شادي عبد الحافظ
في مقدمة الفصل السادس عشر من المرجع الشهير جدًا «محاضرات فاينمن»، يبدأ فاينمن حديثه بالسخرية ممن سماهم «فلاسفة حفلات الكوكتيل»، وهم مجموعة من الفلاسفة، ربما المتخصصين، الذين يقولون بسطحية شديدة: «حسنًا، الأمر بسيط، تقول النظرية النسبية إن كل شيء نسبي»، وقد تسبب ذلك في نقل فكرة خاطئة عن النسبية، تلاها تأويلات شديدة السطحية عن كون النسبية هي النظرية التي تقول إن الزمن يمر عليك في وقت الاكتئاب والحزن بشكل أكبر بكثير من أوقات الفرحة.
في الحقيقة، ليس ذلك صحيحًا بالمرة، ويتسبب في إخلال شديد بما يعنيه العلم، فالعلم في أساسه هو وسيلة للبحث عن غير النسبي، الشيء الذي يمكن الاعتماد عليه دون معرفة سياقه؛ لذلك فكلمات كـ «أكبر» و«أصغر» و«أضخم» و«أرفع» و«أسرع» هي اصطلاحات مهزوزة لا معنى واضح لها إلا حينما تستخدم للمقارنة. لكن ما الذي تعنيه نظرية نسميها «النسبية» إذن؟
ما هو النسبي؟
لنبدأ بتجربة بسيطة؛ تخيل أن أحدهم يقف فوق قطار سرعته 200 كم/ساعة، معه مسدس يضرب طلقة بسرعة 1000 كم/ساعة في نفس اتجاه القطار، بالنسبة لك كشخص يقف على الرصيف، كم تكون سرعة الرصاصة؟.
بسيطة، سوف تكون سرعة الرصاصة الكلية هي سرعة القطار مضافًا إليها سرعة الرصاصة؛ أي 1200 كم/ساعة، أما إذا كان اتجاه الرصاصة عكس اتجاه القطار فسوف نقيس سرعة الرصاصة على أنها 800 كم/ساعة. هذا هو ما تعنيه فكرة النسبية، حيث «بالنسبة» لحامل المسدس –أو دعنا نقول «الإطار المرجعي Reference Frame» لحامل المسدس- سوف تكون سرعة الرصاصة 1000 كم/ساعة، وبالنسبة لك على الرصيف –الإطار المرجعي الخاص بك- فهي 800 أو 1200 كم/ثانية حسب اتجاه الضرب، لكن ما تقوله النسبية الخاصة بالنسبة لسرعة الضوء ليس كذلك.
دعنا الآن نستبدل مسدس الطلقات بمسدس ليزر، كذلك الذي طالما استخدمه أبطال روايات «ملف المستقبل»، حينما يضغط الواقف فوق القطار على زناد المسدس سوف ينطلق الضوء بسرعته الشهيرة C التي تساوي 300 ألف كم/ثانية. لنطبق ما تعلمناه منذ قليل ونرى اختلاف سرعة الضوء بينك على الرصيف وبين الواقف فوق القطار، حينما نوجه مسدس الليزر للأمام بنفس اتجاه القطار. هنا من المفترض أن تُقاس السرعة فوق القطار كـ C ومن على الرصيف سوف تكون «C + سرعة القطار»، لكن ذلك لا يمكن أن يحدث أبدًا.
تنص النسبية الخاصة على أن سرعة الضوء هي أقصى حد للسرعة في الكون، وهي ثابتة في كل الأطر المرجعية، فحتى لو كان القطار يسير بسرعة 150 ألف كم/ ثانية، نصف سرعة الضوء، وأطلقنا شعاع الليزر من فوقه، فإن الواقف على الرصيف سوف يقرأ السرعة دائمًا على أنها C، وليست «مرة ونصف C». ما الذي حدث لفرق السرعة إذن؟، هل اختفى؟
لغرض التبسيط فقط دعنا نضرب هذا المثال؛ أبسط معادلة معروفة في الفيزياء هي: السرعة = المسافة / الزمن. إذا قطعت مسافة 120 كم من بيتك للعمل بسيارتك بسرعة منتظمة في ساعتين، فإن سرعة السيارة إذن هي 60 كم/س. دعنا الآن نطبق ذلك القانون البسيط على مشكلتنا مع سرعة الضوء؛ إذا كان طرف المعادلة الأيمن «السرعة» ثابتًا لا تنخفض قيمته أو تزيد مهما حدث، على القطار أو على سفينة أو على رصيف، أين تكون المشكلة إذن؟
يشبه الأمر أن تعطي البائع في السوبرماركت ثلاثة جنيهات فيعطيك عبوة عصير برتقال واحدة، ثم تأتي اليوم التالي وتعطيه ستة جنيهات فلا يعطيك إلا عبوة واحدة، ثم تعطيه تسعة جنيهات فلا يعطيك إلا عبوة واحدة، هناك مشكلة إذن في هذا البائع، وهي تشبه مشكلتنا هنا، فسرعة الضوء ثابته مهما كانت سرعة القطار، حتى لو كانت سرعة القطار هي .9 من سرعة الضوء، يظل الناتج النهائي للواقف على الرصيف هو C واحدة، فإذا كان طرف المعادلة الأيمن -«السرعة»- ثابتًا، وهناك نوع ما من التلاعب لا نفهمه بعد، فغالبًا سوف يكون التلاعب في الطرف الآخر، طرف البائع، أو طرف المسافة والزمن في معادلتنا البسيطة أعلاه، وهذا هو ما قاد النسبية لأفكار: التمدد الزمني، والانكماش الطولي، فلكي نحافظ على الكون كما هو من دون فقد في فرق السرعة سوف نضطر لتكبير أو تصغير طرف آخر للمعادلة.
وما هو الثابت؟
قبل أينشتاين تصورت فيزياء نيوتن أن قيمًا كـ «الكتلة» و«الطول» و«لزمن» هي قيم مطلقة لكل راصد كان ثابتًا أو متحركًا، فكتلة الكرة على الطاولة هي نفسها كتلة نفس الكرة وهي تجري بأي سرعة، وساعة تمر عليك نائمًا في البيت على كوكب الأرض هي نفس الساعة التي تمر على رائد فضاء تجري سفينته بصف سرعة الضوء. ما أكده أينشتاين أن ذلك «الثبات» في تلك العناصر الثلاثة هو شيء غير حقيقي، فهي ترتبط بإطارك المرجعي.
كلما ازدادت سرعتك، تنكمش المسافة التي تقطعها في اتجاه الحركة، كأن تقصر المسافة بينك وبين النجم الذي تسافر بسرعة تقترب للغاية من سرعة الضوء، فتصبح ثلاثة ملايين سنة ضوئية بينما بالنسبة لراصد على الأرض سوف يقيسها 15 مليون سنة ضوئية، كذلك سوف يتمدد الزمن بالنسبة لك، فما سوف يمر كساعة عندك على السفينة سوف يمر على أهل الأرض كخمس ساعات، لا حاجة لنا الآن لشرح آليات حدوث ذلك، ربما في مقال آخر قد نتعلم معًا بعض الفيزياء النسبية.
ما يهم إذن هو أن نسبية أينشتاين الخاصة قد غيرت ما كنا نتصور أنه مطلق إلى نسبي، لكنها لم تقل إن «كل شيء نسبي»، بل ببساطة تقول لنا: أيها الأغبياء، ليست الكتلة أو الزمن أو الطول هي الأمور المطلقة، إنها سرعة الضوء، هي الشيء الذي لا يتأثر/ لا يتغير Invariant بتغير الأطر المرجعية للراصدين.
يمكن كذلك القول إنه رغم وجود قيم نسبية للفواصل الزمانية والمكانية تختلف بالنسبة لراصدين مختلفين، تعطينا النسبية الخاصة صياغة أكثر جوهرية عن القيم الثابتة، وهي ما نسميه «الفاصل الزماني المكاني Space time interval»، وهو القيمة الثابتة بالنسبة لكل الراصدين مهما اختلفت سرعاتهم أو أماكنهم، إنه الرقم الثابت -وليس النسبي- الذي سوف يتفق عليه الجميع. كذلك فإنه رغم وجود قيم نسبية مختلفة للطاقة والزخم، فإنه يمكن ربطهما في «علاقة الطاقة والزخم Energy Momentum Relation» والتي لا تتأثر بتغير الأطر المرجعية للراصدين، النسبية إذن لا تتحدث عما هو نسبي، بل تحاول إيجاد ما هو –حقيقةً– لا يتغير.
يُقال إن ألبرت أينشتاين هو صاحب الاقتباس الشهير «النسبية تنطبق على الفيزياء، وليس الأخلاق»، لكن المؤكد هو أنه لم يحب كثيرًا اصطلاح «النظرية النسبية» بل رغب في أن يطلق عليها «نظرية اللاتغير the invariant theory»؛ ذلك لأن هذا الاصطلاح –ببساطة– هو الأكثر تعبيرًا عما تعنيه النسبية، فالنسبية هي نظرية القيم التي لا تتغير بالنسبة لأطر مرجعية مختلفة، بل إن أرثر ميللر الروائي والكاتب المسرحي الأمريكي الشهير يقول في خطاب لمجلة New scientist إن سبب عدم إعجاب أينشتاين بلقب «النظرية النسبية» كان له علاقة بتخوفه من انتشار الفلسفات الاجتماعية المنادية بالنسبية الأخلاقية اعتمادًا على فهم خاطئ لمعنى نظريتة النسبية، وهو ما حدث بالفعل بعد ظهور النظرية النسبية ومن بعدها الميكانيك الكمومي.
إن القول إن «كل شيء نسبي» هو في الحقيقة ضد ما يقصده أينشتاين في نسبيته، وضد ما يقصده العلم. إن المبدأ الأول للنسبية الخاصة هو أن قوانين الفيزياء ثابتة بالنسبة لكل الراصدين مهما اختلفت أماكنهم أو أزمنتهم، حيث يمكن دائمًا لتلك القوانين الموضوعية أن تصف الواقع الفيزيائي بدقة. في حوار له مع The Saturday Evening Post،يقول ألبرت أينشتاين ملخّصًا كل ما يمكن أن نقصده هنا:
«لقد أسيء فهم ما تعنيه النسبية على نطاق واسع، يلعب الفلاسفة بالكلمات كما يلعب الأطفال بالدُمى. النسبية، كما أراها، تشير إلى أن بعض الحقائق الفيزيائية والميكانيكية التي كان يُنظر إليها على أنها ثابتة، هي نسبية حينما نضع في الاعتبار حقائق فيزيائية وميكانيكية أخرى، النسبية لا تعني أن لدينا الحق في أن نقلب العالم رأسًا على عقب بخبث».