هل الأزمة المتعددة سيئة إلى هذا الحد؟

مفهوم الأزمة والأزمة المتعددة ليس جديدا. فكل من المفهومين متأصل في التاريخ البشري، وبالتالي في العقل البشري أيضا. تميل الصدمة العميقة المتولدة عن نوبات من المجاعة، والمرض، والحرب إلى ترك الانطباع بأن كل التحديات مترابطة. أو كما في مسرحية لشكسبير، عندما تأتي الأحزان، فإنها لا تأتي فرادى…

بقلم: هارولد جيمس

برينستون- يبدو أن الاقتصاد العالمي الهادر وحالة الابتهاج الشديد التي اجتاحت أسواق الأوراق المالية مؤخرا تتعارض مع عالمنا الـمُـفَـتَّـت الذي تمزقه الأزمات. لقد أفرزت الصراعات التي تبدو مستعصية على الحل في غزة وأوكرانيا انقسامات عميقة على المستوى الدولي وداخل البلدان الصناعية الغنية. ومع عجزها عن الاتفاق على ما يخدم مصالحها الوطنية، تناضل الديمقراطيات لصياغة سياسات خارجية متماسكة. باختصار، تنتشر الأزمات السياسية في كل مكان، باستثناء عالَـم البيانات الاقتصادية.

ولكن بأي شيء يُـنبـئـنا هذا التباين؟ هل تجعلنا مصادر النمو الاقتصادي الأساسية أكثر أمانا على الرغم من كل شيء، أو هل ينبغي لنا أن نكون أشد قلقا بشأن ما هو آت؟ تبدو الحجة لصالح التشاؤم قوية. فبعد صدمة العرض السلبية التي أحدثتها جائحة مرض فيروس كورونا 2019 (كوفيد-19)، ثم الحرب التي تشنها روسيا في أوكرانيا، فَـقَـدَ الناس الأمل في قدرة الاقتصاد وحده على حل مشكلاتهم. ومع انتشار الحروب وتصاعد التوترات، تنامى خطر حدوث صدمات عرض سلبية جديدة. ولم تَـعُـد أوهام حصانة الاقتصاد ضد السياسة تراود أحدا.

في حين عملت سويسرا ذات يوم كوسيط فعال في الصراعات الدولية، فإن جهودها الأخيرة كانت بلا طائل. سعى مؤتمر بورجنستوك للسلام في يونيو/حزيران إلى إنتاج مخطط لإحلال السلام في أوكرانيا، ولكن لم تحضر روسيا وغابت الصين، ورفضت قوى الأسواق الناشئة مثل الهند، والبرازيل، والمملكة العربية السعودية، وتايلاند، وإندونيسيا التوقيع على البيان الختامي.

في الوقت ذاته، تتدهور أيضا الحوكمة الاقتصادية العالمية. فقد أصبحت منظمة التجارة العالمية في حالة احتضار، وبدأت علامات الشيخوخة تظهر على مؤسستي بريتون وودز (البنك الدولي وصندوق النقد الدولي)، اللتين تحتفلان حاليا بذكرى مولدهما الثمانين. وحتى نسخة الصين البديلة للعولمة، مبادرة الحزام والطريق، تترنح الآن تحت وطأة أعباء الديون.

تفسر هذه التطورات وغيرها شعبية مصطلح “الأزمات المتعددة”. صاغ هذا المصطلح الفيلسوف الفرنسي إدجار موران في تسعينيات القرن العشرين، ثم تبناه رئيس المفوضية الأوروبية جان كلود يونكر في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، ثم حوله المؤرخ آدم توز إلى فِـكرة فيروسية الانتشار أثناء الجائحة.

كان مورين يتأمل في ادعاء فرانسيس فوكوياما بأن التطور التاريخي كان يميل نحو الديمقراطية الليبرالية ورأسمالية السوق. وفي تأمله للسنوات التي أعقبت الحرب الباردة مباشرة، أعرب مورين عن قلقه من أن كل مجال من مجالات الوجود البشري كان مُـطاردا بالأزمات ــ من الاقتصاد، والمجتمع، والأسرة التقليدية إلى القيم، والشباب، والعلم والقانون. لقد وَلَّد العالَـم حلقات من ردود الفعل الخطيرة التي تهدد بإرباك التنظيم، على النحو الذي أدى إلى تفاقم المخاطر المميتة المتمثلة في الدمار البيئي والصراع النووي.

كلمة “Crisis” في اللغة الإنجليزية (أزمة في اللغة العربية) مشتقة من الكلمة اليونانية (krinō) والتي تعني “اختيار”: كانت تستخدم كلاسيكيا لوصف نقطة تحول، في مرض غالبا، عندما يتحول المريض إلى الموت أو إلى الشفاء. وتأتي كلمة “poly” من الكلمة اليونانية (polis)، والتي تعني في عموم الأمر “دولة أو مجتمع وخاصة عندما تتصف بحس مجتمعي”. وجمعها (polloi)، وربما ينبغي لنا أن نتحدث عن “polloicrises”. ذلك أن مجتمعاتنا (polloi)، تتفكك.

في تأمله لمسار مصطلح crisis (أزمة)، لاحظ مؤرخ المعاني العظيم راينهارت كوزيليك: “مثل هذا الميل نحو الغموض والإبهام يمكن اعتباره في حد ذاته عَرَضا لأزمة تاريخية لا يمكن قياسها بالكامل حتى وقتنا هذا”.

لكن مفهوم الأزمة والأزمة المتعددة ليس جديدا بالطبع. فكل من المفهومين متأصل في التاريخ البشري، وبالتالي في العقل البشري أيضا. تميل الصدمة العميقة المتولدة عن نوبات من المجاعة، والمرض، والحرب ــ فرسان نهاية العالم قبل العصر الحديث ــ إلى ترك الانطباع بأن كل التحديات مترابطة. أو كما يقول كلوديوس في مسرحية هاملت لشكسبير، “عندما تأتي الأحزان، فإنها لا تأتي فرادى على هيئة جواسيس بل في كتائب”.

الواقع أن نهاية الإمبراطورية الرومانية ــ مع توسعها المفرط، وفشلها في توفير الإمدادات للمدن الكبرى، وفجوات التفاوت المتزايدة الاتساع، والمجاعات، والهجمات الخارجية ــ كانت بكل تأكيد مُـكـتَـنَـفة بأزمة متعددة. على نحو مماثل، في أربعينيات القرن الرابع عشر، بعد تخلف دول عن سداد ديونها (الأمة الإنجليزية على رأسها) وإفلاس البيوت المالية الكبرى في فلورنسا، اندلعت حروب أكثر، فساعَد ذلك في انتشار الطاعون الأسود في مختلف أرجاء أوروبا. وعلى هذا فقد قوطِـعَـت بوحشية النسخة من العولمة التي ظهرت في أواخر العصور الوسطى.

تكمن غرابة اللحظة الحالية في أن الحلول، في مواجهة كل هذه الكآبة واليأس، تبدو أقرب إلى متناولنا وأوسع نطاقا من أي وقت في الماضي. الواقع أن وتيرة الإبداع التقني ــ في الاستجابة للأزمات غالبا ــ تتسارع، ولا يخلو الأمر من تفاؤل مبرر بشأن قدرة الذكاء الاصطناعي على تحقيق تحسينات كبيرة في الطب (أدوية جديدة، وتكنولوجيات جديدة) والتعليم (أساليب تَـعَـلُّـم جديدة)، فضلا عن توليد بدائل للطاقة الكربونية أو الاستخدام الواسع الانتشار للمبيدات الحشرية.

ربما ينبغي لنا أن نتفاءل إذًا، ونركز بدرجة أكبر على “التعددية” وليس على “الأزمة”. لقد أصبحت التعددية ذاتها لفظة شائعة توجيهية لعقد العشرينيات من القرن الحادي والعشرين مع الاهتمام الجديد بظاهرة أخرى قديمة: “علاقات الحب المتعددة”. كانت المعالِـجة النفسية المتعددة العلاقات جيسيكا فيرن رائدة في ابتكار مصطلحات مثل Polysecure (الأمان المتعدد) وPolywise (التحول المتعدد)، والذي يعكس المقارنة التي عَـقَـدها مورين بين الأزمات الفردية الصغيرة النطاق والأحداث العالمية. الواقع أن المصطلحات المستخدمة في وصف الحياة الشخصية أصبحت قابلة للتطبيق على الاتجاهات السياسية الأوسع نطاقا. على سبيل المثال، شرعت الصين والولايات المتحدة في “انفصال واع”، وهو ذات المصطلح الذي استخدمته جوينيث بالترو لوصف انفصالها عن كريس مارتن.

ربما يكون العالم أكثر أمانا مما نتصور. ورغم أننا نواجه صدمات عرض سلبية متعددة، فإن هذه الصدمات سوف تولد إبداعات جديدة قد تُـفـضي إلى مزيد من الرخاء والأمن، وليس العكس.

 

المصدر : https://annabaa.org/arabic/views/39655

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M