نتج عن الموقف الروسي المتعنت وقرار روسيا زيادة إنتاج شركاتها إلى أقصى طاقة إنتاجية قيام السعودية بتبني فكرة المعاملة بالمثل، فقررت تخفيض أسعار النفط وزيادة إنتاجها إلى طاقته القصوى، ونتج عن ذلك انخفاض حاد في الأسعار، حيث انخفضت أسعار خام غرب تكساس إلى أقل من 30 دولاراً للبرميل يوم أمس، كما انخفضت الفروقات السعرية بين خامي برنت وغرب تكساس إلى قرابة الدولار الواحد، الأمر الذي ينعكس سلباً على صادرات النفط الأميركية التي كانت تستفيد في العامين الماضيين من الفروقات السعرية الكبيرة التي جعلت النوع الأميركي أرخص من مثيله في الأسواق.
ونتج عن هذا الانخفاض تهاوي أسعار أسهم شركات النفط الصخري، حيث خسر أغلبها بين 40 و50 في المئة من قيمته، كما أجبر الشركات على تخفيض إنفاقها الاستثماري لهذا العام والعام الذي يليه.
في ظل هذا الوضع، أعلن هارولد هام، مؤسس شركة كونتيننتال ريسورز النفطية، عزمه تقديم شكوى إلى وزارة التجارة للتحقيق في “إغراق السعودية لسوق النفط الأميركية”، وقبل الخوض في التفاصيل، من المهم أن يعرف القارئ من هو هذا الرجل.
هارولد هام من أغنى أغنياء أميركا، بسبب النجاح الكبير الذي حققه في مجال النفط عبر عِدة عقود، وكان من أوائل من دخل مجال النفط الصخري، خصوصاً في حقل “باكان” شمالي داكوتا، إلا أن ما يميزه عن غيره أنه ناشط سياسياً في الدفاع عن مصالح صناعة النفط الأميركية عموماً، ومصالح المنتجين المستقلين بشكل خاص، وكان هو الشخص الذي قاد الحراك في عهد أوباما لإقناع البيت الأبيض بالسماح بتصدير النفط الأميركي، والذي كان يُمنع تصديره بأمر رئاسي منذ عام 1974، ونجحت جهوده في أواخر عام 2015 عندما قرّر أوباما رفع الحظر عن تصدير النفط، وهو أمر غيّر خريطة العالم النفطية، وفي تلك الفترة أصبح هارولد مستشار المرشح الرئاسي دونالد ترمب لشؤون الطاقة، وبقي مستشاراً خاصاً له بعد أن أصبح رئيساً.
وخسر هارولد ملياري دولار يوم الاثنين من الأسبوع الماضي، عندما انخفضت أسعار النفط 30 في المئة، الأمر الذي أثار غضبه وقرر تقديم شكوى ضد السعودية بتهمة الإغراق، وهي تهمة كبيرة، وفي كثير من الأحيان تنتج عنها سياسات حكومية ضارة في الطرفين والتجارة الدولية، وتتضمن فرض ضرائب جمركية عالية على الواردات من الدولة المتهمة بالإغراق. ويعد ترمب أكثر رئيس في تاريخ بلاده ولعاً بفرض هذا النوع من الضرائب.
إلا أن مؤسس شركة كونتيننتال ريسورز، نسي أو تناسى عدة أمور منها أن واردات الولايات المتحدة من النفط السعودي أصبحت قليلة، وأن أي زيادة فيها ستكون بسيطة نسبياً، وأن أغلب هذه الواردات يذهب إلى مصفاة “موتيفا” التي تملكها “أرامكو”، كما نسي أنه كان من الداعمين للسعودية و”أوبك” ووقف ضد زملائه في صناعة الصخري الأميريكي، ووصفهم بعدم المنطقية لزيادتهم الإنتاج من دون تحقيق أرباح، كما هاجم إدارة معلومات الطاقة الأميركية واتهمها بالمبالغة في إنتاج الصخري.
وأهم موضوع نسيه هو أنه كلما انخفضت أسعار النفط في العقود الماضية قام بعض المنتجين المستقلين أمثاله بتقديم دعوى ضد الدول المنتجة بتهمة الإغراق، وأن وزراة التجارة الأميركية رفضت كل هذه الدعاوى لعدم كفاية الأدلة! فقد خسر المدعون كل الدعاوى السابقة.
كما نسي أن معهد النفط الأميركي، وهو مركز بحثي ومن أقوى اللوبيات النفطية في واشنطن، وقف بصرامة ضد دعاوى الإغراق السابقة التي قام بها مجموعة من أعضاء المعهد من شركات النفط المستقلة، وشهد رئيس المعهد ضدهم في أثناء المحكمة، وقد نسي أيضاً أن أكبر 20 شركة نفطية أميركية وقفت ضد الدعوى التي أقيمت في يونيو (حزيران) عام 1999، وشهد بعضهم في المحكمة ضد المدعين، علماً بأن القانون يتطلب أن تقوم 25 في المئة من صناعة النفط الأميركية بالمشاركة بالدعوى، ولعل سيطرة شركات النفط العملاقة على جزء كبير من إنتاج الصخري جاء لصالح السعودية هنا، لأن هذه الشركات لها مصالح كبيرة في البلد الخليجي ودول “أوبك”.
دعوى إغراق 1999
وكان آخر مشروع دعوى إغراق في عام 2015، ولكن لم يقم المدعون بتقديم الدعوى في اللحظة الأخيرة، إلا أن آخر دعوى في المحكمة كانت في عام 1999، وقامت وزارة التجارة الأميركية برفض دعوى الإغراق بتاريخ 9 أغسطس (آب) من العام ذاته، والتي أقامها مجموعة من صغار منتجي النفط الأميركيين, أو من يعرفون بالمستقلينIndependent Oil Producers بتاريخ 29 يونيو، ضد أربع دول منتجة للنفط وهي السعودية والعراق وفنزويلا والمكسيك بتهمة إغراق السوق الأميركية بالنفط وتخفيض الأسعار في عام 1988 والربع الأول من عام 1999.
ولو نجحت الدعوى وقتها فإن القانون يقضي بفرض ضرائب على واردات النفط من الدول المتهمة بالإغراق على النحو التالي: 84.37 في المئة على النفط السعودي, و177.52 في المئة على النفط الفنزويلي, و33.37 في المئة على النفط المكسيكي, و102.61 في المئة على النفط العراقي، وهذا يعني وقف الواردات من هذه الدول تماماً، ويُضاف إلى ذلك 6.18 دولار أميركي إلى كل برميل، لأن المنتجين الأميركيين ادعو أن حكومات الدول المذكورة سابقاً قدمت إعانات لشركاتها النفطية بهذا المقدار.
وذِكر هذه الإعانة, رغم عدم صحتها, أمر مهم لنجاح القضية حسب القانون الأميركي، ولو تم فرض ضرائب على النفطين السعودي والعراقي بتهمة الإغراق وقتها، فإن ذلك يعني نجاح بعض الجماعات السياسية المعادية للعرب بواشنطن في تهميش دور النفط العربي وتأثيره على السياسة الأميركية، ومن هذا المنطلق, فإن رفض دعوى الإغراق من قبل حكومة الولايات المتحدة يعتبر نصراً للعرب.
وبوقوف الشركات النفطية الكبرى ضد الدعوى، فإنها تكون قد دافعت عن حقوق الدول المتهمة بسبب المصالح المشتركة بينهما، وما هذه الحادثة إلا دليل على أن وصول الدول المنتجة للنفط إلى صناعة القرار في واشنطن يتم عن طريق مشاركة كبريات شركات النفط الأميركية، والتي قامت بتمويل انتخابات العديد من الرؤساء الأميركيين، مثل نيكسون وريغان وبوش الأب وبوس الابن وترمب.
تعريف الإغراق
اقتصادياً، يُعرّف الإغراق بأنه البيع في الأسواق الأميركية بأقل من التكلفة، إلا أن الولايات المتحدة، ولأسباب سياسية، تستخدم تعريفاً آخر وهو البيع في أميركا بسعر أقل من نظيره في البلد المنتج، وأخيراً سمعنا البعض يتحدث عن البيع في الأسواق الأميركية بأقل من “السعر العادل”!
ولو نظرنا إلى هذه المعايير الثلاثة نجد أنها لا تنطبق على الرياض، إلا إذا قامت الحكومة الأميركية بخلق تعريفها الخاص لـ”السعر العادل” الذي يجعل سعر النفط السعودي في أسواق الولايات المتحدة أقل منه، فالسعر لا يزال أعلى من تكلفة إنتاج النفط في السعودية، ولا تزال أسعار النفط الخام داخل هذا البلد الخليجي أقل من سعره في الولايات المتحدة. أما من ناحية السعر العادل، فإن أكبر سلطة في البلاد، الرئيس الأميركي، سعيد بانخفاض أسعار البنزين، وأعلن ذلك رسمياً عبر حسابه في “تويتر”.
الغريب في الأمر أن فرض ضرائب يمنع دخول النفط من هذه الدول، وسيرفع أسعار النفط داخل الولايات المتحدة بشكل كبير، ما يؤثر في تنافسية صناعاتها عالمياً، لأن النفط الذي لن يأت إلى الولايات المتحدة سيذهب إلى أسواق أوروبا وآسيا ويخفض أسعار النفط هناك، لذلك فليس هناك مصلحة سياسية في دعم دعوى الإغراق ضد السعودية.
خلاصة الأمر، لا يُتوقع لدعوى الإغراق أن تنجح، ولكن استغرب أن يحاول ترمب استغلالها لتحقيق مصالح سياسية أو اقتصادية.
رابط المصدر: