة اليونانية في تغيير الديناميكيات الجيوسياسية في شرق المتوسط، على غرار زلزال إزميت 1999 عندما ولَّد “دبلوماسية الزلازل” وحسن العلاقات المتوترة بين البلدين واستمرت الأجواء الإيجابية بعد الزلازل لبضع سنوات قبل عودتها للتوترات.
كذلك، ربما تؤدي التعبئة السريعة لأطقم البحث والإنقاذ الصينية، بجانب فرق المهندسين والآليات العاملة بالفعل في المشروعات التركية، إلى تهدئة انتقاد أنقرة المتصاعد مؤخرًا لقمع بكين لمسلمي الأويجور بإقليم شينجيانغ. وأيضًا، يرجع للزلزال الفضل في فتح الحدود التركية الأرمينية للمرة الأولى منذ ثلاثة عقود للسماح بمرور المساعدات الإنسانية الأرمينية، واستمر ذوبان الجليد عندما زار وزير الخارجية الأرميني أرارات ميرزويان مدينة أديامان، وهي خطوة ولدت الأمل في تعزيز المفاوضات بشأن استعادة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين وفتح حدودهما المشتركة، لكن واقعيًا المحادثات محكوم عليها بالركود ما لم تُحل النقاط الخلاف الرئيسية مثل طرق النقل ووضع ناجورنو كاراباخ. كما تُثير الاستجابة السويدية الإيجابية للكارثة ضمن الاستجابة الجماعية الأوروبية عبر التبرع بحوالي 650 ألف دولار للجنة الدولية للصليب الأحمر والهلال الأحمر لمساعدة تركيا وسوريا والتعزية الرسمية التي قدمها رئيس الوزراء السويدي أولف كريسترسون لأردوغان هاتفيًا، آمال تخفيف موقف أنقرة المتشدد لانضمام السويد إلى الناتو.
وبينما يعتقد البعض تحقيق مستوى تعافٍ معين في علاقات تركيا بالأطراف الخارجية انطلاقًا من الإحراج الأخلاقي للحكومة التركية وتأثرها بالضغوط الناتجة عن الامتنان الشعبي، فإنه لا يجب بالمقابل إغفال الطبيعة الوقتية لمشاعر التضامن الإنساني التي تولدها أوقات الأزمات وصعوبة استدامتها على المدى الطويل إذا لم تصاحبها محفزات مصلحية؛ ففي حقيقة الأمر لم تكن الدبلوماسية الزلزالية بين اليونان وتركيا عام 1999 الدافع الوحيد لتهدئة التوترات، حيث سعى البلدين منذ 1996 للمصالحة وعززت حرب كوسوفو في أبريل 1999 –قبل شهرين من الزلزال– رغبة النخبة اليونانية والتركية لإنهاء الخلافات والعمل معًا، ليدفع الزلزال هذا التعاون إلى العلن، مدعومًا بتأييد شعبي وترويج إعلامي واسع. لذلك يصعب توقع حدوث تحول إيجابي فوري في فحوى علاقات تركيا مع أوروبا والولايات المتحدة نظرًا لتشابك المشكلات وتعدد أوجهها، ويرجح استمرار الحسابات البراجماتية كحاكم أساسي للعلاقات، فليس واقعيًا تخلي أنقرة عن مطالبها باقتناء مقاتلات F-16 الأمريكية، وأطماعها في ثروات شرق المتوسط الهيدروكربونية، أو السماح بقبول تغير معادلة التوازن في منطقة بحر إيجة، لكن يُمكن لتصاعد التضامن الإنساني تحريك الجمود في الملفات التي لطالما كانت مصدر الاحتكاك بين أنقرة والعواصم الغربية.
5. مسار التقارب التركي-السوري: تطرح الأزمة تساؤلات بشأن تداعياتها المحتملة على تحركات السياسية الخارجية التركية إزاء القضايا الدولية والإقليمية، ولعل أهمها ملف التقارب مع دمشق، ويرى اتجاه وجود فرصة لتركيا وسوريا لفتح نافذة لنوع من دبلوماسية الكوارث التي ربما تقود الطرفين إلى تقارب إضافي متجذر في استجابة مشتركة للكارثة، ويعتقدون بوجود مصوغ للقاء مباشر بين أردوغان والأسد يسهم في تغير خطوط الصراع بين البلدين، لاسيمَّا مع إفادة تقارير بنشر مراكز البحوث والدراسات الروسية رسائل تحث أردوغان على اغتنام هذه الفرصة لتجديد المحادثات المباشرة مع الأسد. كما أن التداعيات الاقتصادية للزلزال ربما تدفع أنقرة لتعديل أدوات سياستها الخارجية لخفض كلفتها بحيث تلجأ للمسارات السياسية والدبلوماسية لضمان استمرارية أدوراها الإقليمية وفاعليتها. علاوة على تضاعف الطابع المُلح لأزمة اللاجئين السوريين كون مناطقهم كانت الأكثر تضررًا ويحتاجون لتوفير مساكن بديلة الأمر الذي سيضاعف السخط الشعبي والمزايدات السياسية بالتزامن مع اقتراب موعد الانتخابات مما قد يجبر الحكومة لتسريع التواصل مع الحكومة السورية لاستقبال اللاجئين. بينما يعتقد اتجاه معاكس تباطؤ التقارب بين البلدين نظرًا لانشغالهما بالكارثة وأولوية القضايا الداخلية خلال اللحظة الراهنة أو بسبب تصاعد المنافسة بين طهران وأنقرة خلال هذا الوقت الحساس نتيجة استغلال إيران للكارثة لتأكيد نفوذها داخل سوريا.
6. تثبيت خرائط السيطرة والنفوذ بالنسبة للقوى الداخلية والخارجية: أظهرت استجابة المليشيات المسلحة والفصائل المعارضة المسيطرة على مناطق الشمال الغربي السوري الأكثر عرضة لأضرار الزلزال غياب المرونة أو النية لتجاوز الخلافات وإن بدافع إنساني بل بالعكس السعي لاستغلال الكارثة لتثبيت مناطق نفوذها وسيطرتها وترسيخ الانقسامات؛ فقد تولى فريق “الخوذ البيضاء” التابع لهيئة تحرير الشام المسيطرة على محافظة إدلب مهمات الإغاثة والإنقاذ، ورفضت الهيئة المدعومة تركيًا دخول المساعدات القادمة من المناطق الشمالية الشرقية الخاضعة لسيطرة قوات سوريا الديموقراطية، أو فتح المعابر مع مناطق قسد أو الحكومة السورية لتحميل الأخيرة مسئولية تفاقم الأزمة الإنسانية. وبالمقابل حاولت الحكومة السورية استثمار الأزمة من وجهة نظر عسكرية وسياسية لتأكيد سيادتها على كامل التراب السوري عبر رفضها دخول المساعدات إلى مناطق المعارضة أو السماح بفتح معابر إضافية في منطقة الشمال قبل أن تعلن “سماحها” بإيصال المساعدات الإنسانية الدولية إلى مناطق سيطرة المعارضة، مُحددة أن توزيعها يجب أن يكون بإشراف اللجنة الدولية للصليب الأحمر والهلال الأحمر السوري بمساعدة الأمم المتحدة.
كذلك عززت الكارثة خطوط الصدع بين الأطراف الدولية والإقليمية المنخرطة في سوريا؛ فقد سارعت إيران بإرسال المساعدات العاجلة لدمشق وأجرى قائد فيلق القدس إسماعيل قاآني زيارة ميدانية لمحافظة حلب السورية التي تعتبر منطقة اشتباك بين القوات السورية المدعومة روسيا وإيرانيًا والجيش الوطني السوري المدعوم تركيًا، وتحمل زيارة قاآني السابقة على زيارة الرئيس السوري للمحافظة بيومين دلالات سياسية عديدة تتعلق بتأكيد محورية سوريا ضمن المشروع الإقليمي الإيراني وهي رسالة موجهة للدول العربية الساعية لإعادة إدماج سوريا ضمن محيطها العربي مضمونها أن لإيران دور قيادي لن تتنازل عنه، ولتركيا مفادها أنه لا تسوية سياسية لا تكون طهران طرفًا أساسيًا فيها، وربما تحاول استغلال الكارثة لإرسال الأسلحة إلى حزب الله اللبناني، كبطاريات الدفاع الجوي المتطورة والطائرات الانتحارية بدون طيار ومكونات الصواريخ بعيدة المدى، تحت ستار المساعدات الإنسانية.
وبالمقابل، لم تسمح أنقرة بأي تحرك يمكن أن يؤثر على الوضع الراهن في عفرين أو إدلب اللذان يسيطر عليهما الفصائل والمليشيات المدعومين منها؛ فقد سمحت بإعادة فتح معبرين حدوديين لمدة ثلاثة أشهر، بخلاف معبر باب الهوى، للسماح بتدفق المساعدات الإنسانية، والمعابر الثلاثة جميعها تفتح أمام المناطق التي يسيطر عليها المليشيات في حين عرقلت فتح المعابر الخاضعة لسيطرة للحكومة السورية وتلك التي تنفتح على المناطق المسيطر عليها الأكراد. ورغم حفاظ أنقرة على مناطق انتشارها في الشمال السوري إلا أن توجهات السياسة الداخلية المتعلقة بالأوضاع الاقتصادية والموقف من الانتخابات المقبلة سواء بإجرائها في موعدها أو تأجيلها ستحمل انعكاسات على المسار السياسي السوري وتوازنات القوة الميدانية لاسيمَّا فيما يتعلق بمواصلة التقارب مع دمشق وشن عملية عسكرية في المناطق الشمالية. وعلى كلٍ، فإن مفاعيل الزلزال لن تغير خطوط الاصطفافات الجيوستراتيجية
7. تخفيف العزلة الدولية على سوريا: كسرت الكارثة حدة الموقف الغربي المتصلب تجاه تخفيف العقوبات المفروضة ضد سوريا وحكومتها حتى وإن بدوافع إغاثية وإنسانية وليست سياسية، لكنها ربما تشكل بالنسبة للحكومة السورية خطوة يُمكن البناء عليها للمطالبة بتخفيف عزلتها الدولية من باب المساعدات وإعمار المناطق المتضررة نتيجة للزلزال. وقد منحت وزارة الخزانة الأمريكية تجميدًا لمدة 180 يومًا للعقوبات المفروضة على المعاملات المالية المتعلقة بتقديم المساعدة الإنسانية إلى سوريا، وفعَّل الاتحاد الأوروبي آلية الحماية المدنية كاستجابة وسط بين مطالبات دول كقبرص واليونان والمجر وإيطاليا الانفتاح على سوريا، وتعهد السويد ونيوزيلندا بتقديم مساعدات إلى الهلال الأحمر السوري الخاضع لسيطرة الحكومة، وتشدد أخرى كفرنسا وبريطانيا التي قالت إنها لن تقدم سوى المساعدة لهيئة تحرير الشام والمناطق الخاضعة للسيطرة التركية. لكن لا يتوقع اعتزام الأوروبيون تطبيع العلاقات مع الحكومة السورية ومن المرجح أن تمنع الولايات المتحدة أي محاولات لتجاوز العقوبات المفروضة على دمشق.
8. تحفيز الانفتاح العربي على سوريا: أبدت الدول العربية استجابة سريعة لكارثة الزلزال وسارعت نحو تقديم يد العون عبر إرسال مصر والإمارات والسعودية والعراق والأردن والجزائر وفلسطين ولبنان ودول عربية أخرى المساعدات الغذائية والطبية وفرق الإنقاذ لسوريا سواء من خلال دمشق مباشرة أو عبر منظمات إنسانية محلية ودولية. لكن الحراك الإغاثي يحمل دلالات سياسية أكثر منها إنسانية إذ تستغل الدول العربية المداخيل الإنسانية لتحفيز الاندماج السوري عربيًا ودفع مسار استعادة العلاقات السياسية قدمًا الذي شهد خطوات محدودة خلال الفترة الأخيرة مدفوعًا بالإدراك السياسي العربي لخطوة ترك تقرير مصير الملف السوري للمشاريع الإقليمية والدولية بما يشكل خطورة على منظومة الأمن القومي العربي، ويتبدى ذلك في الطابع السياسي للمساعدات فقد حفزت الكارثة الاتصالات السياسية بالحكومة السورية، حيث تلقى الرئيس بشار الأسد أول اتصال هاتفي من نظيره المصري منذ 2011، والتقى بوفد لبناني برئاسة وزير الخارجية المؤقت عبد الله بو حبيب في دمشق، كما استضاف وزير الخارجية الأردني أيمن الصفدي في زيارة هي الأولى من نوعها منذ 2011، كما استقبل وزير الخارجية الإماراتي عبد الله بن زايد آل نهيان في ثالث زيارة من نوعها خلال عام تقريبًا. علاوة على ذلك كررت الحكومات العراقية والإماراتية والبحرينية واللبنانية والعمانية والجزائرية دعواتها لعودة سوريا إلى جامعة الدول العربية، وظهرت فرق الإنقاذ الجزائرية والفلسطينية كعربون للتضامن القومي العربي، وقررت تونس رفع مستوى التمثيل الدبلوماسي مع دمشق. وجميعها تحركات تحمل مضامين سياسية تتعلق بإنهاء عزلة النظام السوري، وإعادة سوريا لحاضنتها العربية وتأمين انخراطها ضمن المجتمع الدولي، وتسريع التطبيع مع دمشق، وتعزيز الحضور العربي في مسار التسوية السياسية للأزمة لموازنة الأدوار الإقليمية الأخرى، والسعي لفك ارتباط الحكومة السورية بطهران. ومع ذلك، يظل تعثر الحل السياسي الكامل واستمرار العقوبات الأمريكية والأوروبية والطبيعة الاستراتيجية للعلاقات السورية الإيرانية، عوامل معوقة للتطبيع العربي السوري الكامل.
ختامًا، تحمل الكوارث الطبيعية تداعيات متباينة على الأنظمة السياسية وتوجهاتها الخارجية وكذلك على الأنظمة الاجتماعية داخل المناطق المتضررة، فربما تؤدي لمزيد من الاصطفاف خلف القيادات السياسية وفق منطق التضامن خلال الأزمات الإنسانية وربما ترفع نبرة الانتقادات لطبيعة الاستجابة للكارثة، وربما تفاقم الانقسامات بين المكونات السياسية المتناحرة أو تُعرض الاستقرار الاجتماعي الهش للخطر، كما قد تدفع الدول لتنحية الخلافات والتوترات السياسية جانبًا والإسراع بتقديم المساعدات ما يُمكن أن يُحفز بيئة إيجابية قد تساهم في تخفيف الصراعات، أو يشكل فرصة للدول المانحة لاستغلال المساعدات وتوجيهها لخدمة مصالحها السياسية، وبمرور الوقت تتحول الكارثة لمتغير يسعى الأطراف جميعهم لتوظيفه لتحقيق مكاسب سياسية على صعيد مستهدفات سياستها الداخلية والخارجية، وتمثل الحالة التركية والسورية عقب زلزال 9 فبراير نموذجًا للأوجه المتعددة لتوظيف الكارثة الطبيعية وتداعياتها على المشهد السياسي ومستقبل الحكومات ودرجة الرضا الشعبي عليها.
.
رابط المصدر: