منذ بدء العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، أثيرت العديد من التساؤلات حول معاقبة روسيا بدعوى “جرائم حرب” قد يتم ارتكابها خلال العمليات الجارية خاصة مع استمرار تصاعد الأزمة بين الدولتين، ومع تصعيد الولايات المتحدة الأمريكية والدول الغربية في فرض عقوبات اقتصادية على روسيا، أعلنت 39 دولة من الدول الأعضاء في المحكمة الجنائية الدولية، إحالة الوضع الروسي- الأوكراني إلى المحكمة والتي تعد خطوة مهمة في اتفاق دولي على إدانة للهجوم الروسي.
“محاكمة نورنبيرغ” من هنا كانت البداية، والتي بناءً عليها تأسست المحكمة الجنائية الدولية من خلال النظر في ثلاث قضايا رئيسية هي، جريمة العدوان، وجرائم الحرب، والجرائم ضد الإنسانية والإبادة الجماعية، كجرائم دولية، وتعتبر نورنبيرغ من أشهر المحاكمات لأنها كانت سلسلة من المحاكم العسكرية التي عقدتها قوات الحلفاء بعد الحرب العالمية الثانية، وحققت شهرتها نظرًا لمحاكمة مسؤولين كبار سواء في القيادة السياسية أو العسكرية أو القضائية في ألمانيا، علاوة على ذلك أرسى مؤتمر لاهاي الأول للسلام عام 1899، تعزيز فكرة أن العلاقات الدولية تقوم على أساس اللجوء إلى الوسائل السلمية لتسوية النزاعات الدولية.
وقد أعيد التأكيد على ذلك عام 1919 مع إنشاء عصبة الأمم، وتم توسيعه في ميثاق كيلوغ – برياند لعام 1928، الذي ألزم الدول بالتخلي عن استخدام القوة كأداة من أدوات السياسة الخارجية إلى جانب الأساليب السلمية مثل المساعي الحميدة، وبعثات تقصي الحقائق المستقلة والوساطة والتحكيم، ويظل مثال التسوية السلمية للنزاعات الدولية هو الأسلوب القضائي.
كما نصت المادة الأولى من ميثاق الأمم المتحدة على “قمع أعمال العدوان” كهدف أساسي للأمم المتحدة، وفي عام 2017، عرفت الدول الأطراف في نظام روما الأساسي بما في ذلك أستراليا، جريمة العدوان على أنها “التخطيط أو التحضير أو الشروع أو التنفيذ، من قبل شخص في موقع لممارسة السيطرة أو لتوجيه العمل السياسي أو العسكري لدولة ما، يعد انتهاكًا واضحًا لميثاق الأمم المتحدة”.
قضايا سابقة
من خلال مراجعة القضايا السابقة التي تقترب بشكل كبير من الأزمة الروسية- الأوكرانية بالنسبة لمحكمة العدل الدولية، في عام 1993 رفعت البوسنة والهرسك دعوى قضائية ضد صربيا، وذلك بعد تفكك يوغوسلافيا، على أساس أن الحكومة الصربية كانت متواطئة في الإبادة الجماعية ضد مسلمي البوسنة.
أما بالنسبة للمحكمة الجنائية الدولية، فهناك سوابق لدول عرضت نزاعاتها على المحكمة كوسيلة سلمية لتسوية النزاعات، مثال ذلك عندما أحالت كندا وخمس دول أخرى وهي، الأرجنتين وتشيلي وكولومبيا وباراغواي وبيرو – فنزويلا إلى المحكمة الجنائية الدولية، مع العلم أن تلك البلدان استقبلت لاجئين فارين من الأزمة الإنسانية في فنزويلا، وبالنسبة للدول العربية، ما قامت به دولة فلسطين، عندما أحالت الوضع إلى المحكمة الجنائية الدولية نتيجة استخدام إسرائيل للقوة ضد الشعب الفلسطيني. وبالرجوع إلى الوضع في روسيا، نجد أنها انسحبت من المحكمة الجنائية الدولية في عام 2016، بعد أن نشرت المحكمة تقرير يصف ضم روسيا لشبه جزيرة القرم على أنه احتلال.
وبالتالي هل تنجح الدول الغربية في محاكمة روسيا في ظل وصفها لما تفعله موسكو بأنه جريمة عدوان وأن القصف وحصار المدن وتهديد المدنيين يعد جريمة إبادة جماعية، خاصة وأن روسيا ليست طرفًا في المحكمة الجنائية الدولية؟
أوكرانيا تتهم روسيا بالإبادة الجماعية
يرجع تاريخ فتح التحقيق إلى 2014، من خلال طلب أوكرانيا بفتح تحقيق في الاتهامات المزعومة ضد روسيا بارتكابها جرائم إبادة جماعية على الأراضي الاوكرانية، والتي قدرت كييف أنها نتج عنها وفاة ما يقرب من 2000 مدني، منذ بدء العمليات العسكرية الروسية. زاعمة كذلك أنها جرى خلالها استهداف مستشفيات ومدارس. فيما يرى الجانب الروسي أن أوكرانيا قد قتلت ما يقرب من 500 مدني.
وقد لجأت أوكرانيا إلى المحكمة الجنائية الدولية. وعلى الرغم من أنها ليست طرفًا في المحكمة، فإن نظام المحكمة يسمح بأن تطلب أي دولة فتح تحقيق جنائي أو تحقيقًا في جرائم حرب أو عدوان أو إبادة جماعية ارتُكبت على أراضيها أو ضد مواطنيها. مع العلم أن روسيا قد انسحبت من المحكمة عام 2016؛ اعتراضًا على المذكرة التي أصدرتها المحكمة ووصفت خلالها ضم شبه جزيرة القرم بأنه احتلال.
أما الآن فيعد قرار الإحالة المقدم من الدول الأعضاء في المحكمة الجنائية الدولية البالغ عددهم 39 بما في ذلك ألمانيا وبريطانيا وجورجيا ورقة ضغط على روسيا من جانبهم لسرعة التحرك والبت في أكبر تحقيق قد تشهده المحكمة خلال السنوات الأخيرة. وهو ما قاله كريم خان، المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، مشيرًا إلى أن فريقًا غادر المحكمة متوجهًا إلى أوكرانيا لبدء تحقيق في جرائم حرب محتملة.
وجاءت مغادرة الفريق بعد ساعات من قول خان إنه سيبدأ “جمع أدلة في إطار تحقيق رسمي بعد غزو روسيا لأوكرانيا، وإنه لا يمتلك أي فرد في الوضع الأوكراني رخصة لارتكاب جرائم في نطاق اختصاص المحكمة الجنائية الدولية”، بالإضافة إلى أن هناك منظمات حقوقية ترحب بفتح تحقيق فيما يحدث على الأراضي الاوكرانية.
ويعتزم المدعي العام التواصل مع كل الأطراف الضالعة في الصراع، ودعوتهم إلى الالتزام بقواعد القانون الدولي في ظل مزاعم بانتهاكه جاءت من عدة أطراف رسمية؛ إذ قال الرئيس الأوكراني فولوديمر زيلينسكي إن روسيا تستهدف المدنيين على وجه التحديد، ووصف الهجوم على مدينة خاركيف بأنه “جريمة حرب وإرهاب دولة روسيا الاتحادية”، وعلى نفس السياق قال وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكين إن “التقارير الأولية تشير إلى أن روسيا تستهدف المدنيين عمدًا كجزء من غزوها، كذلك قال الرئيس الأمريكي جو بايدن إن القوات الروسية تستهدف بشكل واضح مناطق مدنية، لكنه لم يصل إلى حد وصفها بجريمة حرب.
ولذلك فسيتعين على هذه الدول إثبات أن القوات الروسية تقوم بقصف الأهداف المدنية عن عمد، مع الأخذ في الحسبان أن روسيا موقعة على معاهدة دولية تسمى اتفاقية الذخائر العنقودية التي تحظر استخدامها، وتتهم أوكرانيا روسيا باستخدام هذه الأسلحة.
علاوة على ذلك، فإذا كانت تأمل أوكرانيا محاكمة روسيا فإن ذلك سيواجه بعقبات كبيرة تجعله غير محتمل؛ إذ يمكن لروسيا استخدام حق النقض ضد أي تحرك في مجلس الأمن الدولي لإحالة أي قضايا إلى المحكمة الجنائية الدولية. وهو الأمر الذي نفذته روسيا بالفعل سابقًا فيما يتعلق بالقرار المقترح من مجلس الأمن لاستنكار ما وصفه بـ “الغزو”. وعلاوة على ذلك، أقر رئيس الادعاء في المحكمة الجنائية الدولية بأنه “لا يمكن للمحكمة ممارسة الولاية القضائية على هذه الجريمة المزعومة في هذه الحالة”.
وقد تبنت جلسة طارئة للجمعية العامة للأمم المتحدة بأغلبية كبيرة قرارًا يدين الهجوم الروسي، ويدعو روسيا إلى سحب قواتها، ومن هذا المنطلق يمكن أن تتخذ الجمعية العامة للأمم المتحدة خطوة مشابهة بإحالة العملية العسكرية الروسية إلى محكمة العدل الدولية من خلال الحصول على فتوى حول ما إذا كان ما يحدث على الأراضي الأوكرانية عدوان. وعلى الرغم من عدم وجود قوة ملزمة للفتاوى الصادرة عن محكمة العدل الدولية، إلا أنها تحمل وزنًا قانونيًا.
احتمالات قائمة
بالنسبة لفرض عقوبات على روسيا: إلى جانب محاصرة روسيا اقتصاديًا من خلال فرض عقوبات عليها من جانب الدول الغربية، فإنه يمكن أن تقوم الأمم المتحدة بتشكيل لجنة لفرض تعويضات لصالح أوكرانيا، وأقرب مثال على ذلك التعويضات التي قامت دولة العراق بدفعها إلى الكويت جراء غزوها لها عام 1989، إذ ألزمت لجنة التعويضات بالأمم المتحدة العراق بدفع 52.4 مليار دولار للأفراد والشركات والمنظمات الحكومية وغيرها، ممن تكبدوا خسائر مباشرة ناجمة عن غزو واحتلال الكويت. ذلك على الرغم من أن الغزو الأمريكي للعراق عام 2003 لم تتحمل الولايات المتحدة جراءه دفع أي تعويضات.
أما فيما يتعلق بشخص الرئيس الروسي بوتين والذي تعمل الدول الغربية على إلصاق أمر العملية العسكرية إلى شخصه مباشرة وليس إلى الدولة الروسية بوجه عام، من الممكن للمدعي العام أن يطلب من دائرة المحكمة الجنائية الدولية إصدار مذكرة توقيف بحقه، ومن ثم لن يتمكن من السفر إلى 123 دولة هي الدول الأطراف في المحكمة خشية الاعتقال، مع الأخذ في الحُسبان أن مذكرة الاعتقال ليست ضمانة للإدانة.
وعلى سبيل المثال في عام 2011، أصدرت المحكمة الجنائية الدولية مذكرة توقيف بحق غباغبو، الرئيس السابق لساحل العاج، لارتكابه أربع تهم ضد الإنسانية في عامي 2010 و2011، وبدأت محاكمته في 2016 وتمت تبرئته بعد ذلك بثلاث سنوات، حيث وجدت المحكمة الجنائية الدولية أن الأدلة المقدمة ضده لم تظهر أن لديه خطة لمهاجمة السكان المدنيين.
وكذلك الرئيس السوداني السابق عمر البشير كان أول رئيس دولة في منصبه تصدر بحقه مذكرة توقيف من المحكمة الجنائية الدولية، منذ عام 2009، كان مطلوبًا لارتكاب جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب وإبادة جماعية في دارفور بالسودان. وإذا ما كانت هناك أدلة يمكن أن تدين الرئيس الروسي فإن الأمر سيستغرق وقتًا طويلًا للغاية لإدانته.
.
رابط المصدر: