المفارقة في هذا السؤال المثير للجدل أنه لم يأت من الغربيين كتابا أو مستشرقين، ولم يطرح على ما أعلم أو يثار في مجالهم التداولي لا قديما ولا حديثا، وإنما جاء من دون فحص أو تحقيق على ما يبدو من بعض الكتاب العرب المعاصرين الذين أشاروا لهذا الرأي مع تباين واختلاف في البيان والمنحى والدافع.
فهناك من يرى أن التسامح منذ النصف الثاني من القرن السابع عشر الميلادي بات يمثل سمة عامة في الفكر الغربي، ويعد غائبا عن اللغة العربية، ومن ثم فهو غائب بالتبع عن أنماط التفكير كافة التي تعمل عبر هذه اللغة.
ذهب إلى هذا الرأي اللبناني سمير الخليل، وشرحه في مقالته (التسامح في اللغة العربية)، المنشورة في كتاب مشترك مع كتاب بريطانيين، قام بترجمته عن الإنجليزية الكاتب اللبناني إبراهيم العريس، ونشره بالعربية سنة 1992م، بعنوان: (التسامح بين شرق وغرب.. دراسات في التعايش وقبول الآخر).
في هذه المقالة حاول الخليل تغليب الموقف الغربي، وتصوير أن مفهوم التسامح يمثل امتيازا له لغة وفكرة وتاريخا، وسحب هذا الامتياز عن اللغة العربية، ناظرا لكون التسامح هو مفهوم حديث ظهر وتشكل في الفضاء الأوروبي قبل ثلاثمائة سنة ولم يكن له وجود قبل ذلك، وقاطعا الطريق على اللغة العربية معتبرا أن غياب التسامح كفكرة عن اللغة العربية يعد أمرا واضحا عنده، وليس بحاجة إلى تفسير.
وآخر ما انتهى إليه الخليل تأكيدا لموقفه، أن كلمة التسامح في المجال العربي ليست واحدة من تلك الكلمات التي تم النضال بشأنها خلال القرن التاسع عشر أو حتى في القرن العشرين، ولسبب من الأسباب تم في نظره تجاهل هذه الكلمة كليا، وتم تجاوزها وبات النظر إليها من نافل القول كما لو أنها لا تعبر في حقيقة أمرها عن شيء.
ويرى الخليل أن الاشتراكية والماركسية والقومية والديمقراطية إذا كانت قد وجدت لها مفكرين يهتمون بها، وأوجدت لنفسها أيديولوجيين وناطقين باسمها، فهذا بخلاف الحال مع التسامح الذي لم يكن هناك من يفكر به أو ينطق باسمه.
هذا الرأي المثير للجدل لا يمكن التسليم به، وهو من جهة النسق والطبيعة والروح العامة يلتقي بموقف الكاتب اللبناني فرح أنطون ويذكرنا به، والذي عبر عن رأيه المثير للجدل والصادم في مطلع القرن العشرين، حين اعتبر أن المسيحية أكثر تسامحا من الإسلام في العلاقة مع العلم والفلسفة.
لكن هذا الرأي من فرح أنطون لم يمر في وقته من دون مواجهة ومحاججة، ولحساسية هذا الرأي فقد انبرى له من وصفه الدكتور عثمان أمين في أطروحته للدكتوراه برائد الفكر المصري الإمام محمد عبده، ما أكسب هذه المحاججة أهمية فائقة، عدت لاحقا واحدة من أشهر المناظرات الفكرية التي يؤرخ لها في المجال العربي في القرن العشرين.
وبخلاف هذا الحال تماما ما حصل مع رأي سمير الخليل، الذي مر وتعرف عليه الكثيرون كتابا وباحثين، لكن من دون أن يواجه بمحاججة فكرية ونقدية، لعلها تذكر بتلك المناظرات التي تبهج الفكر، وتنعش المعرفة.
وأمام هذا الرأي الذي طرحه الخليل، هناك ثلاثة أمور تسجل عليه، هي التحيز من جهة، والجزم من جهة ثانية، والحصرية من جهة ثالثة.
من جهة التحيز فقد ظهر واضحا على الخليل حس الاصطفاف إلى جانب الموقف الغربي، وتجلى هذا الميل من البداية إلى النهاية، معلنا عن تفوق هذا الموقف، وكاشفا عن تغلبه ومعتبرا أن التسامح صار هو العمود الفقري لليبرالية التي هي فلسفة عامة للجماعة البشرية.
ومن جهة الجزم فإن الخليل أظهر موقفا جازما وثابتا، في حين أن ما طرحه لا يمثل إلا قولا من الأقوال في هذا الموضوع، وهو قول كحال جميع الأقوال قابل للتصويب والموافقة، وقابل كذلك للتخطئة والمخالفة، ويمكن أن يكون قول صاحبه في وقته، والبقاء عليه ممكن والتعديل فيه مع تعاقب الوقت ممكن أيضا، كما أنه قول ولعل هناك أقوالا أخرى قد تعارضه وتفارقه، الأمر الذي يقتضي بحسب هذه الحالات وغيرها عدم إعطاء القول صفة الجزم.
ومن جهة الحصرية، حاول الخليل حصر مفهوم التسامح بالمجال الغربي، وناظرا إلى أن التسامح بشكله الحديث لا تزيد سنه عن ثلاثمائة سنة، وقبل ذلك لم يكن له وجود، الأمر الذي يستوجب في نظره البحث عن الأصول التاريخية له في المجال الغربي، ولا أظن أن هذا الرأي يقبل به اليابانيون أو الصينيون أو الهنود فضلا عن المسلمين.
وبخلاف ما ذهب إليه الخليل حول نقصان كلمة التسامح وهشاشتها في اللغة العربية، وعلى النقيض من ذلك تماما وجد الدكتور جابر عصفور في كتابه (هوامش على دفتر التنوير) ثراء دلاليا يجاري القيم الحديثة، وحسب رأيه أن كلمة التسامح تدل في اللغة العربية على السياسة التي يتجمل بها الفرد في التعامل مع كل ما لا يوافق عليه، ويصبر عليه، ويجادل فيه بالتي هي أحسن، ويتقبل حضوره بوصفه حقا من حقوق المخالفة، ولازمة من لوازم الحرية التي يقوم عليها معنى المواطنة في الدولة المدنية الحديثة.
ويرى الدكتور عصفور أن الجذر اللغوي للترجمة العربية “سمح”، يؤكد هذه الدلالة الأصيلة، فهو يرتبط بمعاني العطاء والرحابة والقبول والصفح ولين الجانب والتساهل، ومن ثم يؤكد حق المغايرة، وتدور دلالته حول تقبل وجود الآخر المخالف، ومن ثم مجادلته بالتي هي أحسن، والانطلاق من أنه ليس أدنى أو أقل لأنه آخر أو مختلف.
ولعل الخليل لم يستحضر مناظرة فرح أنطون والشيخ محمد عبده، التي قدم فيها الشيخ عبده تفكيكا وتقويضا جادا ومتماسكا لمقولة أنطون، وكشف في المقابل عن مدى أصالة مفهوم التسامح وعمقه في الإسلام، وأنه يستند إلى أصول كلية ثابتة وراسخة تولد هذا المفهوم وتضمن بقاءه وديمومته.
وكان المفترض بعد محاججة الشيخ عبده تتوقف كل التشكيكات حول علاقة التسامح بالإسلام.
أمام هذا السؤال الجدلي والإشكالي مجددا والمثار في المجال العربي، هناك من يرى أن التسامح إنما يعبر عن ثقافة مسيحية غربية مشبعة بالاستسلام، وتقديم الخدين معا للصفع كعربون لمقام الصفح، ونادت بهذا المفهوم المسيحية زمن الاضطهاد لتجد مبررا للتعايش، وتعطي للقوة المتغطرسة مجالا واسعا للطغيان والاستبداد، وكان من نتائج هذه التسامحية الغربية الدينية حلول عصر الظلام الغربي.
ذهب إلى هذا الرأي الباحث الجزائري الدكتور عبدالقادر بوعرفة وشرحه في تصديره لكتاب (التسامح.. الفعل والمعنى) الصادر سنة 2010م، وتمم هذا القول بالدعوة إلى التحول والانتقال من خطاب التسامح إلى خطاب العفو، باعتبار أن التسامح في نظره هو مفهوم غربي مسيحي ينزع نحو الضعف والاستسلام، بينما العفو هو مفهوم إسلامي قرآني ينزع نحو القوة والرفعة.
والملاحظ أن هذا الرأي ظهر عليه امتزاج الحس النفسي الرافض، بالحس السياسي الغاضب، بالحس الأيديولوجي الشكاك، الحس النفسي الرافض ظهر عند الدكتور بوعرفة بقوله: أرفض من تلقاء نفسي مفهوم التسامح لأنه يعكس السلب والضعف، وظهر الحس السياسي الغاضب بقوله: يزداد خطاب التسامح انتشارا وتداولا في العالم، لكنه يخفي خبثا أيديويوجيا، فالتسامح يعرضه الكبار كسلعة إلى عالم الصغار، فالكبار لا يمارسون التسامح ولكنهم يدعون الصغار إلى ممارسته، بيد أن المقام يفرض الاعتراف بأن قيم التسامح والسلم العالمي يصنعها الأقوياء لاستحمار العالم.
وظهر الحس الأيديولوجي الشكاك في موقف بوعرفة عند قوله: إن مصطلح التسامح لم يدخل إلى الثقافة العربية إلا في نهاية القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين عن طريق كتابات بعض المسيحيين العرب.
أمام هذا الرأي المثير للجدل، يمكن القول إن هناك جانب اتفاق وجانب اختلاف، جانب الاتفاق يتحدد في أن الدكتور بوعرفة فتح أفق العلاقة بين مفهومي التسامح والعفو، ووضعهما في دائرة الضوء والنظر.
وجانب الاختلاف يتحدد في أن النظر لمفهوم التسامح كان متجها إلى الخارج، وناظرا إلى الآخر البعيد وتحديدا إلى الآخر غير المسلم، ولم يلتفت إلى الحاجة لتطبيقات التسامح في نطاق الداخل الإسلامي بين المسلمين، وهو المجال الحيوي الراهن لتطبيقات التسامح، وفي هذا النطاق لسنا بحاجة إلى اقتران التسامح بالقوة، وإنما إلى اقترانه باللين والعفو والصفح والجود والعطاء والرحابة، وهي مجموع الصفات المعبرة عن الحقل الدلالي اللغوي لمفهوم التسامح في اللغة العربية.
من جانب آخر، وفي سياق مختلف، هناك من يرى أن التسامح كان موجودا في التراث العربي الإسلامي، لكنه لم يكن بذلك الوضوح الذي تجلى في الفكر الأوروبي الحديث.
ذهب إلى هذا الرأي الباحث الأردني الدكتور محمد أحمد عواد، وأبان عنه وشرحه في مقالة بعنوان: (منطلقات التسامح عند الفلاسفة المسلمين)، نشرها في مجلة التسامح العمانية العدد الأول شتاء 2003م/ 1423هـ.
ولعل هذا الرأي ينطلق من حالة الوضوح في جانب، ومن حالة عدم الوضوح بالقدر الكافي في جانب آخر، من حالة الوضوح في جانب علاقة الفكر الأوروبي بمفهوم التسامح بحكم وجود الكتابات المعروفة والمتداولة في هذا الشأن، ومن حالة عدم الوضوح بالقدر الكافي في جانب علاقة الفكر العربي والإسلامي بمفهوم التسامح لقلة الدراية على ما يبدو بالكتابات في هذا الشأن، وعدم شهرتها في المجال التداولي العام.
وحقيقة الأمر أن التسامح لم يكن موجودا في التراث العربي الإسلامي فحسب، بل كان موجودا وحاضرا حتى في الكتابات المعاصرة بصور وأنماط مختلفة، وظهرت هذه الكتابات وجاءت في أزمنة متعاقبة ترجع إلى مطلع القرن العشرين وتمتد إلى حقبة الستينات وما بعدها، واتصلت بأرضيات وسياقات فكرية وتاريخية متنوعة.
ويكفي للدلالة على ذلك الإشارة إلى ثلاث محاولات جاءت من ثلاثة أسماء معروفة، هي محاولة الشيخ محمد عبده سنة 1902م الذي قدم جهدا في تأسيس أصول التسامح في الإسلام، ولو أن كتابه الذي جمعه تلميذه الشيخ محمد رشيد رضا ووضع له عنوان: (الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية)، لو أنه حمل عنوانا آخر فيه تسمية التسامح لكان للكتاب شأن مختلف، ولتغيرت بقدر ما صورة مفهوم التسامح وعلاقته بالمجال العربي والإسلامي.
والمحاولة الثانية جاءت من الشيخ محمد الغزالي في كتابه (التعصب والتسامح بين المسيحية والإسلام) الصادر سنة 1953م، والمحاولة الثالثة جاءت من الشيخ محمد الطاهر بن عاشور في كتابيه (مقاصد الشريعة الإسلامية) الصادر سنة 1946م، وكتاب (أصول النظام الاجتماعي في الإسلام) الصادر سنة 1964م، في كتاب المقاصد اعتبر ابن عاشور أن السماحة هي أولى أوصاف الشريعة وأكبر مقاصدها، وفي كتاب أصول النظام الاجتماعي اعتبر ابن عاشور أن التسامح من خصائص دين الإسلام، ومن أشهر مميزاته وأدل حجة على رحمة الرسالة الإسلامية.
وحاصل الكلام أن التسامح ليس مفهوما غربيا ينتمي إلى المجال الأوروبي، ويتحدد بفضائه وتاريخه وثقافته وتراثه، كما ظن البعض خطأ أو سهوا، وإنما هو مفهوم إسلامي ثابت وأصيل، عرفت به الشريعة الإسلامية، ووصفت بالشريعة السمحة، وظلت متلازمة بهذا الوصف البديع، ومن شدة هذه الملازمة وعمق هذه الصلة بين الشريعة والتسامح، أصبح من يكتسب المعرفة الدينية يطلق عليه صاحب السماحة، كما هو الوصف الذي يطلق على علماء الدين المسلمين.
أما في المجال الأوروبي فقد عرف مفهوم التسامح حديثا، وشهد تطورا ومتابعة منذ النصف الثاني من القرن السابع عشر الميلادي، وبقي متجددا ومتراكما، وتحددت له وجهة غير الوجهة التي تحددت له في ساحة الفكر العربي والإسلامي.
المصدر : https://annabaa.org/arabic/authorsarticles/37880