منى لطفي
منذ بدء العملية العسكرية الروسية-الأوكرانية في 24 فبراير 2022، زاد التهديد الذي يلاحق الأسواق الزراعية والذي بالتبعية يهدد الأمن الغذائي لجميع سكان العالم؛ فقد أدت الحرب بين قوتي الإنتاج الزراعي إلى تقليص الصادرات الغذائية من تلك الدولتين، خاصة القمح والذرة وزيت عباد الشمس، مما أدى إلى ارتفاع أسعار هذه السلع، وزيادة الطلب على المنتجات البديلة.
علاوة على ذلك، فإن البلدين لا يعدان الموردين الرئيسين للحبوب الأساسية للعالم، بل للطاقة والأسمدة أيضًا؛ فأدت العملية العسكرية إلى خفض صادرات الأسمدة من البحر الأسود، مما أدى إلى تغيير كمية وطبيعة المحاصيل التي كان من المخطط زراعتها في أغلبية الدول، بالإضافة إلى التكلفة العالية للطاقة والتي زادت من حدة الاضطرابات في سلاسل الإمداد، مع فرض العقوبات الاقتصادية والتي أسهمت بشكل مباشر في حدوث اضطراب في سوق الغذاء.
ثلاث أزمات
أسفر الصراع الروسي- الأوكراني، عن تعطيل موانئ أوكرانيا في البحر الأسود، مع سحب قدرة روسيا على التصدير، ففي عام 2021، صدرت روسيا وأوكرانيا معا ما يقرب من 30 % من إمدادات القمح في العالم، بواقع 17 % من جانب روسيا من القمح العالمي، بينما شكلت أوكرانيا 20 % من بذور اللفت في العالم، ونتيجة للعملية العسكرية بين الدولتين، حدث انهيار في سلاسل التوريد الغذائي، وأصبح الأمر يهدد بالفعل شحنات الحبوب في العالم مع زيادة أسعارها بشكل كبير، وهو ما أشارت إليه منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (الفاو)، أن خمسون دولة تعتمد على روسيا وأوكرانيا فيما لا يقل عن 30% من وارداتها من القمح في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وتشمل هذه الدول مصر ولبنان وليبيا وعُمان والمملكة العربية السعودية واليمن وتونس وإيران والأردن والمغرب.
وزادت كذلك أسعار الحبوب كالقمح، وتضاعفت الزيادات في أسعار الغذاء العالمية بسبب القيود على التصدير فبلغت حدة تأثير التضخم قمة مداها في الدول النامية، حيث يشكل الغذاء حصة أكبر من الاستهلاك فيها، خاصة الدول معاناة هي تلك التي يمثل القمح والذرة من المكونات الأساسية في الغذاء لديها.
وقد زاد الحصار الروسي للموانئ الأوكرانية، إلى جانب التحديات الأخرى المترتبة على جائحة كورونا وعرقلة سلاسل الإمداد العالمية، إلى جانب تغير المناخ وتهديده للإنتاج الزراعي في الكثير من المناطق في العالم بسبب الجفاف والفيضانات وارتفاع درجات الحرارة وحرائق الغابات؛ إلى أن تكون الزيادة في أسعار المواد الغذائية أكثر بكثير مما كان من الممكن أن تتسبب فيه الحرب في أوكرانيا وحدها.
وقد أثر الصراع كذلك على إنتاج الغذاء؛ نتيجة ارتفاع أسعار الأسمدة والتي ارتفعت تكلفتها بالفعل نتيجة لارتفاع أسعار الطاقة وخاصة الغاز الطبيعي والذي يعد أحد العناصر الرئيسة في صناعة الأسمدة. ويرجح استمرار أسعار المواد الغذائية على ارتفاعها إلى العام القادم بفعل هذه العوامل مجتمعة؛ لأن استخدام كميات أقل من الأسمدة سيؤدي إلى تقليل غلة المحاصيل بينما سترتفع تكاليف الزراعة.
اتفاق الحبوب بين موسكو وكييف
في بادرة إيجابية للتخفيف من حدة الأزمة الغذائية التي تهدد العالم، وقعت أوكرانيا وروسيا يوم 22 يوليو في إسطنبول اتفاقين منفصلين مع تركيا والأمم المتحدة في شأن تصدير الحبوب والمنتجات الزراعية من موانئ أوكرانيا عبر البحر الأسود. ورفضت كييف أن توقع في شكل مباشر الاتفاق مع موسكو التي وقعت اتفاقًا مماثلًا مع أنقرة والأمين العام للأمم المتحدة “أنطونيو جوتيريش”، وقال “اليوم هناك بارقة أمل في البحر الأسود، بارقة أمل وسبيل للممكن، وإغاثة في عالم يحتاجها أكثر من أي وقت مضى”.
وتغطي الاتفاقية بين أوكرانيا وتركيا صادرات الحبوب من أوكرانيا، أما الأخرى بين روسيا وتركيا فتغطي صادرات المواد الغذائية والأسمدة من روسيا. وبموجب اتفاقية أوكرانيا، سيُسمح بمرور آمن لسفن التصدير من موانئ أوديسا، لكن لا تمتد إلى ميناء ميكولايف الذي يمثل حوالي خُمس الصادرات السنوية من البحر الأسود، لأنه أقرب إلى منطقة الصراع.
وبموجب اتفاقها مع تركيا، تحصل روسيا على تأكيدات بأن صادراتها من المواد الغذائية والأسمدة لن تتأثر بعقوبات التصدير، لأن روسيا تعد أيضًا مصدرًا رئيسًا للمنتجات الزراعية والأسمدة. ولا تمتد الاتفاقية إلى الغاز الطبيعي الذي يعد مادة أولية مهمة لبعض أنواع الأسمدة
وسيكون الاتفاق صالحًا لمدة 120 يومًا بدءًا من تاريخ التوقيع، وسيتم بموجبه إنشاء مركز مشترك للتنسيق والقيادة مقره إسطنبول للإشراف على سير العمليات وحل الخلافات، ويشارك في المقر الطرفان (روسيا وأوكرانيا)، ومسؤولون من تركيا والأمم المتحدة. وكانت مسألة تفتيش السفن من أكثر النقاط الشائكة في الاتفاق، فقد زُرعت ألغام في مناطق محيطة بالموانئ الأوكرانية الرئيسة المطلة على البحر الأسود بهدف درء هجوم برمائي روسي، ولا تريد أوكرانيا أن تصعد روسيا على متن سفنها للتحقق من عدم وجود شحنات أسلحة لدى عودة السفن إلى موانئها.
وإذا تم تنفيذ الاتفاق بالشكل الكامل، سيكون ذلك بمثابة فوز لجميع الأطراف، أولهم الأمم المتحدة والتي ستثبت حينها قدرتها على إيجاد حل لأزمة الأمن الغذائي أثناء الحرب، وستكون أوكرانيا قادرة على تصدير الحبوب وإثبات قدرتها على توفيرها للأسواق العالمية خلال الصراع، وستظهر قدرة تركيا على التوسط بين الأطراف لحل الأزمات العالمية، وتحسين صورة روسيا بعد أن كانت متسببة في تلك الأزمة، مما يترتب عليه في النهاية احتواء أزمة أسعار الغذاء العالمية وتجنب انعدام الأمن الغذائي.
لكن عملية نقل الحبوب عبر البحر الأسود قد تواجه بعض التحديات، مثل أن المياه الساحلية لأوكرانيا تحتاج إلى إزالة الألغام؛ فقد تم تلغيم ميناء أوديسا في بداية الهجمات الروسية على أوكرانيا، في حين لم تعترف روسيا ولا أوكرانيا بزرع الألغام، وقد اتفقا على سرعة نزع الألغام من المنطقة والذي ربما سيستغرق وقتًا طويلًا. ذلك بالإضافة إلى أنه لابد من توفير ممرات آمنة، وتعهد الطرفان بعدم مهاجمة السفن أثناء مغادرتها أو عودتها، وتعد هذه نقطة شائكة، بالرغم من التخوف الذي يسود الأجواء الأوكرانية، من أنها لا تثق بالوعود الروسية.
وتظهر الحاجة كذلك إلى أسطول من السفن تكون مصممة لنقل الحبوب الزراعية بين القارات، لنقل ما يقدر بنحو 25 مليون طن من الحبوب عالقة في مخازن أوكرانيا، فقال الأمين العام لغرفة الشحن الدولية جاي بلاتن، “إن الإبحار من موانئ البحر الأسود قد لا يتم على الفور، مشيرًا إلى أنه تم إيقاف السفن بشكل أساسي منذ 24 فبراير، لذلك وجب التأكد من أن تلك السفن صالحة للإبحار وإجراء عمليات الصيانة اللازمة لها”.
علاوة على ذلك، هناك حاجة إلى توفير صوامع جديدة، لأنه مع بدء حصاد المزارعين الأوكرانيين يتعين توفير مساحة داخل صوامع الحبوب في البلاد. وتحتاج أوكرانيا من أجل تأمين مساحة كافية في صوامع الحبوب الخاصة بها للحصاد الجديد إلى نقل 7 ملايين طن من الحبوب شهريًا من مخازنها على مدار الأشهر الثلاثة المقبلة، وحتى إذا تم البدء في نقل 5 ملايين طن في الشهر الأول بعد إعادة الافتتاح، ستبقى هناك حاجة إلى مساحة تخزين إضافية مثل بناء صوامع جديدة.
بالرغم من أن الأسواق العالمية ما زالت متوترة من عدم كفاية مخزون الحبوب في العالم جراء الصراع الروسي- الأوكراني، إلا أن هذا الاتفاق إن تم تنفيذه بالشكل المطلوب سيعمل على إعادة ربط أوكرانيا بالأسواق العالمية والإقليمية من جديد.
ولكن في الوقت ذاته، وجهت روسيا رسالة سلبية إلى العالم يوم 23 يوليو بعد أن قامت بقصف أحد الموانئ الأوكرانية المطلة على البحر الأسود التي يتم من خلالها تصدير الحبوب الأوكرانية؛ فأعلنت موسكو بعد ساعات قليلة من توقيع الاتفاق أن القوات الروسية قامت باستهداف مواقع عسكرية أوكرانية في المنطقة.
يعد المزارعون الأوكرانيون المستفيد الرئيس من الاتفاقية من خلال استعادة الوصول إلى أسواق التصدير بدون التكاليف الإضافية للشحن البري عبر بولندا أو رومانيا، وبالتالي العمل على توفير الحبوب للعالم وتجنب إطالة أمد نقص الحبوب في عام 2023.
وسيستفيد من هذه الاتفاقية حال تطبيقها كذلك مستهلكو الحبوب الأوكرانية (القمح- الذرة –الشعير) وتشمل هذه دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا مثل مصر التي تستورد لتلبية معظم احتياجاتها من القمح والأعلاف، وتمثل نصف صادرات القمح الأوكراني، بالإضافة إلى الصين، التي تعتمد على الذرة الأوكرانية.ويمكن القول، أن اتفاقية الحبوب بين موسكو وكييف يمكن أن تؤدى إلى زيادة الصادرات من المنتجات الزراعية والأسمدة، مما يساعد في تخفيف بعض آثار الصراع، لكن هل هذا يكفي لإعادة الوضع إلى ما كان عليه قبل الصراع؟، الإجابة قطعا لا، فالأزمة الحالية في إمدادات القمح والمنتجات الزراعية الأخرى مدفوعة بعدة عوامل، يمكن للاتفاقية أن تسرع عملية إعادة البناء الاقتصادي لأوكرانيا، لكن الصراع مستمر، لأن ضربة صاروخية واحدة قد تهدد عملية تأمين السفن أثناء نقل الحبوب، لكن يمكن أن يمثل الاتفاق بداية طريق لحل أزمة الأمن الغذائي.
.
رابط المصدر: