تعد قضية ضم أوكرانيا إلى حلف الناتو الشرارة التى فجرت الحرب الروسية الأوكرانية، بسبب ما تعتبره روسيا تجاوزا للخط الأحمر من جانب أمريكا والناتو، وهو الإصرار على توسع الحلف شرقا وضم أوكرانيا إليه بما يمثل تهديدا مباشرا للأمن القومى الروسى، وهو ما دفعها للقيام بالعملية العسكرية فى 24 فبراير 2022. وفى المقابل استخدمت أمريكا والناتو مسألة ضم أوكرانيا وسيلة لتحجيم صعود روسيا اقتصاديا وسياسيا فى النظام الدولى ومنع التحول للنظام متعدد القطبية.
كما استخدمت أمريكا الأزمة الأوكرانية لإعادة إحياء وتقوية حلف الناتو بعد التحديات الكبيرة التى واجهها، ووصلت إلى وصف الرئيس الفرنسى ماكرون لحلف بالموت السريرى، حيث أسهمت الأزمة فى إعادة توحيد الناتو والتنسيق بين دوله فى مواجهة روسيا، وتوسيعه بعد ضم دول جديدة إليه مثل فنلندا، إضافة إلى زيادة الإنفاق العسكرى لدول الحلف بما يقارب 2% من الناتج القومى، وهو الأمر الذى كانت تطالب به إدارة ترامب وضغطت على دول الحلف، ولذلك أدت الحرب فى أوكرانيا إلى زيادة الإنفاق الدفاعى للحلف بمعدل 350 مليار دولار خلال عام 2022، وقامت أمريكا ببيع أسلحة متطورة لدول الحلف، خاصة فى شرق أوروبا، وهو أحد الأهداف الإستراتيجية الأمريكية وراء الحرب الروسية الأوكرانية، إضافة إلى الفوائد الاقتصادية التى حققتها من وراء الحرب، باعتبارها الرابح الأكبر، وأبرزها إحلال صادرات الغاز الأمريكى لأوروبا محل الغاز الروسى، كذلك استحواذ الشركات الأمريكية على عملية إعمار أوكرانيا بعد انتهاء الحرب.
ومن هنا فإن مسألة ضم أوكرانيا للحلف، تعد اختبارا حقيقيا لمسار العلاقة بين أمريكا ومن ورائها حلف الناتو، وبين روسيا، فعلى خلاف انضمام دول البلطيق سابقا للحلف وانضمام فنلندا مؤخرا واحتمال ضم السويد قريبا، تتسم عملية انضمام أوكرانيا بتعقيدات كثيرة، قانونية وسياسية وإستراتيجية. فقانونيا يصعب انضمام أوكرانيا للناتو وهى فى حالة حرب مع روسيا، فالانضمام يعنى وفقا للمادة الخامسة للحلف (الدفاع الجماعى) أن يدخل فى حرب مباشرة مع روسيا، كما أن نهاية الحرب غير واضحة فى الأفق، ولذلك فإن عملية الانضمام مؤجلة إلى حين، وقد اعترف الرئيس زيلينسكى بصعوبة عملية الانضمام قريبا، ولذلك فإن غاية ما يطلبه من الناتو فى قمته فى ليتوانيا، هو الحصول على وعد بالانضمام مستقبلا بعد انتهاء الحرب، كما أن زيلينسكى يستخدم ورقة الانضمام إلى الحلف للضغط من أجل الحصول على المزيد من الدعم العسكرى والأسلحة المتطورة من طائرات ودبابات وصواريخ وأنظمة دفاع جوى وقنابل عنقودية. وعسكريا هناك معايير لابد أن تلتزم بها أوكرانيا قبل الانضمام للحلف، خاصة المتعلقة بنمط ونوعية التسليح وضرورة الانتقال من النمط السوفيتى السابق إلى نمط التسليح الخاصة بحلف الناتو. واستراتيجيا تدرك أمريكا والناتو جيدا أن الإصرار على ضم أوكرانيا فى المدى القصير يمثل استفزازا لروسيا والتى لن تقبل بعملية الانضمام حتى لو كلفها الأمر استخدام الأسلحة النووية التكتيكية للدفاع عن أمنها القومى، وهو ما يعنى إطالة أمد الحرب الأوكرانية ومن ثم استمرار تداعياتها السلبية الاقتصادية على الدول الأوروبية، المتضرر الأكبر من الحرب، وقد انعكس ذلك فى تحفظ العديد من دول الحلف، خاصة غرب أوروبا مثل ألمانيا وفرنسا وبريطانيا، على عملية الانضمام، وتبنيها منهج الواقعية، بينما تشجعه دول شرق أوروبا ودول البلطيق.
ولاشك فى أن مستقبل انضمام أوكرانيا للناتو مرهون بمستقبل ومصير الحرب الروسية الأوكرانية، وهناك عدة سيناريوهات فى هذا الإطار، أولها: أن يكون عدم انضمام أوكرانيا للناتو جزءا من صفقة أمريكية روسية لتسوية الأزمة وإنهاء الحرب وانسحاب القوات الروسية من شرق أوكرانيا، أى الاستجابة للضمانات الأمنية التى طلبتها روسيا قبل اندلاع الحرب، وهو تعهد الغرب والناتو بعدم ضم أوكرانيا أو نشر أسلحة إستراتيجية فى دول شرق أوروبا. وهذا السيناريو يواجه بتحديات أبرزها رفض أمريكا تقديم الضمانات لروسيا والتخلى عن ضم أوكرانيا بعدما أنفق الناتو ما يقارب 150 مليار دولار من المساعدات العسكرية والاقتصادية لأوكرانيا فقط منذ اندلاع الحرب، كما أنه يعنى اعترافا بانتصار روسيا، إضافة إلى أن روسيا لن تنسحب من أقاليم شرق أوكرانيا الأربعة، وهى جمهوريتا لوجانسك ودونيتسك، ومقاطعتا زابوريجيا وخيرسون، باعتبارها جزءا أساسيا من الأراضى الروسية وانسحابها يعنى الاعتراف بهزيمتها، إضافة إلى تكلفة باهظة عسكرية وبشرية واقتصادية خلال العام ونصف العام الماضى. وثانيها: أن يتم تقسيم أوكرانيا بحيث ينضم شرق أوكرانيا لروسيا، وبقية أوكرانيا تنضم للناتو والاتحاد الأوروبى. وثالثها: تظل مسألة انضمام أوكرانيا معلقة وورقة يستخدمها الغرب للضغط على روسيا لدفعها نحو تقديم تنازلات فى الحرب الروسية الأوكرانية، واستبدال عضوية أوكرانيا بالحلف بصيغة مجلس أوكرانيا والناتو، والذى يعقد قمته الأولى على هامش قمة الحلف بليتوانيا. وهذا المجلس يوفر صيغة مهمة من التعاون الأمنى بين الجانبين.
إن انعقاد قمة الناتو فى ليتوانيا وعلى حواف الحدود الروسية يمثل رسالة واضحة لروسيا بأن أمريكا والناتو أصبحا على حدودها، خاصة بعد أن أصبح بحر البلطيق بحيرة تابعة للناتو، وهو ما يكرس لمعادلة أمنية جديدة فى شرق أوروبا. لكن فقد تكون مسألة ضم أوكرانيا المفجرة لشرارة الحرب بين روسيا والناتو، ولذلك فإن عملية الانضمام تبدو مستبعدة على الأقل فى المديين القصير والمتوسط.
.
رابط المصدر: