أنس بن فيصل الحجي
في زمن كورونا، وصلت أرقام أسواق النفط إلى كل المستويات القياسية في كل المجالات، سواء في انخفاض الطلب أو الإنتاج أو ارتفاع المخزون أو الأسعار أو التغير في الأسعار. ووصل الأمر إلى مطالبة بعض المنتجين الأميركيين بتدخل حكومي لتقنين الإنتاج، وهو أمر لم يحدث منذ 90 عاماً تقريباً.
لا شك أن انتشار فيروس كورونا خفض الطلب على النفط بسبب الضربة الكبيرة التي سببها لقطاعي الطيران والسياحة، إلا أن الضربة الأكبر لأسواق النفط جاءت من عمليات الحجر، وليس من الفيروس نفسه. لهذا انخفض الطلب على النفط بكميات لم يسبق لها مثيل، وربما لن تتكرر مرة أخرى. فقد أشار تقرير “أوبك” الأخير عن أسواق النفط إلى توقعها انخفاض الطلب على النفط بمتوسط قدره 17.3 مليون برميل يومياً في الربع الثاني من العام الحالي مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي. وبما أن الطلب على النفط ارتفع في الأسابيع الأخيرة، فإن توقع “أوبك” يعني أنه مرّت أيام كان فيها الانخفاض في الطلب على النفط أعلى من 20 مليون برميل يومياً. ولكن قد تقوم “أوبك” بتعديل أرقامها نزولاً في تقاريرها المقبلة بسبب المبالغة في الانخفاض في شهري أبريل (نيسان) ومايو (أيار) من جهة، وانتعاش الطلب على النفط في أواخر مايو وفي يونيو (حزيران) الحالي. بغض النظر عن التعديل، فإن الانخفاض تاريخي بكل المقاييس.
وبدأت أسعار النفط تتعافى في الأسابيع الماضية مع تعافي الطلب على النفط بسبب إنهاء عمليات الحجر والانفتاح التدريجي للعديد من الدول والمدن حول العالم، إلا أن الارتفاع الكبير في الإصابات في الأسبوع الأخير، بخاصة في الولايات المتحدة والصين والبرازيل، وظهور بيانات تؤكد وجود حالة من الركود الاقتصادي في عدد من الدول الصناعية جعل بعض المحللين يشككون في استمرارية تعافي أسعار النفط، على الرغم من قيام كبار البنوك بتعديل توقعاتها لأسعار النفط صعوداً. إلا أنه بالنظر إلى التوقعات المختلفة، بما في ذلك توقعات “أوبك” ووكالة الطاقة الدولية وبعض البنوك، نجد أن الغالبية تتوقع عودة التوازن إلى السوق عام 2022، بحيث يعود إلى ما كان عليه عام 2019. ولكن نظرة ثانية للموضوع تشير إلى أن مفهوم “التوازن” يختلف من هيئة لأخرى ومن شخص لآخر.
مفهوم “توازن السوق”
يتحقق التوازن في أسواق النفط عندما يختفي الفائض من السوق، أو يختفي العجز. في الوضع الحالي، المطلوب هو اختفاء الفائض، وإحدى طرق قياس ذلك هي المخزون. وتحقيق التوازن في الفترة المقبلة يتطلب انخفاض المخزون في دول منظمة التعاون والتنمية بحوالى 180 مليون برميل عما هو عليه الآن، وهذا يتطلب التزام دول “أوبك+” بحصصها الإنتاجية، على الرغم من الزيادة المتوقعة في الطلب.
فهل يمكن لدول “أوبك+” أن تخفض المخزون بهذه الكميات، وكم يستغرق ذلك؟
تصعب الاجابة على ذلك بشكل محدد في ظل انتشار فيروس كورونا والمعاناة الاقتصادية لأغلب دول العالم. إلا أن تجرية عام 2017 تشير إلى إنه يمكن فعلاً لدول “أوبك+” أن تخفض المخزون بـ180 مليون برميل. فقد نتج من تركيز السعودية عام 2017 على تخفيض الإنتاج والصادرات، بخاصة تخفيض الصادرات إلى الولايات المتحدة، بالتعاون مع بعض الدول الأخرى، تخفيض المخزون في دول منظمة التعاون والتنمية بحوالى 152 مليون برميل، منها حوالى 120 مليون برميل في الولايات المتحدة، خلال 10 أشهر.
إلا أن الوضع الحالي أفضل بكثير لتخفيض المخزون من عام 2017، على الرغم من وجود كورونا، لعدة أسباب أهمها أن الإنتاج الأميركي من النفط ارتفع بحوالى 1.2 مليون برميل يومياً في الفترة نفسها عام 2017، بينما يتوقع له أن ينخفض الآن بأكثر من 1.8 مليون برميل يومياً. أما إنتاج ليبيا شبه المتوقف حالياً، فإنه تضاعف حوالى ثلاثة مرات بين سبتمبر (أيلول) 2016 وأواخر 2017. فنزويلا أنتجت حوالى 1.9 مليون برميل يومياً عام 2017، والآن تنتج حوالى 600 ألف برميل يومياً فقط. طبعاً هناك بعض الدول التي زادت إنتاجها الآن، مقارنة بما أنتجته عام 2017 مثل البرازيل والنرويج وغايانا، ولكن هذه الزيادة أقل بكثير من الانخفاض في الدول الثلاث المذكورة أعلاه.
أضف إلى ذلك أن صادرات إيران كانت عام 2017 ضعف ما هي عليه الآن، والتوقعات بالنسبة إلى إنتاج العراق لعام 2020 أكبر من إنتاجه حالياً، على الرغم من عدم الالتزام الكامل بالحصص الإنتاجية التي أقرتها “أوبك+”.
لو نظرنا إلى العوامل أعلاه في ظل التخفيض الذي أقرته “أوبك+”، خصوصاً التخفيض الذي تقوم به السعودية والإمارات والكويت، وفي ظل توقعات الطلب الحالية، فإن الجواب على السؤال في هذا المقال هو نعم، يمكن أن يتحقق توازن السوق في ظل كورونا، ويمكن لـ”أوبك+”، مع الزيادة في الطلب على النفط، أن تخفض المخزون العالمي بحوالى 180 مليون برميل. المشكلة هي أنه يصعب تحديد الوقت، وما إذا كان هذا التوازن سيتحقق هذا العام أم في العام المقبل. إلا أنه من الواضح أن القول بأن التوازن سيتحقق عام 2022 هو قول متشائم، ولا تدعمه البيانات. لنأخذ على سبيل المثال توقعات هبوط الطلب العالمي على النفط في شهر أبريل الماضي. من الواضح الآن أن الانخفاض كان أقل بكثير مما كان متوقعاً، والأمر نفسه ينطبق على شهر مايو. وهذا أحد التفسيرات لفشل التوقعات القائلة بامتلاء المخزون وانهيار الأسعار إلى مستويات سالبة مرة أخرى، وفشل التوقعات التي قالت بأن قافلة الناقلات السعودية التي كانت متجهة إلى الولايات المتحدة ستغرق السوق ولن تجد مكاناً لتخزين النفط الذي ستفرغه في الموانئ الأميركية. الآن نعرف من دون أي شك أن كل هذه التوقعات كانت فاشلة.
أضف إلى ذلك تلاشي المخزون العائم، وانخفاض كمية النفط المصدر بسبب تخفيض “أوبك+” للإنتاج، وأن كمية الإنتاج العائدة في الولايات المتحدة نتيجة ارتفاع أسعار النفط تمثل ربع ما تم إغلاقه فقط، والانخفاض الكبير في الاستثمار في عمليات التنقيب والاستكشاف. ونجد أن السعودية وشركاءها يستطيعون انهاء الفائض من السوق وتحقيق التوازن فيه، ربما في فترة أسرع مما توقع البعض.
ماذا عن الركود الاقتصادي؟
تشير البيانات إلى أن عدداً من الدول الصناعية يعاني من الركود الاقتصادي بسبب حالات الحجر التي أوقفت عجلة الاقتصاد في هذه الدول، وهذا بدوره سيؤثر سلباً في نمو الطلب على النفط. على الرغم من هذه الحقيقة، إلا أن وضع الاقتصاد العالمي في ظل الركود الاقتصادي وعدم وجود الحجر أفضل بكثير من حالة الحجر، بالتالي فإن الطلب على النفط سيزيد في كل الحالات، وعلى الرغم من وجود الركود الاقتصادي. وإذا نظرنا إلى الحزم التحفيزية التي تقدمها الحكومات المختلفة لإنعاش اقتصادها، خصوصاً الولايات المتحدة والصين، فإن النتيجة المنطقية هي انتهاء فترة الركود بسرعة. وقد أكدت توقعات بعض البنوك العالمية هذه الفكرة، حيث ترى أن فترة الركود الحالية ستكون أقصر من فترة الركود في فترة 2008 و2009. هذا يعني أن الطلب على النفط سيعود إلى مستويات 2019 بأسرع مما يتوقع البعض، كما أن النمو سيعود كما كان عليه مسبقاً. وإصرار البعض على أن الجائحة ستغير سلوك البشر، بالتالي فإن الطلب على النفط سيكون أقل، غير منطقي لأن هذا التغيير في السلوك يعني العزوف عن استخدام المواصلات العامة واللجوء إلى الموصلات الخاصة، وهذا بدوره سيزيد الطلب على البنزين.
ولكن الطلب على وقود الطائرات سيبقى ضعيفاً، وتراكم الديون على الحكومات والشركات سيلقي بظلاله على النمو الاقتصادي، واترككم مع نظريتين سمعتهما أخيراً: الأولى أن الناس، في ظل البطالة العالية والخوف من خسارة الوظائف، سيلجأون إلى تخفيض الإنفاق ورفع مستويات الادخار، وهذا سيؤثر سلباً في معدلات النمو الاقتصادي، بالتالي في نمو الطلب على النفط. الثانية أن تجربة الحجر حول العالم علمت الناس أن يعيشوا يومهم ويستمتعوا به، بالتالي، مع عودة الحياة الطبيعية، سنجد مزيداً من الإنفاق، وانخفاضاً في الادخار… وطبعاً ارتفاعاً في الديون! أي من هؤلاء الناس أنت؟
رابط المصدر: