هل تفضل الصين هاريس أم ترمب؟

تدرك بكين أن الحفاظ على النمو الاقتصادي أمر ضروري للاستقرار المحلي وتتخذ تدابير متزايدة من أجل تعزيز التجارة الخارجية والاستثمار والتعاون التكنولوجي. لا ترى أي مصلحة في استعداء الولايات المتحدة والغرب. من ناحية أخرى، بذلت الحكومة الصينية كل جهد ممكن للاحتراز مما تعتبره محاولات غربية، خصوصاً أميركية…

بقلم: وانغ جيسي، هو ران، جاو جيانوي

لا يرى الاستراتيجيون الصينيون أي اختلاف يذكر بين إدارة هاريس وإدارة ترمب في ما يتصل بالسياسة الأميركية تجاه الصين. ومن المتوقع أن تعطي كل من الإدارتين الأولوية للمنافسة الاستراتيجية مع الصين، متأثرة بالمخاوف السياسية المحلية والإجماع الحزبي في واشنطن الذي ينظر إلى الصين على أنها خصم رئيس

على مدى الأسابيع الأخيرة، اجتذبت الاضطرابات المحيطة بموسم الانتخابات الرئاسية الأميركية اهتماماً دولياً كبيراً. وقبل بداية الصيف حتى، كانت البلدان تزن التداعيات المحتملة لعودة الرئيس السابق دونالد ترمب إلى البيت الأبيض وما قد يترتب على فوز الرئيس الأميركي جو بايدن بولاية ثانية. بالنسبة إلى بلدان كثيرة، يقدم هذان الاحتمالان آفاقاً مختلفة للغاية في ما يتعلق بالجغرافيا السياسية ودور الولايات المتحدة المستقبلي في الشؤون الدولية.

ثم شهد يوليو (تموز) الماضي تسعة أيام استثنائية، إذ تعرض ترمب لمحاولة اغتيال فاشلة وأعلن بايدن بصورة مفاجئة أنه لن يسعى إلى إعادة انتخابه. هذه الأحداث قلبت السباق الرئاسي الأميركي رأساً على عقب بالنسبة إلى الحزبين، وخلقت مزيداً من عدم اليقين حول الاتجاه المستقبلي الذي ستسلكه الولايات المتحدة. وفي الواقع، تلاحظ بلدان كثيرة تبايناً حاداً بين احتمال الاستمرار في سياسة بايدن الخارجية الأممية تحت قيادة إدارة جديدة برئاسة كامالا هاريس، ونهج أكثر انعزالية تحت إدارة ترمب الرئيس المعاد انتخابه وزميله في الترشح، جي دي فانس.

لكن الصين تنظر إلى الموقف بصورة مختلفة. قبل ثمانية أعوام، تبنت إدارة ترمب الأولى نهجاً أكثر تصادمية في العلاقات مع بكين، مما وجده كثير من المراقبين الصينيين مربكاً. فعوضاً عن التعامل مع الصين على أنها شريك تجاري ومنافس في بعض الأحيان، بدأت الولايات المتحدة وصفها بأنها “قوة تعديلية” revisionist power [دول تسعى إلى تغيير النظام الدولي القائم] ومنافس استراتيجي وحتى تهديد. والأمر الأكثر إثارة للدهشة هو أن إدارة بايدن، على رغم التغييرات في الخطاب، عززت هذا الموقف بل تشددت أكثر في بعض القضايا. وفي الواقع، يبدو أن هناك إجماعاً بين الحزبين في واشنطن على ضرورة التعامل مع الصين الآن باعتبارها خصماً رئيساً، مع وجود عدد متزايد من المحللين الذين يدعون إلى مقاربة في العلاقات بين البلدين من عدسة الحرب الباردة.

بالنسبة إلى المراقبين الصينيين، فإن الحزبين الرئيسين في الولايات المتحدة، عوضاً عن تقديم نهج بديل لبلدهما والعالم، يعتمدان نهجاً عاماً تجاه الصين نشأ خلال الأعوام الأخيرة، وهو نهج متأثر بشدة بالمخاوف السياسية الأميركية المحلية. والأمر الأكثر أهمية من مواقف أي من الحزبين هو اختلاف التحليلات والتقييمات الأميركية المتعلقة بالصين وما قد يعنيه ذلك في الممارسة العملية. فمعظم المراقبين الصينيين لا يتوقعون تغييرات كبيرة في السياسة الأميركية تجاه الصين، لكنهم يحاولون فهم أي من التيارات الحالية في واشنطن سيهيمن في نهاية المطاف.

استرضاء الجمهور المحلي

نظراً إلى البنية السياسية في الصين والسيطرة المحكمة التي تفرضها الحكومة على الرأي العام الصيني، من الصعب أن نفهم كيف تنظر القيادة في بكين إلى النقاش الدائر في الولايات المتحدة حول الصين وكيف تتفاعل معه. ومع ذلك، يمكن استخلاص بعض النقاط العامة حول العوامل التي يرى كثيرون في الصين أنها تؤثر في هذا النقاش. أولاً، غالباً ما تكون تصرفات أي دولة في الخارج انعكاساً لسياساتها الداخلية. ويبدو أن هذه الظاهرة صحيحة خصوصاً في الولايات المتحدة، إذ يمكن للنقاشات الداخلية الكبرى أن تمتد بسهولة إلى السياسة الخارجية. وأصبح ذلك يقوم بدور خاص في الطريقة التي تتعامل فيها واشنطن مع الصين.

وهكذا، فإن شعار ترمب “أميركا أولاً” وشعار بايدن “سياسة خارجية للطبقة الوسطى” [أي أن تحمل السياسة الخارجية ثماراً للطبقة الوسطى] يُبرزان بوضوح العلاقة الوثيقة بين السياسة الداخلية والسياسة الخارجية في الولايات المتحدة. بعد تولي ترمب منصبه، أسهم المناخ السياسي الشديد الاستقطاب في واشنطن في تشكيل سياستها الخارجية، بخاصة تجاه الصين. كان نهج “أميركا أولاً” رد فعل في المقام الأول على مخاوف الناخبين الأميركيين في شأن العولمة والهجرة. ونتيجةً لذلك، زادت إدارة ترمب الحواجز التجارية وقيّدت الهجرة وقلصت مشاركة الولايات المتحدة في المنظمات الدولية، مع إعطاء الأولوية للمصالح الاقتصادية الأميركية والأمن القومي.

ولكن إدارة بايدن أوضحت أيضاً أن قراراتها في السياسة الخارجية مصممة لتتماشى مع مصالح الناخبين في الداخل وأن ازدهار الأميركيين العاديين له أيضاً بُعد دولي.وبالتالي، فإن الاعتبارات السياسية في سياسة بايدن الخارجية تشبه تلك الموجودة في سياسة ترمب، إذ تهدف إلى إعادة التوازن بين السياسات الصناعية المحلية والقواعد الاقتصادية الدولية في سبيل تعزيز المصالح الداخلية. بعض القضايا الأميركية نفسها لها جوانب محلية وأجنبية. فالتدفق المستمر للمهاجرين مثلاً يُعدّ قوة دافعة وراء ازدهار الولايات المتحدة، ولكنه يؤثر أيضاً في أمن حدودها وعلاقاتها مع العالم الخارجي. منذ ولاية ترمب، تطلبت أزمة الإدمان على مخدرات الفنتانيل في الولايات المتحدة التعاون مع الصين، واستجابت هذه الأخيرة بصورة إيجابية. ومع ذلك، يواصل أعضاء الكونغرس إلقاء اللوم على الصين بسبب دخول الفنتانيل إلى الولايات المتحدة من المكسيك.

وهناك اتجاه بارز آخر في السياسة الخارجية الأميركية خلال الأعوام الأخيرة يتمثل في الدور المتزايد الذي تضطلع الصين به. فعلى رغم أن الصراع المسلح بين روسيا وأوكرانيا وحرب إسرائيل ضد حركة “حماس” في غزة يجذبان قدراً كبيراً من الاهتمام، فإن الصين تظل على رأس الأولويات في استراتيجية واشنطن العالمية المعلنة. في هذه المرحلة الحرجة، يجدد كثير من الاستراتيجيين الأميركيين دعواتهم إلى واشنطن لتسريع تحولها نحو آسيا. على سبيل المثال، يزعم محللا السياسة الخارجية روبرت بلاكويل وريتشارد فونتين في كتابهما الجديد “العقد الضائع” Lost Decade أن إدارات أوباما وترمب وبايدن أخفقت جميعها، بطرق مختلفة، في تطوير سياسات قوية ومتسقة تجاه الصين وبقية آسيا. وعلى رغم التحديات المستمرة التي تواجه الولايات المتحدة في أوروبا والشرق الأوسط، فإنهما يؤكدان أنه من الضروري لصانعي السياسات الأميركية الإسراع في التحول نحو آسيا.

لقد أصبحت أهمية السياسة المتبعة تجاه الصين واضحة في السباق الرئاسي الأميركي، وفي هذا الإطار، يتنافس كلا الحزبين على تقديم أقوى خطاب حول التعامل بصرامة مع بكين وتقييد دورها العالمي. وهذا يشير إلى سمة أخرى من سمات النقاش الأميركي حول الصين: في السياق السياسي الأميركي الحالي، فإن الثنائية التقليدية المتمثلة في “الحمائم” و”الصقور” لا تُظهر بوضوح التعقيدات المحيطة بكيفية النظر إلى الصين. ونظراً إلى الإجماع الحزبي الواسع على أن الصين تشكل تحدياً كبيراً، فمن الأجدى دراسة مجموعة وجهات النظر السياسية التي برزت ضمن هذا الرأي العام.

الاتجاهات الأميركية الثلاثة

عند النظر من بعيد، يمكن تصنيف الاستراتيجيين الأميركيين بصورة عامة ضمن ثلاث مدارس. يمكن أن نطلق على الأولى تسمية “مقاتلي الحرب الباردة الجدد”. يعتقد أفراد هذه المجموعة بأن التنافس بين الولايات المتحدة والصين هو لعبة صفرية المحصلة أي فيها طرف واحد فائز فقط، وبأن واشنطن وبكين منتظمتان في حرب باردة تتطلب تكتيكات أكثر عدوانية من جانب الولايات المتحدة. ووفق ما كتبه نائب مستشار الأمن القومي الأميركي السابق مات بوتينجر وعضو الكونغرس الأميركي السابق مايك غالاغر في مجلة “فورين أفيرز”، “المنافسة مع الصين يجب الفوز بها لا إدارتها”. وفي الحجج التي قدماها، استعانا إلى جانب آخرين، بمثال الرئيس الأميركي رونالد ريغان الذي اعتبر التهديد السوفياتي أولويةً قصوى، من أجل السعي إلى تحقيق النصر في الحرب الباردة.

واستطراداً، يمكن وصف المدرسة الثانية بأنها مدرسة “دعاة إدارة المنافسة”. وعلى النقيض من “مقاتلي الحرب الباردة الجدد”، يعتقد مَن في هذا المعسكر بأن التنافس بين الولايات المتحدة والصين ليس لعبة صفرية المحصلة أي لا تتطلب بالضرورة فوز طرف على الآخر، بالتالي، من الضروري أن تكون هناك استراتيجية للتعايش مع الصين. يمكن إرجاع الأصول الفكرية لهذا النهج إلى مقالة كتبها كيرت كامبل وجيك سوليفان في مجلة “فورين أفيرز” عام 2019، قبل انضمامهما إلى إدارة بايدن. واستناداً إلى حججهما، فإن المنافسة مع الصين “حالة يجب إدارتها وليست مشكلة يجب حلها”. وإلى جانب راش دوشي، نائب المدير الأول لشؤون الصين وتايوان في مجلس الأمن القومي من عام 2021 إلى أوائل عام 2024، وآخرين غيره، أشارا إلى أن أفضل نهج تعتمده واشنطن تجاه الصين هو القيادة بالمنافسة، أي إعطاء الأولوية للاستراتيجيات التنافسية عند التعامل مع الصين، ومن ثم التحرك نحو مبادرات التعاون.

المدرسة الثالثة يمكن أن يطلَق عليها تسمية “مؤيدي التكيف” أو المتأقلمين. وعلى رغم أنهم يشتركون مع المدارس الأخرى في كراهية النظام السياسي الصيني ونفوذه العالمي، فإنهم يميلون إلى القلق أكثر من نظرائهم من أن المنافسة ربما تتصاعد وتتطور إلى مواجهة. وباعتبارهما من الشخصيات البارزة في هذا المعسكر، يعارض اختصاصيا العلاقات الدولية جيسيكا تشين فايس وجيمس شتاينبرغ شن حرب باردة على الصين لأن الحروب الباردة خطرة بطبيعتها. وفي رأيهما، يقدم بوتينجر وغالاغر وعداً فارغاً بالنصر لأن “الجهود الأميركية الرامية إلى إحداث تغيير من خلال الضغط قد تعزز الحكم الاستبدادي بقدر ما قد تقوضه”. ويزعم كل من فايس وشتاينبرغ أن من مصلحة بكين وواشنطن بالتالي الحد من خطر الحرب والتعاون في القضايا ذات الاهتمام المشترك، مثل تغير المناخ والصحة العامة.

وعلى رغم هذا التنوع في الآراء، فإن المدارس الثلاث تتفق على أن الصين تشكل تحدياً كبيراً للولايات المتحدة، وأن السياسة الأميركية تجاه الصين تحتاج إلى أسس تحظى بتأييد الحزبين في سبيل تحقيق النجاح. ومع ذلك، يبدو أنه لا يوجد رأي سائد في واشنطن حول النهج الأفضل أو أي جانب من جوانب التحدي، السياسي أو العسكري أو الاقتصادي أو الحوكمة العالمية، هو الأكثر خطورة. بالنسبة إلى بكين، فإن هذا النقاش غير المستقر يعني أنه من المهم أن نفهم كيف تؤثر هذه المقاربات المختلفة في السياسات الأميركية، تحديداً، كيف يمكن أن تشكل الإدارة الأميركية المقبلة.

تكتيكات متنوعة وأهداف متشابهة

قد يتساءل الأميركيون عما إذا كانت الصين تفضل إدارة هاريس أو إدارة ثانية لترمب، أو بصورة عامة، ما إذا كانت تفضل الديمقراطيين أو الجمهوريين. في 1972، قال الرئيس ماو تسي تونغ للرئيس ريتشارد نيكسون إنه يحب اليمين السياسي في الولايات المتحدة وغيرها من الدول الغربية. وعلى رغم أن ماو لم يقدم سبباً واضحاً لهذا التفضيل، فمن المرجح أنه لاحظ أن نيكسون وغيره من الزعماء الغربيين ذوي الميول اليمينية كانوا يولون اهتماماً أكبر للمصالح الاقتصادية والأمنية في بلدانهم، في حين كان الساسة اليساريون يميلون إلى بناء سياساتهم على الأيديولوجيا والقيم السياسية.

ولكن من الصعب أن نحكم مَن قدم مساهمة أكبر في العلاقات الأميركية- الصينية، الديمقراطيون أو الجمهوريون. على سبيل المثال، على رغم أن نيكسون، الرئيس الجمهوري، كان أول من كسر الجليد مع الصين، فإن الرئيس جيمي كارتر الديمقراطي، هو الذي قرر إقامة علاقات دبلوماسية مع بكين. ومنذ تأسيس جمهورية الصين الشعبية عام 1949، كان للولايات المتحدة سبعة رؤساء ديمقراطيين وسبعة جمهوريين، وحدثت أبرز الإنجازات وأكبر الأزمات في العلاقات الثنائية مع ولايات الحزبين.

وتنطبق حال عدم اليقين ذاتها اليوم على التقييمات الصينية الحالية للحزبين الديمقراطي والجمهوري. عندما تولى ترمب منصبه عام 2017، كان أول ما أثار اهتمامه في شأن الصين هو العجز التجاري الهائل التي تعانيه الولايات المتحدة في علاقتها معها، وللمرة الأولى في تاريخ بلاده، جرى التعامل مع العجز ومع التفوق التكنولوجي الصيني، باعتبارهما من قضايا الأمن القومي. ولم تكتفِ إدارة ترمب بوصف الصين بأنها “قوة تعديلية” ومنافس استراتيجي، بل اعتبرت أيضاً الحزب الشيوعي الصيني تهديداً لأسلوب الحياة الأميركي و”العالم الحر”. وباتباع نهج “الحكومة بأكملها” بصورة عدوانية ولكن غير متسقة [نهج يقوم على إشراك الجهات الحكومية كافة في إيجاد الحلول ومعالجة المشكلات]، شرعت إدارة ترمب في التنافس مع الصين ومواجهتها في كل قضية تقريباً.

انطلاقاً من التجارة، بدأت إدارة ترمب بفرض تعريفات عقابية على الواردات الصينية، ثم وسعت حملتها لتشمل زيادة في التدقيق والقيود على الاستثمارات الصينية وتشديد ضوابط تصدير التكنولوجيا المتقدمة واتخاذ إجراءات موجهة ضد شركات صينية محددة ذات وجود كبير في الخارج، مثل “هواوي”. فيما يتصل بقضايا الأمن، اتخذت إدارة ترمب أيضاً خطوات جديدة من أجل الحفاظ على تفوق الولايات المتحدة في ما يطلق عليه الاستراتيجيون الآن باستمرار منطقة “المحيطين الهندي والهادئ”، وهو مصطلح جغرافي لم يكُن يستخدم إلا نادراً في وقت سابق. وقدمت إدارة ترمب لتايوان ضمانات أمنية خاصة وقللت من أهمية سياسة “الصين الواحدة” القائمة منذ فترة طويلة، وضخت موارد جديدة في تحالف الرباعي Quad (يضم أستراليا والهند واليابان والولايات المتحدة) في محاولة لتحقيق توازن جماعي يعادل نفوذ الصين وكثفت الأنشطة العسكرية الأميركية في غرب المحيط الهادئ لمواجهة مطالبات الصين الإقليمية ببعض المناطق.

أما بالنسبة إلى العلاقة السياسية بين الولايات المتحدة والصين، فلم يكُن ترمب يتبنى آراء أيديولوجية صارمة في شأن النظام الصيني والقيادة الصينية، لكنه سمح لمسؤولي إدارته والكونغرس الأميركي بتوجيه انتقادات حادة للحزب الحاكم في الصين ولطريقة حكمه في الداخل، بخاصة سياساته تجاه مقاطعة شينجيانغ [ذات غالبية إسلامية] وهونغ كونغ. ومع تبني إدارته رواية “الخطر الصيني” الأوسع نطاقاً، ألحق أضراراً بالغة بالتبادلات الأكاديمية والعلمية والمجتمعية التي كانت قائمة لعقود من الزمان بين البلدين. وفي الدبلوماسية المتعددة الأطراف، بدأت واشنطن أيضاً بشيطنة بكين والتصدي بقوة لنفوذها الدولي، في محاولة لتقييد الدور العالمي الصيني الذي توسّع من خلال “مبادرة الحزام والطريق” ومشاركة بكين المتزايدة في هيئات الأمم المتحدة.

ثم عام 2020، وسط عام انتخابي معقد في الولايات المتحدة، أدى انتشار جائحة كورونا إلى تسريع تدهور العلاقات بين واشنطن وبكين. فاتهمت إدارة ترمب الحكومة الصينية بأنها المسؤولة عن أزمة الصحة العامة وعلقت معظم الحوارات الثنائية وتبنت موقفاً عدائياً تجاه الصين نفسها. وصلت الأمور في يوليو 2020، إلى درجة من التدهور أن الحكومة الأميركية أمرت بإغلاق القنصلية العامة الصينية في هيوستن، متهمة إياها بأنها “مركز للتجسس وسرقة الملكية الفكرية”.

ولكن في المجمل، حافظت إدارة ترمب على درجة من المرونة تجاه الصين. فعلى رغم التعريفات الجمركية العقابية وغيرها من التدابير، ظلت منفتحة على المحادثات التجارية وأظهرت بعض الاستعداد للتوصل إلى حلول وسطية في شأن القضايا الشائكة مثل المنافسة التكنولوجية وتايوان. وعلاوةً على ذلك، فإن شعار “أميركا أولاً” كان يعني أيضاً أن واشنطن تتمتع بمصداقية أقل ونفوذ متضائل في التنسيق مع الدول الأخرى حول سياساتها الخاصة تجاه الصين، ونتيجة لذلك لم تنجح إدارة ترمب في بناء وقيادة جبهة قوية متعددة الأطراف لمواجهة الصين.

وشجع ذلك على نشوء تصور شائع بين بعض المحللين الصينيين بأن ترمب كان مهتماً في المقام الأول بالمنافع التجارية وإبرام صفقة مع الصين. في نوفمبر (تشرين الثاني) 2017، قام ترمب بزيارة رسمية إلى بكين، وهي خطوة فشل بايدن في اتخاذها خلال فترة ولايته، وفي يناير (كانون الثاني) 2020 وقّع على المرحلة الأولى من اتفاقية التجارة مع الصين الرامية إلى البدء بحل التوترات التجارية. وبحلول نهاية رئاسة ترمب، وصف كثيرون في الولايات المتحدة الحرب التجارية التي خاضتها إدارته مع الصين بأنها فاشلة.

وعلى رغم كل الاختلافات المزعومة بين إدارتي بايدن وترمب، أظهرت إدارة بايدن استمرارية ملحوظة في نهج سلفها تجاه الصين. بصورة أساسية، عزز بايدن التوجه العام العدائي لسياسات حقبة ترمب من خلال تبني استراتيجية أكثر منهجية ومتعددة الأطراف، أطلقت عليها إدارته تسمية “الاستثمار وتنسيق الجهود والتنافس”. في أول خطاب له عن السياسة الخارجية، في فبراير (شباط) 2021، وصف بايدن الصين بأنها “المنافس الأخطر” للولايات المتحدة وتعهد “بمواجهة مباشرة” للتحديات التي تفرضها على “ازدهار الولايات المتحدة وأمنها وقيمها الديمقراطية”.

لذلك، عمل بايدن مع الكونغرس عن كثب من أجل تنفيذ استثمارات واسعة النطاق في البنية التحتية وسياسات صناعية تهدف إلى جعل الولايات المتحدة أكثر قدرة على المنافسة وأقل اعتماداً على الصين. وفي سبيل التنافس على نحو أفضل في مجال التكنولوجيا المتقدمة، سعت إدارة بايدن أيضاً إلى فرض ضوابط تصدير أكثر صرامة وفرض تعريفات جمركية جديدة على منتجات التكنولوجيا الخضراء الصينية وتنسيق الجهود الدولية بصورة أكبر من خلال مبادرات مثل تحالف “الرقائق الرباعي” Chip 4، وهو شراكة في مجال أشباه الموصلات بين اليابان وكوريا وتايوان والولايات المتحدة.

وفي منطقة آسيا والمحيط الهادئ، كثفت إدارة بايدن وجودها العسكري في مضيق تايوان وبحر الصين الجنوبي وأضافت بعداً اقتصادياً إقليمياً إلى التحالفات الأمنية الأميركية في آسيا. واستطرداً، حشد بايدن قادة “مجموعة الدول السبع” لدفع مبادرة “إعادة بناء عالم أفضل” Build Back Better World و”الشراكة من أجل البنية التحتية العالمية والاستثمار” Partnership for Global Infrastructure and Investment، وكلتاهما تهدف إلى تقديم رد غربي على “مبادرة الحزام والطريق” الصينية. واستجابة للعلاقات المتنامية بين الصين وروسيا في ظل الحرب في أوكرانيا، فرضت إدارة بايدن عقوبات على الشركات الصينية التي تقوم بأعمال تجارية مع روسيا. كذلك، أعطت واشنطن المنافسة مع الصين طابعاً أيديولوجياً جديداً، تسميه الإدارة الأميركية “الديمقراطية مقابل الاستبداد”، في محاولة لبناء تحالف كبير ضد بكين.

وبغض النظر عن المنافسة الشرسة التي خاضتها إدارة بايدن مع الصين، حافظت على قنوات اتصال منتظمة رفيعة المستوى واستمرت في استكشاف مجالات التعاون. وعلى رغم تركيزها على ما تراه نفوذاً سياسياً صينياً، اتخذت إدارة بايدن خطوات ترمي إلى تخفيف الطابع السياسي وإعادة التبادلات الأكاديمية والمجتمعية بين البلدين، فأنهت مثلاً “مبادرة الصين” China Initiative التي اعتمدتها إدارة ترمب، وهي حملة مثيرة للجدل ضد الباحثين في الولايات المتحدة الذين كانوا على اتصال بجهات صينية. علاوة على ذلك، عقد بايدن اجتماعات مباشرة مع الرئيس الصيني شي جينبينغ في بالي بإندونيسيا في نوفمبر 2022، وفي سان فرانسيسكو في نوفمبر 2023، فتعهد الزعيمان بالحفاظ على علاقة ثنائية مستقرة وسليمة.

ساحات كبيرة أو تحالفات واسعة

لا يعلق الاستراتيجيون الصينيون آمالاً كبيرة على تغير السياسة الأميركية تجاه الصين خلال العقد المقبل. ونظراً إلى استطلاعات الرأي العام الأميركية والإجماع من الحزبين في واشنطن حول الصين، فإنهم يفترضون أنه بغض النظر عن الرئيس الذي سيُنتخب في نوفمبر 2024 فإنه سيواصل إعطاء الأولوية للمنافسة الاستراتيجية لا بل حتى الاحتواء في نهج واشنطن تجاه بكين، مع تراجع التعاون والتبادلات إلى مرتبة ثانوية.

من المؤكد أن إدارة جديدة لترمب ستسعى إلى اتباع سياسة تجارية أكثر عدوانية تجاه الصين. واقترح ترمب بالفعل فرض تعريفة جمركية بنسبة 60 في المئة على جميع السلع المصنعة في الصين، فضلاً عن إلغاء وضعية “العلاقات التجارية الطبيعية الدائمة” مع الصين التي منحت بكين شروطاً تجارية مواتية وغير تمييزية وإمكان الوصول إلى السوق منذ عام 2000. إضافة إلى ذلك، دعا إلى اعتماد استراتيجية “ساحة كبيرة ذات سياج مرتفع” [تعني “الساحة الكبيرة” مجموعة أكبر من التقنيات والقطاعات المحمية، ويشير “السياج المرتفع” إلى تدابير أمنية قوية لمنع أي تأثير من الخصوم]، وهو توسيع صريح لمفهوم إدارة بايدن “ساحة صغيرة ذات سياج مرتفع” الذي لا يحمي إلا التقنيات الحيوية والناشئة بتدابير أمنية قوية، من أجل تمكين انفصال تكنولوجي أوسع عن الصين.

ومع ذلك، نظراً لميل ترمب إلى عقد الصفقات، فقد يقرر السعي إلى إبرام اتفاقات ثنائية مع بكين في شأن السلع الاستهلاكية والطاقة والتكنولوجيا. ومن الممكن أن يحاول أيضاً استخدام قضية تايوان كورقة مساومة لكسب النفوذ في مجالات أخرى، فيعرض مثلاً كبح تصرفات تايوان الاستفزازية في مقابل تنازلات من بكين في مجال التجارة. ولكن من المستبعد إلى حد كبير أن توافق الصين على مثل هذه الصفقة، وقد يعارضها أيضاً مستشارو ترمب في السياسة الخارجية. ومرة أخرى، فإن تفضيل ترمب للدبلوماسية الثنائية على النهج المتعدد الأطراف، يحدّ ربما من قدرته على حشد الحلفاء والشركاء ضد الصين ومن الممكن أن يدفعه إلى السعي إلى تسوية منفصلة مع روسيا، الشريك الاستراتيجي القوي للصين.

في المقابل، فإذا افترضنا أن إدارة هاريس ستواصل اتباع نهج بايدن في كثير من المجالات، فمن المحتمل أن تزيد المنافسة الاستراتيجية مع بكين وتعزز جهود بايدن الرامية إلى بناء تحالف من الدول الغربية والآسيوية كثقل موازن للصين. ومقارنة مع صناعة السياسات التعسفية والمتقلبة لترمب، من المرجح أن تظل هذه الاستراتيجيات أكثر تنظيماً وقابلية للتنبؤ.

ولكن بصورة عامة، ومن وجهة نظر الصين، من المرجح أن تكون سياسات إدارة ترمب الجديدة وإدارة هاريس تجاه الصين متشابهة استراتيجياً. فعند تولي الرئاسة، سيتحدى كلا المرشحين مصالح الصين ويخلقان عقبات أمامها، ويبدو من المستبعد أن أيّاً منهما يرغب في صراع عسكري كبير أو قطع جميع الاتصالات الاقتصادية والمجتمعية. بالتالي، من غير المرجح أن تفضل بكين بوضوح مرشحاً على آخر. علاوة على ذلك، تتمتع الصين بحوافز قوية للحفاظ على علاقة مستقرة مع الولايات المتحدة وتجنب المواجهة أو الاضطرابات الكبرى. ونظراً إلى الحساسيات السياسية في ما يتعلق بالانتخابات والعلاقات الأميركية- الصينية، فإن أي محاولة تدخل من جانب الصين قد تأتي بنتائج عكسية.

مع احتدام السباق الرئاسي الأميركي لعام 2024، أدلى المسؤولون في بكين بتصريحات حذرة ومتحفظة حول هذا الموضوع، إذ وصف مسؤولون حكوميون الانتخابات بأنها “شأن داخلي أميركي”. وخلال مؤتمر صحافي في يوليو، أكد المتحدث باسم وزارة الخارجية لين جيان أن الصين “لم ولن تتدخل في الانتخابات الرئاسية الأميركية”. ومع ذلك، قال لين أيضاً إن الحكومة الصينية “ترفض بشدة أن يستغل أي شخص قضية الصين سياسياً ويضر بمصالحها لأغراض انتخابية” وإن الحزبين السياسيين الأميركيين “ينبغي ألا ينشرا معلومات مضللة لتشويه سمعة الصين وأن يتجنبا تسييس قضية الصين”، مما يشير إلى أن بكين قد تشعر بأنها مضطرة إلى الرد، في الأقل لفظياً، إذا تعرضت للهجوم أثناء الحملات الانتخابية. وعلى رغم مبدئها المعلن بعدم التدخل، فقد لا تتمكن بكين من إسكات الأصوات والآراء المبالَغ فيها وغير المسؤولة والاستفزازية في وسائل التواصل الاجتماعي الناطقة باللغة الصينية. ففي الواقع، ينتشر بعض هذه الأصوات أيضاً على منصات خارج الصين وقد تشير إلى أجندات محددة لمجتمعات صينية خارجية معينة، بالتالي ينبغي عدم تفسيرها على أنها تمثل الموقف الصيني الرسمي.

علاقة حذرة لا كارثية

على غرار واشنطن، فإن تركيز بكين الأساسي عام 2024 سينصب على وضعها الداخلي. على النقيض من الاستقطاب السياسي وموسم الانتخابات المثيرة للجدل في الولايات المتحدة، يبدو أن الصين مستقرة سياسياً ومتماسكة اجتماعياً تحت قيادة الحزب الشيوعي الصيني. في منتصف يوليو الماضي، اختتمت اللجنة المركزية الـ20 للحزب الشيوعي الصيني جلستها العامة الثالثة بتقييم إيجابي للتعافي الاقتصادي في الصين، على رغم معدلات النمو الاقتصادي التي كانت دون مستوى التوقعات في النصف الأول من عام 2024، وقدمت اقتراحاً لتعميق الإصلاحات بصورة شاملة من أجل تعزيز تحديث الصين. وفي السعي إلى تحقيق التوازن بين التنمية الاقتصادية والأمن القومي، تظل الأولوية القصوى بالنسبة إلى بكين هي بناء المؤسسات، بخاصة تعزيز قيادة الحزب الشيوعي الصيني وفرض الانضباط الحزبي.

من ناحية، تدرك بكين أن الحفاظ على النمو الاقتصادي أمر ضروري للاستقرار المحلي وتتخذ تدابير متزايدة من أجل تعزيز التجارة الخارجية والاستثمار والتعاون التكنولوجي. في هذا الصدد، لا ترى أي مصلحة في استعداء الولايات المتحدة والغرب. من ناحية أخرى، بذلت الحكومة الصينية كل جهد ممكن للاحتراز مما تعتبره محاولات غربية، خصوصاً أميركية، لتقويض سلطتها وشرعيتها في الداخل، وهي لن تضحي بالمبادئ السياسية والأمن القومي من أجل المكاسب الاقتصادية.

على رغم أن بكين تسعى إلى إقامة علاقة مستقرة مع واشنطن، إلا أنها تستعد في الوقت نفسه لاحتمال تزايد الاضطرابات في العلاقة الثنائية. في مارس (آذار) 2023، أشار شي إلى أن “الدول الغربية التي تقودها الولايات المتحدة فرضت تدابير احتواء وحصاراً وقمعاً ضدنا، مما أدى إلى تحديات شديدة غير مسبوقة تعرقل تنمية بلدنا”. بعد شهرين، في الاجتماع الأول للجنة الأمن القومي المركزية الجديدة، دعا شي الحزب إلى “الاستعداد لأسوأ السيناريوهات وأكثرها تطرفاً والصمود أمام الاختبار الأهم الذي يفرض التعامل مع الرياح العاتية والمياه المضطربة وحتى العواصف الخطرة”. وفي الشؤون الخارجية، تواصل بكين النظر إلى العالم على أنه منقسم بين دول نامية وأخرى متقدمة بدلاً من وصفه بأنه كتل غربية أو مناهضة للغرب تتنافس على النفوذ في الجنوب العالمي.

لقد قاومت الصين بشدة التدخل الأميركي في ما تعتبره شؤونها الداخلية، خصوصاً في قضايا متعلقة مثلاً بهونغ كونغ وتايوان والتيبت وشينجيانغ وحقوق الإنسان. وتعتبر الصين قضية تايوان، تحديداً، ذات أهمية قصوى. وترى بكين أنها مارست درجة كبيرة من ضبط النفس تجاه تايوان وما زالت تملك خيارات سياسية محتملة متعددة لمنع الجزيرة من الحصول على الاستقلال الشرعي. وفي ظل هذه الظروف، ستلتزم القيادة الصينية مبدأها المعلن المتمثل في التوحيد السلمي مع تايوان و”دولة واحدة ونظامان” ما لم تتعرض لاستفزاز شديد لا رجعة فيه. وفي نزاعها الإقليمي مع الفيليبين في بحر الصين الجنوبي، تنظر الصين إلى نهجها على أنه محسوب ومضمون. وفي توتراتها مع الولايات المتحدة حول التجارة والتكنولوجيا، تركز الصين على ردود الفعل المعاكسة المحسوبة وتضطر إلى مضاعفة الجهود من أجل الاعتماد على الذات.

ونظراً إلى التشابه الكبير بين نهج إدارة ترمب وذاك الذي تتبناه إدارة بايدن تجاه الصين، تستعد بكين لنتيجة الانتخابات الأميركية بحذر شديد وأمل محدود. في أبريل (نيسان)، أكد شي مجدداً لوزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن أن “الصين ترحب بالولايات المتحدة الواثقة والمنفتحة والناجحة والمزدهرة وتأمل في أن تنظر الولايات المتحدة أيضاً إلى تنمية الصين من منظور إيجابي”. ومن المؤسف أن احتمالات أن تتبنى الإدارة الأميركية المقبلة نظرة إيجابية إزاء نمو الصين ضئيلة للغاية. ومع استمرار الصين في إعطاء الأولوية للتنمية المحلية والأمن، فمن المرجح أن تسعى جاهدة إلى الدفاع عن نماذج الاقتصاد والحوكمة التي تستخدمها مع الحفاظ على مساحة للتجارة والاستثمار العالميين. ولفترة طويلة مقبلة، يبدو من غير المرجح أن تعود العلاقات الأميركية- الصينية لعمليات التبادل والتعاون العميقة التي حدثت في بداية القرن الـ21. ومع ذلك، إذا كان التقارب غير وارد، فيبقى بوسع الصين والولايات المتحدة الحفاظ على الاستقرار وتجنب الكارثة، بغض النظر عَمّن يشغل المكتب البيضاوي.

 

المصدر : https://annabaa.org/arabic/views/39728

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M