على عكس ما بذلته إدارة الرئيس الأمريكي السابق “دونالد ترامب” من جهود لتقريب وجهات النظر بين أطراف أزمة سد النهضة الثلاث، وصولًا إلى ما يطلق عليه “وثيقة واشنطن” التي كانت بمثابة خارطة الطريق لإنهاء القضايا الخلافية، والتي رفضت إثيوبيا التوقيع عليها في اللحظات الأخيرة في فبراير 2020؛ لم تظهر إدارة الرئيس الحالي “جو بايدن” الاهتمام الكافي بتلك القضية الشائكة خلال عامين كاملين سوى في مناسبات معدودة.
الأمر الذي يعد أحد أسباب تجميد المفاوضات بين مصر والسودان وإثيوبيا منذ إبريل 2021 حين اجتمع الأطراف الثلاثة في كينشاسا تحت رعاية الاتحاد الأفريقي دون إحراز أي تقدم يذكر. ولكن انعقاد القمة الأمريكية الأفريقية في الفترة من 13 – 15 ديسمبر 2022 في واشنطن بمشاركة 49 دولة أفريقية يُعد فرصةً جيدة لإعادة فتح ملف السد الإثيوبي، واستئناف المفاوضات من جديد لمنع تعقد المشهد.
أحادية خطوات إثيوبيا في ظل تراجع الدور الأمريكي
اعتبرت إثيوبيا أن استمرارها في بناء السد جنبًا إلى جنب مع التفاوض مع مصر والسودان لا يضر بالمصالح المائية لدولتي المصب، واعتبرت أن ذلك يعد التزامًا منها بمبدأ “عدم التسبب في ضرر ذي شأن” الذي تضمنه إعلان المبادئ الذي وقعته الدول الثلاث في الخرطوم في مارس 2015، وهو ما لم تعارضه مصر والسودان إعمالًا لمبدأ “التعاون على أساس التفاهم المشترك وحسن النوايا”؛ ولكن مع تعقد الموقف وتدخل الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية اللذين ساهما في تقريب وجهات نظر الدول الثلاث حول عدد من النقاط الخلافية، تراجعت إثيوبيا عن كل ما تم الاتفاق عليه ورفضت التوقيع على “وثيقة واشنطن”، واتهمت إدارة “ترامب” بتفضيل المصالح المصرية على حساب الإثيوبيين.
لم يستغرق الأمر طويلًا حتى أظهرت إثيوبيا نواياها الحقيقية لاستكمال السد وبدء الملء والتشغيل دون التوقيع على اتفاق ملزم؛ فبعد جلسة مفتوحة لمجلس الأمن في يونيو 2020 خلصت فيها الدول الأعضاء إلى ضرورة التوصل إلى اتفاق ملزم تحت رعاية الاتحاد الأفريقي وإلزام إثيوبيا بعدم اتخاذ خطوات أحادية، أعلنت إثيوبيا إنهاء الملء الأول لخزان السد في يوليو من نفس العام، معلنةً بذلك تحديًا صريحًا لكل الأطراف وخرقًا للمادة الخامسة من اتفاق إعلان المبادئ التي تنص على “ضرورة الاتفاق على الخطوط الإرشادية وقواعد الملء الأول”.
ولعل دراية الإدارة الأمريكية السابقة بأبعاد القضية وقناعتها بصحة الموقف المصري هي ما دفعت الرئيس “ترامب” للتصريح في أكتوبر من نفس العام بأن تجاهل الإثيوبيين للاتفاق المبرم في واشنطن هو أمر غير مقبول، وأن الأمر سينتهي بالمصريين باتخاذ ما يلزم لحماية حصتهم من مياه النيل، وقد جاء ذلك التصريح بعد تعليق الولايات المتحدة مساعدات لإثيوبيا تقدر بحوالي 272 مليون دولار في إشارة إلى جدية الإدارة الأمريكية في دفع جميع الأطراف نحو حل دبلوماسي من خلال توقيع الاتفاق وتجنب الحلول الصلبة.
على عكس المسار الذي حددته إدارة “ترامب”، ألغت إدارة الرئيس الحالي “جو بايدن” قرار تجميد المساعدات الأمريكية لإثيوبيا في فبراير 2021 بالتزامن مع تزايد حدة الصراع المسلح بين قوات التيجراي والقوات الفيدرالية الذي نشب في نوفمبر 2020 وتردي الأوضاع الإنسانية في عدد من الأقاليم الإثيوبية، وتحول الاهتمام الأمريكي إلى وقف الحرب الأهلية والانتهاكات الإنسانية هناك.
لتتراجع أهمية قضية السد الإثيوبي عند الإدارة الأمريكية الجديدة، وتستمر إثيوبيا في خطواتها الأحادية دون التفات إلى مخاوف مصر والسودان، أو إبداء اهتمام بتوجيهات كلٍّ من مجلس الأمن والاتحاد الأفريقي، فأعلنت إتمام الملء الثاني لخزان السد ووصول كمية المياه خلف السد إلى 13.5 مليار م3 في موسم فيضان 2021، ثم الملء الثالث ووصول كمية المياه خلف السد إلى 22 مليار م3 في 2022.
عودة الاهتمام بالسد لاستعادة الدور في أفريقيا
خلال عامين تقريبًا من حكم الرئيس “جو بايدن”، أظهرت الولايات المتحدة الأمريكية رغبتها في الانخراط النشط في قضايا القارة الأفريقية والحد من تمدد النفوذ الصيني والروسي، واتخذت الإدارة الجديدة عدة خطوات خلال عامي 2021 و2022 تمثلت في الزيارات المكثفة من قِبل الدبلوماسيين الأمريكيين لدول القارة الأفريقية، وإعلان المبادرات الموجهة التي تعد “ازدهار أفريقيا” أبرزها، وتعزيز النفوذ العسكري من خلال برنامج “فلينتلوك” السنوي لتدريب القوات الأفريقية على مكافحة الإرهاب. إلا أن تلك الخطوات لم تكن كافية لاستعادة الدور الأمريكي، حيث فشلت الجهود الأمريكية في فرض الرؤية الغربية بشأن الحرب الروسية الأوكرانية على دول أفريقيا، أو تقويض الدور الاقتصادي للصين التي تعهدت بضخ 40 مليار دولار لتمويل الدول الأفريقية في نوفمبر 2022.
دليلٌ آخر على ضعف الدور الأمريكي في أفريقيا –خاصةً في منطقة القرن الأفريقي- هو تغيير المبعوث الأمريكي الخاص بالقرن الأفريقي ثلاث مرات خلال عام واحد، وقد يرجع ذلك إلى ضعف قدرة الدبلوماسيين الأمريكيين على إحداث تقدم في الملفات الموكلة إليهم، والتي كان من بينها ملف “سد النهضة”؛ فقد اكتفت الولايات المتحدة خلال العامين الماضيين بمجموعة من التصريحات التي تؤكد على ضرورة التوصل إلى اتفاق بشأن ملء وتشغيل السد، وتطورت التصريحات إلى ضرورة الحفاظ على أمن مصر المائي، لكن دون اتخاذ خطوات مشابهة لما قامت به إدارة “ترامب” لدفع جميع الأطراف نحو توقيع اتفاق ملزم.
ولأن قضية السد الإثيوبي ترتبط ببعدين رئيسين لخطط واستراتيجيات دول القارة، أحدهما تنموي والآخر يمس السلم والأمن، فإن طرحها أمام قادة أفريقيا أثناء انعقاد القمة الأمريكية الأفريقية والبناء على ما تم التوصل إليه في يناير وفبراير 2020 من شأنه أن يمنح الولايات المتحدة أفضلية مقارنةً بالصين وروسيا؛ فإذا كانت الاستثمارات والمساعدات الأمريكية تكافئ تلك التي تقدمها الصين لدول أفريقيا، فإن لعب دور الوساطة وتقديم الحلول لقضايا تؤثر على مصالح جميع الدول في المنطقة مثل قضية السد الإثيوبي من شأنه أن يؤكد على فعالية الدور الأمريكي واستعادة التأثير في القارة.
لا بديل عن اتفاق ملزم
على الرغم من تناول الرئيس الأمريكي لقضية السد الإثيوبي في حديثه في أكثر من مناسبة، إلا أنه وبحسب الخارجية الأمريكية لم يتم التنسيق بشأن اجتماعات رئاسية تجمع رؤساء مصر والسودان وإثيوبيا، في إشارة إلى أن طرح قضية السد لن يكون ضمن أولويات أجندة القمة. ولكن جميع المعطيات تؤكد حتمية وضرورة التوصل إلى اتفاق، حيث يعد إقدام إثيوبيا على تخزين كميات إضافية من المياه خلف السد دون اتفاق خرقًا لمبدأ “عدم التسبب في ضرر ذي شأن” بشكل يستوجب اتخاذ مصر والسودان خطوات لحفظ أمنهما قد تؤثر على أمن واستقرار المنطقة كما جاء في تحذيرات الرئيس السيسي من قبل.
وما يؤكد ضرورة التوصل إلى اتفاق قبل موسم الفيضان المقبل هو أن تعلية جسم السد بمقدار 25 مترًا فقط من شأنها أن تمكن إثيوبيا من تخزين كمية تؤثر على حصص مصر والسودان وتتسبب في ضرر للسدود السودانية كما حدث خلال العام الماضي. وفقًا لما جاء في وثيقة واشنطن وما تم الاتفاق عليه في يناير 2020، فإن جدول ملء خزان السد يبدأ بتخزين 4.5 مليار متر3 خلال العام الأول، وهو ما تم بالفعل دون موافقة مصر والسودان، ثم 13.5 مليار متر3 خلال العام الثاني، ثم 12 مليار متر3 سنويًا لمدة خمس سنوات، وهو ما يضمن عدم الإضرار بكميات المياه المتدفقة لكل من مصر والسودان.
ولكن بتحليل الوضع الحالي، يتضح أن رفع الممر الأوسط للسد إلى مستوى 105مترات، ما يعادل 600 متر فوق مستوى سطح البحر، مكّن إثيوبيا من تخزين 22 مليار متر3 من المياه خلال موسم فيضان 2022، بزيادة قدرها 9 مليارات متر3 تقريبًا عن الكمية المخزنة في 2021؛ إضافة إلى ذلك، فإن إثيوبيا تستهدف إنهاء تعلية جسم السد بمقدر 40 مترًا خلال العامين المقبلين ورفع كمية المياه المخزنة إلى 74 مليار متر3، منها تعلية السد بمقدار 25 مترًا خلال العام القادم بما يسمح بتخزين 50 مليار متر3، أي تخزين 28 مليار متر3 في عام واحد، وهو ما يفتح المجال للتساؤل حول حجم الضرر الذي ستتسبب فيه إثيوبيا لدولتي المصب خلال العام القادم ورد الفعل المصري السوداني تجاه هذا الضرر.
من خلال ما سبق، يمكن القول إن ما قامت به إدارة الرئيس الأمريكي السابق للتوصل إلى اتفاق حول ملء وتشغيل السد الإثيوبي كان من شأنه أن يحدث تقدمًا نحو حل تلك القضية، إلا أن سياسة إدارة الرئيس الحالي تجاه نفس القضية ساهمت في تجميد المفاوضات وتشجيع إثيوبيا على الاستمرار في اتخاذ خطوات أحادية دون التفات إلى مصالح الدول الأخرى، الأمر الذي يفرض على إدارة الرئيس “بايدن” -إذا ما أرادت استعادة دورها في مواجهة التمدد الصيني الروسي في أفريقيا- إعادة طرح قضية السد الإثيوبي على طاولة النقاش مع رؤساء وقادة أفريقيا أثناء جلسات القمة الأمريكية الأفريقية والبناء على ما تم التوصل إليه في 2020 والدفع نحو توقيع اتفاق ملزم قبل موسم الفيضان القادم.
.
رابط المصدر: