خلال الجولة الثامنة من المفاوضات النووية الإيرانية مع القوى الكبرى والتي انعقدت الأسبوع الماضي في العاصمة النمساوية فيينا برزت الاختلافات والانتقادات بشدة فيما بين المفاوضين من طهران والعواصم الأوروبية الأخرى، علاوة على المُشارِك غير المباشر الآخر وهو الولايات المتحدة الأمريكية. لقد استمرت هذه الجولة لمدة ساعة واحدة ونصف للمرة الأولى منذ بدء إعادة التفاوض على الاتفاق النووی الذي تم التوصل إليه بالأساس عام 2015 في مدينة لوزان السويسرية خلال عهد إدارة الرئيس الأمريكي الديمقراطي (أيضًا) السابق باراك أوباما.
كانت هذه الجولة الثامنة في الواقع ردة فعل وانعكاس لما جرى خلال الجولة السابعة من المفاوضات النووية في فيينا والتي انعقدت قبلها بأيام قليلة. فالجولة السابعة كانت المحادثات الأولى التي تجري بعد تولي حكومة محافظة جديدة في طهران بزعامة رئيس القضاء السابق إبراهيم رئيسي، ولذا فإنها كانت بمثابة استعراض لأجندة المفاوضين المحافظين الجدد من إيران، علاوة على ما تم من تغييرات متنوعة أيضًا لدى الطرف الغربي المقابل فيما يخص توجهات المفاوضين.
ولذا، فإذا كانت الجولة السابعة بمثابة استعراض، فإن الثامنة التي لم تستمر سوى 90 دقيقة فقط كانت ردًا غربيًا على العروض الإيرانية “بعد أن تشاور المفاوضون الأوروبيون مع عواصمهم”، حسبما تداولت الأنباء منذ يوم الجمعة الثالث من ديسمبر الجاري وحتى الساعات الأولى من يوم الخميس التاسع من الشهر نفسه.
ومع انتهاء الجولة الثامنة من المفاوضات النووية، بدا أن الأمر قد سار إلى المزيد من التعقيد، وأطلقت قوى غربية تصريحات غير متفائلة بمستقبل المفاوضات وصلت إلى حد تهديد إيران بشكل جدي غير مسبوق. فعلى سبيل المثال، وفي أولى تصريحاتها قالت وزيرة الخارجية الألمانية الجديدة، أنالينا بيربوك، إن الوقت ينضب بسرعة بشأن التوصل إلى اتفاق نووي إيراني مع القوى الغربية.
وأشارت الولايات المتحدة إلى إمكانية توجيه ضرباتٍ عسكرية إلى المنشآت النووية الإيرانية إذا ما استمرت إيران في عدم جديتها فيما يتعلق بالمفاوضات النووية بشكل كلي. وحذرت المملكة المتحدة من جانبها من أن المفاوضات النووية هي “الفرصة الأخيرة” لإيران.
وعلى أي حال، يبدو الموقف أكثر تعقيدًا ويميل إلى التصعيد السريع غير المتوقع على مثل هذا النمط ما بين الإيرانيين والقوى الغربية في ذلك الوقت الحساس من مفاوضات العودة، ما يطرح احتمالاتٍ غربية عدة للتعامل مع إيران.
نقطة اللاعودة: لماذا أصبح من غير الممكن إعادة التفاوض على بنود اتفاق 2015؟
يدرك الأوروبيون والأمريكيون -وحتى الآسيويون الذين لا يتبنون موقفًا مشابهًا بشكل تفصيلي مع الأمريكيين فيما يخص المفاوضات النووية- أن إيران 2021 ليست إيران 2015، وأن المراحل التي مر بها كلٌ من البرنامج النووي الإيراني وملفها الصاروخي حتى العام الجاري تجعل من غير المنطقي طرح نفس أفكار وبنود اتفاق عام 2015. بل إن التطور الملفت للأنظار الذي حققته طهران في مجال صناعة الطائرات المسيرة (الدرونز) مؤخرًا يُضاف إلى مستجدات الأجواء الحالية التي تجرى في إطارها مفاوضات 2021 النووية.
إن الإيرانيين والغربيين أكدوا أن الخلاف الأخير “الجدي” حول مسار المفاوضات النووية يتعلق بعدم “جدية” إيران وعدم واقعية مقترحاتها على طاولة المفاوضات. وعلى الرغم من أنه لم يتم الإعلان من قِبل أي طرفٍ منخرط في عملية التفاوض عن ماهية أو هُوية هذه المقترحات المختلَف عليها، إلا أنها يمكن تلخيصها في رغبة الدول الغربية في إعمال قيود عملية ذات نتيجة على الأنشطة النووية الإيرانية خاصة في مرحلة ما بعد التوصل إلى الاتفاق النووي، علاوة على عزمهم طرح الملف الصاروخي على طاولة المفاوضات والتحركات العسكرية.
ولعل من المرجح وبشدة أن تكون مسألة صناعة طهران للطائرات المسيرة من دون طيار قد طُرحت على طاولة مفاوضات فيينا. إن الملفات المذكورة هي، وعلى وجه التحديد، التي تثير الجدل والجدال ما بين أطراف فيينا المتفاوضة منذ أبريل الماضي.
ومثلما تمت الإشارة إليه آنفًا، تختلف إيران اليوم عن إيران 2015 فيما يخص المستجدات من حيث الجوانب العسكرية والنووية وحتى الإقليمية. فقد أدخلت إيران تحديثات إيجابية بهذه الملفات دعمت نفوذها السياسي والدبلوماسي في فيينا 2021، إلا أن ملفًا واحدًا آخر تطور داخل إيران ولكن بالسلب خلال السنوات الماضية، ألا هو الملف الاقتصادي الذي يُعد الدافع الرئيس وراء جلوس إيران على طاولة المفاوضات.
أما على المستوى العسكري، فقد سرّعت إيران من تحديث ترسانتها الصاروخية، وعملت على إنتاج صواريخ باليستية تتميز بدقة ومدى أكبر، ما يُثير قلق الدول الغربية ويدفعها إلى الإصرار على طرحه على طاولة المفاوضات. وعلاوة على الصواريخ، باتت الطائرات الإيرانية من دون طيّار (درونز) خلال الأشهر الأخيرة مصدر قلق وتهديد للقوى الغربية قاد واشنطن مؤخرًا إلى فرض عقوباتٍ على مسؤولين وكيانات إيرانية على صلة بإنتاج هذه النوعية من الأسلحة.
إن إنتاج إيران مؤخرًا لـ 25 كيلوجرامًا من اليورانيوم المخصب بنسبة 60% يُعد في الواقع أكثر خطورة أو على الأقل يوازي تهديد الدرونز الإيرانية عند الحديث عن معادلات الضغط الدبلوماسية في النمسا. هذا على الرغم من تنبؤ تقارير غربية بأن “الدرونز” الإيرانية قد تغير معادلة الأمن في الشرق الأوسط، وأنها أضحت أكثر خطورة من الملف النووي. وعلى الجانب الآخر، يُحسَب تراجع عمق النفوذ الإيراني في الإقليم خلال السنوات القليلة الماضية على أنه ورقة ضغط أوروبية أخرى في مواجهة الجمهورية الإسلامية.
وعلى أي حال، فإن:
- إنتاج إيران 25 كيلوجرامًا من اليورانيوم المخصب بنسبة 60%،
- تطوير الصواريخ الإيرانية من حيث المدى والدقة،
- إنتاج الدرونز
تجعل من غير الممكن إعادة التفاوض على نفس بنود الاتفاق النووي لعام 2015؛ إذ إن معادلة الضغط والمساومة قد تبدلت، وهو ما دفع المفاوضين في الجولة الثامنة إلى عدم مواصلة الجلسة لأكثر من ساعة ونصف، ودعا الولايات المتحدة والدول الأوروبية الكبرى لاحقًا إلى إطلاق تصريحات تحذيرية ضد إيران. وفي خضم ذلك، تم تداول أنباء بشأن عزم الولايات المتحدة وإسرائيل إجراء مناورات عسكرية تحاكي مهاجمة منشآت نووية في إيران، وذلك في أكثر الرسائل وضوحًا وتحذيرًا لإيران< إذ إن الأطراف الأوروبية والأمريكية وإسرائيل لن تسمح للنظام في طهران بامتلاك سلاح نووي مهما كانت العواقب.
وقد أكد وزير الدفاع الأمريكي، لويد أوستن، على هذه الخطط حين استقبل في التاسع من ديسمبر الجاري نظيره الإسرائيلي، بيني جانتس، في واشنطن قائلًا “أنا قلق للغاية من تصرفات الحكومة الإيرانية في المجال النووي في الأشهر الأخيرة من استفزازاتها المتواصلة وعدم التزامها الدبلوماسي”، مضيفًا أن الرئيس جو بايدن “قال بوضوح إنه في حال إخفاق السياسة نحن جاهزون للانتقال إلى خيارات أخرى”. ويضفي هذا المزيد من التعقيد بشأن مستقبل العملية التفاوضية النووية.
هل بات الخيار العسكري مطروحًا على الطاولة؟
تحاول إيران كسب الوقت خلال المفاوضات النووية في فيينا؛ إذ تعلم جيدًا أنه في صالحها على المدى القصير؛ حتى تقوم بالمزيد من عمليات تخصيب اليورانيوم وتكتسب نفوذًا أكبر في إطار العملية التفاوضية في فيينا. إن هذه المحاولات الإيرانية -علاوة على ملفي الصواريخ والطائرات المسيرة- تقلق الغرب بشدة؛ إذ إن المؤشر النووي الإيراني بات يسير في اتجاه واقعي نحو امتلاك سلاح نووي. فبرغم الخطورة التي يراها الغربيون من الصواريخ الإيرانية والدرونز إلا أن “إيران نووية” تحسبها هذه البلدان هدمًا لطبيعة النظام الدولي القائم منذ عشرات السنين، بل إن إسرائيل تراه “تهديدًا وجوديًا”، وهو ما قد يدفعهم في النهاية إلى توظيف الخيار العسكري.
لقد كان الخيار العسكري فيما يخص “الملفات” التهديدية الإيرانية مستبعدًا حتى وقت قصير، إلا أن العناصر المذكورة فيما يتصل بصعوبة استرداد أو التفاوض على نفس بنود الاتفاق النووي لعام 2015، هي ذاتها التي قد تجعل من الممكن على أرض الواقع هذه المرة وضع الخيار العسكري ضمن حسابات الغرب وإسرائيل حين النظر في المستقبل القريب في مسار وتطورات المفاوضات النووية في فيينا.
فمع أن الأنباء المتداولة بشأن احتمالية عقد مناورات عسكرية أمريكية إسرائيلية تحاكي ضرب منشآت في إيران يمكن أن تؤخذ في سياق الضغط النفسي، أو كما اعتاد الإيرانيون على تسميته “الحرب النفسية”، إلا أن هذا الحل العسكري يُتوقع ألا يكون مستبعدًا على الرغم من أنه سيصبح “الملجأ الأخير” و “حل الطريق المسدود”.
ولا يعني هذا الحل أيضًا في أي شكلٍ من الأشكال توجيه ضربات شاملة موسعة تجاه إيران، ولكنها ستكون في الغالب شبيهة بالهجمات الإلكترونية من حيث أهدافها التي ترمي إلى شل حركة البرنامج النووي الإيراني ولو لبعض الوقت.
.
رابط المصدر: