دفعت الحرب الروسية الأوكرانية إلى مزيد من عدم اليقين بشأن التوقعات الاقتصادية الأمريكية، وذلك مع ارتفاع أسعار الطاقة بشكل كبير ومتتالٍ. وتقوم سياسة الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي بشكل رئيس على أهداف تتمثل في تعزيز الحد الأقصى من فرص العمل، وتحقيق استقرار الأسعار، وضمان معدلات فائدة معتدلة طويلة الأجل. وبالتالي مع ارتفاع أسعار الطاقة والغذاء عالميًا، والإغلاقات المتكررة في الصين، وتفاقم اضطرابات سلسلة التوريد؛ تسجل معدلات التضخم بالولايات المتحدة نسبًا عالية، والتي أثرت بدورها على الإنفاق وعلى النشاط الاقتصادي ككل. وتعتمد الأداة الرئيسة أمام الاحتياطي الفيدرالي لكبح التضخم على رفع أسعار الفائدة، والتي من شأنها أن تجعل الاقتراض بالنسبة للشركات والأفراد أكثر تكلفة، وبالتالي تهدئة الطلب للسيطرة على الأسعار.
أولًا: العلاقة بين التضخم وأسعار الفائدة
تتحرك معدلات التضخم وأسعار الفائدة في الاتجاه نفسه؛ لأن أسعار الفائدة هي الأداة الأساسية التي يستخدمها الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي لإدارة التضخم. ومنذ عام 2012 استهدف الاحتياطي الفيدرالي تضخمًا سنويًا بنسبة 2٪؛ وذلك بهدف تحقيق أقصى قدر من التوظيف واستقرار الأسعار، وبالتالي تعد أسعار الفائدة المرتفعة استجابة سياسية من قبل الاحتياطي الفيدرالي لارتفاع التضخم، وعلى العكس من ذلك فإنه عندما ينخفض التضخم ويتباطأ النمو الاقتصادي يقوم الاحتياطي الفيدرالي بخفض أسعار الفائدة لتحفيز الاقتصاد.
ويقيس الاحتياطي الفيدرالي التضخم من خلال مؤشر أسعار نفقات الاستهلاك الشخصي، والذي يقيس متوسط الزيادة في أسعار الاستهلاك الشخصي المحلي على مستوى الولايات المتحدة، حيث يراقب الاحتياطي الفيدرالي عن كثب مؤشر أسعار نفقات الاستهلاك الشخصي الأساسي، والذي يستبعد أسعار المواد الغذائية والطاقة التي تكون عادةً أكثر تقلبًا وتميل إلى أن تكون أقل انعكاسًا لاتجاه السعر الإجمالي نتيجة لذلك.
وفيما يتعلق بالقرارات المتعاقبة التي اتخذها الاحتياطي الفيدرالي، فإن ارتفاع أسعار الفائدة يؤدي إلى تثبيط الإنفاق الاستهلاكي والتجاري، لا سيما على العناصر ذات التكلفة الكبيرة الممولة بشكل شائع مثل الإسكان والمعدات الرأسمالية. وتميل أسعار الفائدة المرتفعة أيضًا إلى التأثير على أسعار الأصول، مما يعكس تأثير الثروة على الأفراد ويجعل البنوك أكثر حذرًا في قرارات الإقراض. ومن ثم، يشير ارتفاع أسعار الفائدة إلى احتمالية استمرار البنك المركزي في تشديد السياسة النقدية، مما يسيطر على الأسعار ويخفف من توقعات التضخم.
وبالتالي فإن خطوة الاحتياطي الفيدرالي جاءت في الوقت الذي يرتفع فيه التضخم بشكل متسارع في الاقتصاد الأمريكي وبأعلى معدل سنوي منذ حوالي 40 عامًا والذي وصل إلى 8.5% في مارس. ومع استمرار احتدام الصراع بين روسيا وأوكرانيا، فإنه من غير المرجح أن تنحسر ضغوط الأسعار على الغذاء والطاقة في المدى قصير الأجل.
ثانيًا: معدل الفائدة المستهدف من قبل الفيدرالي الأمريكي
أعلن الاحتياطي الفيدرالي عن رفعه أسعار الفائدة بنسبة 0.50%، بعد اجتماعه الذي عقد في 3-4 مايو، مما دفع معدل الأموال الفيدرالية إلى نطاق مستهدف يتراوح بين 0.75 إلى 1.00%. وتأتي هذه الخطوة في أعقاب زيادة بنسبة 0.25% في مارس الماضي، حيث يواصل الاحتياطي الفيدرالي خفض السيولة في الأسواق المالية للمساعدة في الحد من التضخم المرتفع.
وأعلن كذلك عن تحفيز الأسواق المالية بشكل أكبر عن طريق ترك حيازاته من السندات تتراجع بمرور الوقت، سوف يعمل بنك الاحتياطي الفيدرالي على خفض حيازاته الضخمة من السندات بمقدار 95 مليار دولار شهريًا، مما يقلل السيولة بنحو 1 تريليون دولار سنويًا، ويمكن متابعة تطور معدل الفائدة المستهدف من قبل الاحتياطي الفيدرالي من خلال الجدول التالي:
بحسب الاحتياطي الفيدرالي، فإنه خفض أسعار الفائدة مرتين إلى نطاق من 0.0٪ إلى 0.25٪. كانت المرة الأولى خلال الأزمة المالية لعام 2008، ولم يستأنف رفع أسعار الفائدة حتى ديسمبر 2015. وفي 4 مايو 2022، رفع الاحتياطي الفيدرالي أسعار الفائدة بمقدار نصف نقطة مئوية، مما جعل النطاق المستهدف لمعدل الأموال الفيدرالية 0.75٪ إلى 1٪، وعلى الرغم من تلك السياسة النقدية المتشددة إلا أن هناك توقعات بتراجع نشاط الاقتصاد الأمريكي.
ثالثًا: معدلات التضخم
تسارع معدل التضخم السنوي في الولايات المتحدة ليسجل 8.5٪ في مارس 2022، وهو أعلى معدل منذ ديسمبر عام 1981، مقارنة بـ 7.9٪ في فبراير 2022، وبشكل مرتفع عن التوقعات عند 8.4٪. أسهم في ذلك ارتفاع أسعار الطاقة بنسبة 32٪، وتحديدًا البنزين (48٪) وزيت الوقود (70.1٪)، كما قفزت أسعار المواد الغذائية 8.8٪، وهو الأكبر منذ مايو 1981. كذلك تسارع التضخم بالنسبة للمساكن (5٪ في مارس مقابل 4.7٪ في فبراير) والمركبات الجديدة (12.5٪ مقابل 12.4٪)، لكنه تراجع للسيارات والشاحنات المستعملة (35.3٪ مقابل 41.2٪ في فبراير)، ويمكن متابعة تطور معدلات التضخم بالولايات المتحدة من خلال الشكل التالي:
يبين الشكل السابق تحقيق معدل التضخم بالولايات المتحدة قفزات متتالية؛ فبعد أن كان 4.2% في إبريل 2021 ارتفع ليصل إلى 7.5% في يناير 2022 ومنه إلى 8.5% في مارس 2022، ويمكن متابعة تغيير النسبة المئوية في مؤشر أسعار المستهلك في مارس 2022 من خلال الشكل التالي:
من الشكل السابق، نلاحظ أن مؤشر أسعار المستهلكين ارتفع بنسبة 6.5٪، وهو أكبر ارتفاع في 40 عامًا، إلا أنه أقل بقليل من التوقعات والتي كانت عند 6.6٪. وفي نفس الوقت جاء كما توقع المحللين بأن يمثل شهر مارس ذروة التضخم وذلك على أثر استمرار الحرب في أوكرانيا، واستمرار الاختناقات في سلسلة التوريد والذي صاحبه مواصلة ارتفاع طلب المستهلكين، الأمر الذي قد يؤثر على مؤشر أسعار المستهلكين لفترة أطول.
ومن هنا نلاحظ أن قرارات الاحتياطي الفيدرالي تعكس التطورات الاقتصادية والجيوسياسية المحلية والدولية، والتي أدت إلى ارتفاع معدلات التضخم العالمية ودفعت بزيادة أسعار السلع الأساسية والطاقة والاضطرابات المستمرة في سلاسل التوريد، وبالتالي فإن السياسة النقدية المتشددة التي أعلن عنها الفيدرالي الأمريكي تهدف إلى زيادة تكلفة الائتمان، وبالتالي رفع معدل الادخار، وخفض الطلب في قطاع الإسكان، وتراجع الطلب على السلع بشكل عام، وبالتالي السيطرة على معدلات التضخم بشكل عام. إلا أنه من ناحية أخرى يؤدي رفع أسعار الفائدة إلى زيادة الدين المحلي وزيادة عجز الميزانية، وبحسب الاحتياطي الفيدرالي فإن إجمالي عجز الموازنة التقديري من 2022 إلى 2031 سيصل إلى 12.7 تريليون دولار؛ نظرًا إلى أن زيادة المعدلات بمقدار نصف نقطة مئوية فقط من شأنه أن يزيد العجز بمقدار 1 تريليون دولار.
.
رابط المصدر: