تزايد اعتماد دول الاتحاد الأوروبي على الغاز الروسي خلال العقود القليلة الماضية، وعلى الرغم من حجم الاستثمارات الضخم في مصادر الطاقة البديلة، ارتفعت نسبة الغاز الوارد إلى أوروبا من موسكو من حوالي ٢٦٪ في عام ٢٠٠١ إلى حوالي ٤٠٪ في عام ٢٠٢٢. والآن مع اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، تستخدم موسكو هذا الاعتماد على غازها لمحاولة تقويض دعم أوروبا لأوكرانيا والضغط من أجل تخفيف العقوبات.
وقد أدى الاعتماد على الغاز الروسي إلى ارتفاع الأسعار إلى مستويات قياسية في جميع أنحاء القارة الأوروبية؛ فارتفع سعر الغاز في أوروبا حسب المؤشر الهولندي (TTF) إلى ما يقرب من ٨ أضعاف متوسط سعره منذ عام ٢٠١٠. ومع ذلك، فإن حجم المعاناة غير متكافئ في جميع أنحاء القارة، حيث تعتمد دول شمال ووسط وشرق أوروبا بشكل أكبر على الغاز الروسي.
لا يختلف حال فرنسا عن حال بقية دول القارة الأوروبية؛ إذ تعيش باريس أزمة طاقة كبيرة بسبب مواصلة موسكو قطع الإمدادات عن القارة الأوروبية، في الوقت الذي تتسبب فيه موجات الحر التاريخية في ارتفاع الطلب على الغاز الطبيعي لتبريد المنازل، وفي الوقت نفسه، فإن باريس على موعد مع شتاء قارس، مع تزايد المخاوف الرئيسة في باريس وهي العواقب الاقتصادية كنتيجة للصراع الروسي الأوكراني والتي تشمل إمدادات الطاقة في القارة، وبالأخص إمدادات الغاز الطبيعي، وذلك وسط مخاوف من أن موسكو ستبقي الصنابير مغلقة على خط أنابيب نورد ستريم 1، والذي يُعد شريانًا مهمًا يربط الغاز الروسي بالكتلة الأوروبية.
ملامح أزمة الطاقة الفرنسية
عهد الرفاهية قد انتهى ونعيش نهاية زمن الوفرة وراحة البال، بهذه الكلمات خرج إيمانويل ماكرون الرئيس الفرنسي على شعبه، داعيًا إياهم إلى ضرورة الاستعداد من أجل بذل جهد أكبر والتضحية بسبب الأزمات المتتالية مثل الطاقة والغذاء والجفاف. شتاء صعب جدًا في أوروبا قادم في الطريق، في ظل ترقب لزيادة كبيرة في أسعار الطاقة، وخوف دائم من إيقاف إمدادات الغاز القادمة من موسكو؛ هكذا تعاني باريس من انعكاسات الحرب الأوكرانية على أمن الطاقة في القارة، وتزامن ذلك مع احتمال النقص في الغاز الطبيعي والنفط، وارتفاع مستويات أسعار الطاقة المسبب للتضخم والتراجع الاقتصادي. وهنا نستطيع إلقاء الضوء على أبرز ملامح الوضع الفرنسي الحالي فيما يخص أزمة الطاقة في الوقت الراهن:
- تحول فرنسا إلى مستوردة بعد أن كانت دولة مصدرة للكهرباء، وخسرت موقعها كأول مصدر للكهرباء في أوروبا في النصف الأول من العام الحالي، لتحل محلها السويد في الصدارة. يعود السبب الرئيس في ذلك إلى الانخفاض القوي في الإنتاج الفرنسي، وليس نتيجة ارتفاع الإنتاج في السويد.
- ألقت الحرب الروسية الأوكرانية بظلالها ليس فقط على مستوى تراجع إنتاج الكهرباء في فرنسا، بل على ارتفاع أسعار الكهرباء والطاقة، بالإضافة إلى تدهور القدرة الشرائية للمواطن الفرنسي أيضًا.
- باريس أصبحت أكبر مشترٍ للغاز الطبيعي المسال الروسي في الفترة الأخيرة بعد تخلي عدد من الدول الأوروبية عنه، غالبًا ما نظرت برلين بحسد إلى باريس ومحطاتها النووية البالغ عددها ٥٦ محطة، لكن في الأشهر الأخيرة، أصبحت فرنسا أكبر مستورد للغاز الروسي المسال في العالم، حتى محطة الطاقة التي تعمل بالفحم والتي تم إغلاقها سيتم توصيلها بالشبكة مرة أخرى.
- فرنسا تعتمد على الطاقة النووية في توليد نحو ٧١٪ من احتياجاتها من الكهرباء، وعلى الغاز الطبيعي في توليد نحو ١٥٪ منها.
- باريس تريد ملء مخزونها من الغاز الطبيعي بالكامل بحلول الخريف، وبدء استغلال محطة غاز مسال عائمة جديدة عام ٢٠٢٣ بشمال البلاد؛ لضمان إمداداتها مع انخفاض الشحنات الروسية، وأعلنت الانطلاق في إنشاء محطة جديدة للغاز الطبيعي المسال؛ لزيادة قدرة البلاد على الإمداد بالغاز. وتمتلك البلاد حاليًا أربع محطات استيراد للغاز الطبيعي المسال، ومحطات الغاز الطبيعي المسال القائمة ستعمل بطاقتها الكاملة ولكن على المدى الطويل جدًا.
- تسببت أسعار الطاقة في ارتفاع نسب التضخم وتعطل الصناعات، وجعلت الناس في فرنسا يرتجفون عندما يطلعون على فواتير الكهرباء الخاصة بهم الواجب دفعها.
- خلقت موجة الجفاف الأخيرة والتي ضربت دولًا عدة في الاتحاد الأوروبي تأثيرات بالغة على اقتصادات منطقة اليورو، وقد تسبب تراجع مستوى الأنهار الرئيسة مثل لوار أكبر نهر في فرنسا، في وقوع العديد من الأضرار بعمليات توليد الكهرباء.
- أدى انقطاع التيار الكهربائي في فرنسا إلى انخفاض إنتاج الطاقة النووية في فرنسا إلى أدنى مستوى له منذ ما يقرب من ٣٠ عامًا، مما دفع فواتير الكهرباء الفرنسية إلى مستويات قياسية.
- تحصل باريس عادة على حوالي ٢٤٪ من إجمالي واردتها من الغاز من موسكو، ولذلك فإن الاستغناء عن إمدادات الطاقة الروسية يمكن أن يجعل وضع أمن الطاقة صعبًا جدًا في الصيف وبداية الخريف، وخاصة مع ترجيح إطالة أمد النزاع الروسي الأوكراني وقبل تأمين المصادر البديلة.
- أسعار الغاز الطبيعي الآن باتت عشرة أضعاف أسعارها المعتادة، بجانب أن قطاع الصناعة يواجه مشاكل كبيرة وسط حالة من الغضب تسود الشارع الفرنسي.
- باريس تعتمد بشكل واضح على الطاقة النووية، وأدى إغلاق العديد من المفاعلات للصيانة إلى ارتفاع التكلفة لكل ميجاوات في الساعة إلى حوالي ٩٠٠ يورو في سوق العقود الآجلة، أي أعلى بعشرة أضعاف مما كانت عليه العام الماضي.
- اتخذت الحكومة الفرنسية عددًا من الإجراءات التي تهدف إلى ترشيد استهلاك الغاز الطبيعي، وبذلك سيكون على المحلات التجارية والتي تستخدم مكيفات الهواء في البلاد أن تغلقها وإلا ستواجه غرامة مالية. وسيتم حظر شاشات الإعلانات المضيئة في الفترة بين الساعة ١ صباحًا و٦ صباحًا، باستثناء المطارات ومحطات السكك الحديدية، لاسيما التي تستخدم شاشة LCD الرقمية والتي تبلغ مساحتها مترين مربعين أي ما يعادل متوسط الاستهلاك السنوي للأسرة في الإضاءة والأجهزة المنزلية، باستثناء التدفئة.
- وتعتقد باريس أن إجراءات الترشيد يمكن أن تقلل من استهلاك الطاقة بنسبة حوالي ١٠٪، لأن فرنسا لا تعتمد على الغاز الروسي بنفس القدر مثل ألمانيا المجاورة، معظم إمداداتها من الطاقة تأتي من الطاقة النووية، ولكن موجات الحر والجفاف أثرت على آليات التبريد في العديد من المحطات النووية، وهو ما أجبرها على خفض إنتاجها.
- سترتفع أسعار رسوم الغاز والكهرباء الخاضعة للتنظيم بنسبة حوالي ١٥٪ على الأقل في العام المقبل ٢٠٢٣، مما سيحدث اضطرابًا حقيقيًا في فاتورة الفرنسيين والذين يئنون بشكل أساسي تحت وطأة تضخم غير مسبوق والذي وصل إلى حوالي ٦٬١٪ وذلك يُعد أعلى مستوى له منذ عام ١٩٨٥، وباتوا على شفير أزمة قاسية.
وبصفة عامة، تحاول الحكومة الفرنسية مواجهة الأزمة بخطة مزدوجة تقرن بين دعم الأسر وتقنين استهلاك الكهرباء، وباتت مجبرة على العودة إلى الاعتماد على المفاعلات النووية لتوفير جزء من الطاقة، وتفادي أزمة إمدادات، سواء للسكان أو للقطاعات المنتجة. وبشكل عام، الفرنسيون استفادوا لعدة عقود من سعر الكهرباء الأرخص في القارة الأوروبية بفضل الريع النووي، ولكن سيتعين عليهم اليوم التعود على دفع الكهرباء والطاقة بسعرها الحقيقي، لأن الاستثمار وإنتاج الكهرباء يُعد نشاطًا رأسماليًا.
خيارات باريس للخروج من الأزمة
في بداية الشهر الحالي، عقد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مؤتمرًا صحفيًا بقصر الإليزيه، بعد اتصال عبر الفيديو مع المستشار الألماني أولاف شولتز حول أزمة الطاقة الأوروبية، وأشار ماكرون إلى أن حصة الغاز الروسي التي كانت حوالي ٥٠٪ من احتياجات القارة من الغاز الطبيعي قبل الحرب الروسية انخفضت إلى حوالي ٩٪، ثم أعلن عن حزمة مبادرات واقتراحات، ومن بينها:
– شراء الغاز بشكل مشترك بهدف الحصول على أسعار أرخص بالنسبة لأوروبا، فتسعى باريس إلى أن تجتمع كل من فرنسا وهولندا وألمانيا وبلجيكا وإيطاليا في صفقة شراء غاز واحدة، مما يعني كميات كبيرة وثمنًا أقل، ويُعد هذا الأمر ممكنًا من الناحية التقنية. وأول المؤيدين لهذه الفكرة بكل تأكيد هي ألمانيا، ولكن بالنسبة لباقي الدول الأوروبية الأمر ليس بالسهل لأن لكل دولة موردها الخاص من الغاز الطبيعي بالإضافة إلى أن حجم الغازالمستورد يختلف حسب حاجة كل دولة أوروبية؛ فعلى سبيل المثال تستورد باريس مثلًا الغاز من النرويج وبنسبة أكبر من تلك القادمة من موسكو، وذلك على عكس برلين والتي تغطي نحو ٥٥٪ من احتياجاتها من موسكو. ومن الممكن لهذه العملية أن تنجح بشرط وحيد وهو إجراء صفقات جديدة تتعلق بالغاز الطبيعي المسال والذي يُباع عن طريق شحنات، مما يضمن عمليات البيع عند المورد بثمن أرخص.
– مع تحديد سقف لسعر الغاز الروسي الذي يتم تسليمه من خلال الأنابيب للحد من ارتفاع أسعار الغاز الطبيعي، وستدعم باريس مبدأ تحديد سقف لأسعار الغاز الروسي، لكنه إجراء فقد قوته في ظل انهيار عمليات التسليم من شركة غازبروم الروسية، بالإضافة إلى أن هذا الأمر يعتمد أساسًا وبشكل كبير على العلاقة بين البائع والمشتري، أي أن عملية الرفض أوالقبول ستكون مباشرة بين القارة الأوروبية والتي تنوي تحديد ثمنه أو رفض شرائه من موسكو، فيما لموسكو حق الرفض أو قبول تلك الشروط.
صعوبات عودة جميع المفاعلات النووية الفرنسية إلى الخدمة هذا الشتاء
يُمثل الأسطول النووي أساس الاستراتيجية الفرنسية للطاقة منذ سبعينيات القرن الماضي، مع وجود ٥٦ مفاعلًا توفر حوالي ٧١٪ من إنتاج الكهرباء وهي أعلى نسبة اعتماد على الطاقة النووية في توليد الكهرباء في العالم. ولكن وبحلول ٢٠٥٠، سيتوجب بناء مفاعلات جديدة مع تقادم ثلاثة أرباع المفاعلات السابقة.
وتعتمد باريس على الطاقة النووية لتحقيق هدف القارة الأوروبية المتعلق بتحييد الكربون بحلول عام ٢٠٥٠، ويعد هذا القطاع ضامنًا للاستقرار عند ارتفاع أسعار الغاز عالميًا. ولكن سيثير بناء مفاعلات جديدة جدلًا كبيرًا؛ فالحكومة الفرنسية ملتزمة بإغلاق مفاعلات قديمة ضمن خطة لإعادة التوازن بين أنواع الطاقة، وخفض تدريجي في حصة الطاقة النووية من حوالي ٧٠ إلى ٥٠٪ بحلول ٢٠٣٥ والعمل على تطوير مصادر الطاقة المتجددة.
وفى سياق إيجاد حلول لأزمة الشتاء القادم، تعهدت شركة الكهرباء الوطنية بإعادة تشغيل جميع المفاعلات المغلقة والتي تُقدر بحوالي ٣٢ مفاعل من إجمالي ٥٦ مفاعل فرنسي أي أكثر من النصف من الأسطول النووي الفرنسي، والتي تم إغلاقها وذلك قبل حلول فصل الشتاء، ولكن هل هذا الهدف قابل للتحقيق؟
وهنا نستطيع القول بأنه من الناحية العملية يصعب تحقيق هذا الهدف وذلك للأسباب التالية:
- الجدول الزمني اللازم لإعادة تشغيل المفاعلات النووية المغلقة حاليًا هو أنه من بين حوالي ٣٢ مفاعل متوقفة سيتم إعادة تشغيل حوالي ٩ بحلول شهرأكتوبر المقبل، وهو التاريخ الذي يوافق بداية شتاء الطاقة الأوروبي، وهي الفترة التي يزداد فيها استهلاك معدلات الكهرباء للتدفئة، وسوف تدخل المفاعلات المتبقية والتي يبلغ عددها حوالي ٢٣ مفاعلًا في فبراير من العام المقبل.
- يُمثل وقف الإمدادات الروسية من الغاز الطبيعي مشكلة في الوقت الراهن، لأن مولدات الكهرباء والتي تعمل بالطاقة النووية ستواجه صعوبة في تعويض النقص، نتيجة توقف عدة مفاعلات لإجراء أعمال صيانة.
- ضرورة إصلاح عشرات المفاعلات بعد حدوث مشاكل تأكل ناتج عن عمليات الإجهاد والذي يؤثر بشكل كبير في أنابيب دائرة حقن الأمان، وهي الأجهزة الوقائية المسؤولة عن عمليات التبريد الطارئ للمفاعل النووي في حال حدوث خرق في دائرة التبريد الخاصة به.
- مشاكل كبيرة تتراوح من الظهور الغامض لتآكل داخل المحطات النووية إلى مناخ أكثر سخونة مما يجعل من الصعب تبريد المفاعلات القديمة.
- ما يزيد الأوضاع سوءًا هو أن كهرباء فرنسا، والتى تبلغ ديونها حوالي أكثر من حوالي ٤٣ مليار يورو، معرضة أيضًا لصفقة أخيرة تشمل شركة روساتوم الروسية المشغلة للطاقة النووية والتى تدعمها الدولة، والتى قد تلحق أضرارًا مالية جديدة بالشركة الفرنسية. وتضخمت الاضطرابات بسرعة كبيرة ولدرجة أن حكومة ماكرون ألمحت إلى أن كهرباء فرنسا قد تحتاج إلى التأميم.
- مواعيد إعادة تشغيل تلك المفاعلات التي أعلن عنها هي تواريخ إرشادية فقط، لأنه في حال إيقاف عمليات الصيانة، قد يؤدي ظهور نتائج غير محسوبة إلى تأخير في المواعيد ومقارنة بالجدول الزمني المحدد وذلك أثناء عمليات الفحص الأولية، فالزيادة المتوقعة في التأخيرات مرتبطة بتقادم محطات الطاقة، وهو الأمر الذي يؤدي إلى زيادة الصعوبة في تنفيذ عمليات إعادة تشغيل تلك المفاعلات ضمن الجدول والتسلسل الزمنى المخطط له.
- الصناعة النووية الفرنسية الأكبر في العالم من حيث امتلاكها لأسطول كبير من المفاعلات والتي تأتي في المرتبة الثانية بعد الولايات المتحدة الأمريكية، والتي بُنى معظمها في ثمانينيات القرن الماضي حيث تبلغ القدرات المركبة حوالي ٦١٣٧٠ ميجاوات، ابتُليت لعقود طويلة من الزمن بنقص كبير في الاستثمارات الجديدة.
- الإغلاق الجزئي سببه إيقاف تشغيل حوالي نصف الأسطول النووي الفرنسي، وهو الأكبر في أوروبا، بسبب عاصفة من المشكلات غير المتوقعة التى تدور حول مشغل الطاقة النووية في البلاد والمدعوم من الدولة.
مخزون باريس من الغاز
تعد فرنسا، والتي يُمثل الغاز الطبيعي حوالي ١٥٪ من استهلاكها الإجمالي للطاقة، في وضع أفضل من جيرانها فيما يخص جزئية الغاز الطبيعي حيث ملأت جميع الدول الأوروبية خزاناتها بنحو ٥٠٪ (بالإضافة إلى نسبة اعتمادها على الغاز الروسي والتي تُمثل حوالي ٢٤٪ فقط).
وتعول باريس على مخزون مكتمل من الغاز الطبيعي وعلى محطة إسالة جديدة تبدأ العمل بدءًا من العام المقبل لتسلم إمدادات من الغاز المسال من دول غير روسيا (حيث تمتلك فرنسا عدد ٤ محطات إسالة)، ملأت فرنسا حوالي ٩٠٪ من مخزونها من الغاز الطبيعي للشتاء مقارنة بحوالي ٨٥٪ في نوفمبر من العام الماضي، وهي في طريقها لتحقيق أهدافها بمواجهة شتاء مهدد بأزمة طاقة كبيرة على خلفية الحرب الروسية الأوكرانية. وحددت حكومة ماكرون هدفًا وهو ملء طاقات تخزين الغاز الطبيعي في فرنسا بشكل كامل بحلول نوفمبر المقبل، في وقت تنضب تدريجيًا الإمدادات الروسية للدول الأوروبية، والتي يقابلها في نفس التوقيت ارتفاع كبير في أسعار الغاز في أوروبا إلى مستويات قياسية.
حلول وبدائل
تراهن فرنسا التي تتولى الرئاسة الدورية للاتحاد الأوروبي حاليا على ملف الغاز الحيوي للتخلص من التبعية للغاز الروسي بشكل كامل ونهائي بحلول عام ٢٠٣٠، حيث جندت فرنسا المئات من مزارعها لمحاولة التخلص من التبعية التاريخية للغاز الروسي، عبر تطوير وتسريع الاعتماد على الغاز الحيوي، والذي يشبه الغاز الطبيعي أو غاز الميثان، ولكن إنتاجه يتم من خلال ما يعرف بعملية التحلل الحيوي أو ميثانيزاسيون وذلك بطريقة طبيعية للمواد العضوية، عن طريق استخدام منتجات زراعية غير غذائية أو نفايات أخرى.
وقد شهد هذا النوع من الغاز الأخضر نموًا كبيرًا جدًا خلال السنوات الأخيرة، حيث يُعد القطاع الوحيد في مجال الطاقات البديلة والذي تمكن من تخطي هدفه الأساسي، بعد أن تضاعف إنتاجه في عام ٢٠٢١ بالمقارنة مع عام ٢٠٢٠. ولكن وبالرغم من ذلك، يبقى الاستهلاك الفرنسي للغاز الحيوي ضئيلًا جدًا وبنسبة حوالي ٢٪ من إجمالي حجم استهلاك الغاز، وهو ما يعادل حوالي ٦ تيراوات/ساعة فقط. ولذلك بدورها، تسعى باريس إلى تسريع الخطى لخفض الاعتماد على الغاز الروسي في أسرع وقت ممكن، ولتحقيق ذلك تدعم الدولة المزارعين، وهم المنتجون الأساسيون، وذلك من خلال سعر شراء ثابت ومضمون لمدة تصل إلى حوالي ١٥ عامًا، حيث يبلغ هذا السعر حاليًا حوالي ٩٠ يورو للميجاوات/الساعة.
ومن هنا نستطيع أن نستلخص بعض الحلول أو الخطوات التي سيتعين على باريس وضعها في مقدمة أولوياتها من أجل شتاء آمن ومنها:
- ضرورة مواصلة الاستعداد لأزمة طاقة مرتقبة وأوقات الذروة بالشتاء المقبل، وذلك من خلال دعوات خفض الاستهلاك.
- رفع مستوى ودرجة الاستعداد الفرنسي وذلك بهدف مواجهة أي مخاطر تقنية أو أزمات جيوسياسة متوقعة.
- ضرورة التعامل مع الموارد في صالح تحقيق الأهداف المناخية وخطط الحياد الكربوني والانتقال الأخضر أيضًا، وليس طرح حلول فقط لمواجهة أزمة الطاقة.
- العمل على زيادة معدلات الوعي، وذلك على صعيد المستهلكين وأيضًا الشركات، وضرورة الحث على تغيير سلوكيات استهلاك الكهرباء والغاز الطبيعي.
- العمل على ضرورة زيادة حجم الاستثمارات الموجهة إلى مصادر الطاقة منخفضة الكربون للكهرباء والغاز الطبيعي.
- ضرورة المضي قدمًا نحو الوصول إلى مستويات تخزين الغاز الفرنسي بمعدل يصل إلى ١٠٠٪ بحلول بداية فصل الخريف، حتى مع انخفاض الإمدادات الروسية من الغاز.
- ضرورة التعاون الأوروبي المشترك في كيفية تأمين مصادر للغاز وتسهيل استخدام البنية التحتية في صناعة الغاز المسال.
- قد تكون هذه الأزمة الكبيرة بمثابة نافذة النور لمصادر الطاقة البديلة، ولذلك يجب العمل على زيادة إنتاج ونشر طاقة الرياح.
- ضرورة إصلاح العلاقات المتصدعة مع الجزائر والتي تتمتع احتياطياتها من النفط والغاز بأهمية استراتيجية جديدة بعد أزمة الطاقة.
- ضرورة الاهتمام بالغاز الأخضر والدعوة إلى تقنين هدر الموارد، وبجانب الاستفادة من النفايات الوطنية.
- ضرورة تطوير صناعة غاز المناجم، في حوض المناجم السابق في شمال فرنسا، حيث تستخرج بلدة بيتون غازًا قابلًا للاشتعال، وهو غاز المناجم والذي كان يشكل كابوسًا لعمالها، وبات مكسبًا في إطار التحول البيئي، حيث تقدر احتياطيات غاز المناجم والتي خلفها تعدين الفحم في شبكة هائلة من الأنفاق نحو ١٠٠ ألف كيلومتر حيث تعود لأكثر من ١٥٠عامًا.
- ضرورة إتباع فكرة إحياء خطوط الغاز القديمة والتي تم غلقها لإعتبارات سياسية أو لظروف بيئية ودراسة إعادة تشغيلها.
- استخدام الحل الأكثر شيوعًا وهو تحديد أسعار الكهرباء سيساعد في كبح جماح التضخم وذلك عن طريق خفض العبء على البنوك المركزية وإزالة الحاجة إلى رفع سعر الفائدة الرئيسية، ولكن تحديد السعر لا يقلل من الطلب على الطاقة وهو الأمر الذي يؤدي إلى تأجيل إصلاحات مهمة.
مجمل القول، قد تضع أزمة الطاقة حكومة ماكرون أمام مسارات وسيناريوهات مختلفة، فإما التوصل إلى حل أو استمرار تفاقم الأزمة حتى تصبح مرضًا متأصلًا في قطاع الطاقة الفرنسي. ومع وصول الأمر إلى حد إغلاق مفاعلات نووية بسبب نقص الطاقة اللازمة لتشغيلها، ومع أزمة الطاقة وتداعياتها على باريس واقتصادها؛ كان كل ذلك سببًا رئيسًا في قيام ماكرون بزيارة الجزائر طمعًا في الغاز من أجل مساعدته في الخروج من الأزمة أو على أقل تقدير التخفيف من تبعاتها على الشعب الفرنسي، ولكن ومن خلال القرارات الأخيرة والتي بدأت باريس في تطبيقها وترشيد الاستهلاك من الواضح أن حكومة ماكرون بدأت تلجأ إلى الحلول التقليدية. وفى الأخير وبشكل عام ستعاني باريس وبقية دول أوروبا من شبح الإفلاس إذا لم تعالج أزمة الطاقة حيث أنها ستضطر إلى تخصيص نحو ١٬٥ تريليون يورو لتغطية فواتير الغاز والكهرباء وبواقع حوالي سبعة أضعاف عما كانت عليه.
.
رابط المصدر: