يواجه الرئيس الصيني “شي جين بينج”، أحد أكبر التحديات بعد اندلاع الاحتجاجات في عدد من المدن الصينية، ضد الضوابط الصارمة التي تطبقها “بكين” لمواجهة فيروس “كوفيد-19″، والمعروفة باستراتيجية “صفر كوفيد”، إذ شهدت نهايات شهر نوفمبر الماضي اندلاع احتجاجات غير مسبوقة في جميع أنحاء الصين، بسبب القيود الصارمة التي فرضتها البلاد منذ بدء تفشي وباء “كوفيد -19”.
المظاهرات التي اندلعت في العديد من المدن والجامعات الصينية، توضح مدى حالة الكبت والسأم لدى العديد من الصينيين، جراء عمليات الإغلاق والاختبارات واسعة النطاق التي تعد جزءًا من سياسة الصين المعروفة بـ “صفر كوفيد”. فما هي الأسباب الكامنة وراء تلك الاحتجاجات؟ ولماذا فشلت استراتيجية “صفر كوفيد” في تحقيق النتائج المرجوة منها؟ وهل تتخلى بكين عن تلك الاستراتيجية تلبية لمطالب المحتجين؟، وهو ما سوف نحاول الإجابة عليه تلك في السطور التالية.
تداعيات الاحتجاجات
مع بداية تفشي وباء “كوفيد-19” هدفت الصين لإبقاء حالات الإصابة بالفيروس عند الدرجة “صفر” وبالتالي تبنًّت استراتيجية “صفر كوفيد”، ولتحقيق ذلك فرضت عددًا من القيود منها، إجراء اختبارات جماعية في الأماكن التي يتم فيها الإبلاغ عن الحالات، وعزل الأشخاص المصابين بفيروس كورونا في المنازل، أو وضعهم في الحجر الصحي بالمرافق الحكومية، وفرض عمليات إغلاق صارمة على مدن بأكملها، واتخذت بعض السلطات المحلية إجراءات مبالغ فيها تمثلت في إجبار العمال على النوم داخل المصانع حتى يتمكنوا من العمل أثناء الحجر الصحي. ونتيجة لذلك حصرت الصين أكثر من 11 مليون مواطن في منازلهم، واستمرت في اتباع هذا النهج منذ تفشَّي الوباء وحتى الوقت الراهن.
لكنًّ هذه القيود الصارمة، قد دفعت المواطنين في جميع أنحاء الصين لتنظيم احتجاجات يوم الجمعة 25 نوفمبر 2022، للاعتراض على الوفيات الناجمة بسبب حريق في مبنى سكني في مدينة “أورومتشي”، حيث يعتقد الشعب أنه حدث بسبب إجراءات الإغلاق التي تفرضها الدولة، والتي أدت إلى تعطيل جهود الإنقاذ مما أسفر عن مقتل 10 أشخاص، وجدير بالذكر أن “بكين” كانت قد فرضت حجرًا على تلك المقاطعة منذ أغسطس الماضي.
وفي يوم 27 نوفمبر، تصاعدت وتيرة الاحتجاجات ضد سياسات الصين الصارمة بشأن مكافحة فيروس “كوفيد-19″، حيث اندلعت الاحتجاجات في مقاطعة “شنغهاي” والعاصمة “بكين”، كما احتج العاملون في مصنع “فوكسكون” للمنتجات الإلكترونية، الذي يصنع تحديدًا هواتف “أيفون” في مدينة “تشنجتشو” بوسط البلاد ضد فرض الإغلاق.
المظاهرات التي انتشرت في 50 جامعة في الصين بدأت سلمية ثم تطورت إلى مشاجرات بين الشرطة والمواطنين، بينما في بعض الاحتجاجات رفع المواطنون شعارات يطالبون فيها باستقالة الرئيس الصيني “شي جين بينغ”، ويعلنون رفضهم لإجراء المزيد من الاختبارات الخاصة بجائحة “كوفيد-19”.
كما شهدت الاحتجاجات قيام المتظاهرين بتحرير الأحياء السكنية المُغلقة عن طريق إزالة السياج المُحيطة بها، ولم تقف المظاهرات عند هذا الحد، بل انتشرت لتشمل الجامعات حيث نظم مئات الطلاب مظاهرات سلمية يوم 27 نوفمبر ببعض جامعات العاصمة “بكين”، تعبيرًا عن رفضهم للتشديد الرقابي تحت حكم الرئيس “شي جين بينج”، وتأتي المظاهرات التي تمت السيطرة عليها من قبل القوات الصينية بعد شهور من الإحباط، خاصة بين الشباب الصيني، في ظل عمليات الإغلاق الصارمة، والحجر الصحي، والاختبارات الجماعية، وأعمال المراقبة الإلكترونية بموجب سياسة “صفر كوفيد”.
في السياق ذاته ومع اقتراب فصل الشتاء، تواجه المدن الكبرى في الصين خطورة تفشي الوباء مع تسجيل كل من مقاطعتي “تشونجتشينج” و “قوانجتشو” الجزء الأكبر من الإصابات الجديدة، وذلك وفقًا للجنة الصحة الوطنية في الصين؛ حيث سجلت بكين 35 ألف إصابة جديدة بفيروس “كوفيد 19” بنهاية نوفمبر 2022، وهو الأمر الذي دفع السلطات الصحية في البلاد إلى التشديد على الإجراءات الوقائية، وإغلاق العديد من المقاطعات، وترتب على ذلك شيوع حالة إحباط عام بين السكان والمستثمرين في ظل تباطؤ النمو الاقتصادي.
وفي هذا السياق، يرى العديد من الأطباء أن تفشي “فيروس كورونا” مرة أخرى في الصين أمر لا مفر منه؛ نظرًا لأن قابلية الفيروس للانتقال في أثناء تحوره تكون أعلى، بالإضافة إلى أن سياسة الحكومة الصارمة للقضاء على الفيروس، ورفض الحزب الشيوعي تطعيم المواطنين باللقاحات الأجنبية التي أنتجتها الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا، وفترات الإغلاق الطويلة، كلها عوامل أدت إلى تعرض عدد غير قليل من السكان للفيروس وفشل تكوين مناعة مجتمعية ضده كبقية دول العالم.
وبحسب أحد التقديرات، يمكن أن تؤدي إعادة فتح المقاطعات إلى ارتفاع عدد المصابين الذي سيحتاجون إلى العناية المركزة إلى نحو 5.8 ملايين حالة في بلد به أقل من أربعة أسرًّة لكل 100 ألف شخص، وهذا يفسر إصرار الحزب الشيوعي على سياسة “صفر كوفيد”، وعلى الرغم من أن عملية الإغلاق تؤخر انتشار الوباء كما أفادت التقارير الطبية، فإنها تتسبب في أضرار اقتصادية واجتماعية كبيرة. حيث يتوقع بعض خبراء الاقتصاد أن تؤدي عمليات الإغلاق الجديدة إلى تباطؤ النمو الاقتصادي، مع انخفاض التقديرات المتوقعة للنمو خلال الربع الأول من العام الجاري إلى 3%؛ وذلك بافتراض أن الحكومة الصينية لن تفرض حالة الإغلاق في المقاطعات كافة، ومن الجدير بالذكر أن الحكومة كانت تهدف إلى تحقيق نمو بنحو 5.5% خلال العام الجاري، وهذا ما لم يتحقق بسبب القيود المفروضة من قِبل الدولة.
كيف يتعاطى الصينيون مع تلك الاستراتيجية؟
قوُبلت هذه الاستراتيجية بترحيب في بداية انتشار الوباء، حيث عبًّر الكثير عن فخرهم بقدرة بلدهم على مواجهة الأزمة مقارنة بالدول الأخرى، ولكن ومع مرور الوقت أصبح الفيروس أكثر قابلية للانتشار، مما أدى لزيادة حالات الإصابة في جميع أنحاء البلاد، وباتت عمليات الإغلاق أكثر حدة على المواطنين فضلًا عن ارتفاع التكلفة.
كذلك أدت عمليات الإغلاق في بعض المدن، إلى نقص واسع النطاق في الغذاء والضروريات اليومية الأخرى؛ كما أثر ذلك على الوضع الاقتصادي في البلاد وتراجع النمو الاقتصادي الصيني، فضلًا عن تأثير تلك السياسة على الحياة اليومية وعلى سفر المواطنين، وإغلاق المصانع والشركات والمدن لما يقرب من 3 سنوات، وتحّمل المواطنين للضغوط الناتجة عن ارتفاع الأسعار، بالإضافة إلى عدم سماح الصين بتلقيح مواطنيها بعد بأي لقاحات أجنبية الصنع، وتلقيهم لقاحات تم تطويرها في الصين فقط. فإن كل ذلك غذى من تصاعد الغضب العام، وأدى إلى إشعال الاحتجاجات في عِدة مُدن.
هل تتخلى “بكين” عن استراتيجية “صفر كوفيد”؟
كان اتباع سياسة “صفر كوفيد” بمثابة انتصار كبير للرئيس الصيني “شي جين بينغ” منذ تفشي الوباء، ووصفت وسائل الإعلام الحكومية الصينية النظام السياسي للحكومة في عهد “شي”، بأنه السبب الرئيس وراء نجاح البلاد في منع حالات الإصابة والوفيات الناجمة عن “كوفيد -19”.
وفي هذا السياق، فإن إنهاء استراتيجية “صفر كوفيد” تعني الاعتراف ضمنيًا بالخطأ في التعامل مع الأزمة، وهو الأمر الذي يجعل نظام الرئيس الصيني في مأزق، علاوة على ذلك، فإنّ تخفيف القواعد يُعني ارتفاعًا كبيرًا في عدد حالات الإصابات والوفيات، في الوقت الذي تعاني فيه الصين من قلة أسّرة العناية المركزة، مما يجعلها غير مؤهلة للتعامل مع تصاعد موجات الوباء.
وفي سياق آخر، يُعتبر الرئيس الصيني الحالي “شي جين بينج” أقوى زعيم شهدته الصين بعد “ماو تسي تونج”، خاصة بعد حصوله مؤخرًا على فترة ولاية ثالثة كزعيم “للحزب الشيوعي الصيني”. وعلى الرغم من ذلك، فإن الاحتجاجات الحالية على استراتيجية “صفر كوفيد”، والتي تُعد سياسة وطنية وعلى رأس أجندة الرئيس الصيني، تُمثل تحديًا كبيرًا للقيادة الصينية.
هل تُخفف بكين من حِدة القيود؟
مع تزايد حالات الإصابة بـ “كوفيد-19” في الصين حيث أصبح الفيروس أكثر قابلية للانتقال، تزايدت المعارضة العامة ضد سياسات الاحتواء الصارمة للحكومة، ومع تصاعد الاحتجاجات، بدأت الصين هذا الأسبوع في تخفيف بعض القيود المتعلقة بالوباء، والتزمت الصمت حتى الآن بشأن الاحتجاجات الجماهيرية، لكنها في الوقت نفسه لم تتخل بعد عن استراتيجية “صفر كوفيد”، ويحاول الإعلام الصيني الترويج لتلك السياسة ومدى فاعليتها في تحقيق نتائج إيجابية.
ويبدو أنه من غير المُرجح، أن تُجبر تلك الاحتجاجات الحكومة الصينية على إنهاء استراتيجيتها الخاصة بمكافحة الوباء، في الوقت قريب. وسيقتصر الأمر على تقديم بعض التنازلات ورفع بعض القيود، مع قيام الحكومة الصينية وقوات الشرطة بالتعامل أي احتجاجات قد تجتاح شوارع المدن الصينية في الأيام القادمة.
.
رابط المصدر: