قبل أكثر من ألفي عام اعتبر الفيلسوف سقراط التواضع أعظم الفضائل، فقد لاحظ أن أحكم الناس من يبادر بالإقرار بجهله.
لكن مضى وقت طويل قبل أن يستوعب العلم هذا الأمر. وقد شهد العقد الماضي دراسات تطرقت لتلك السمة وأثرها على التفكير والمنطق، وأشار أحد الأبحاث إلى أن الأشخاص الذين يتحلون بالتواضع يكتسبون قدرا أكبر من المعرفة ويتخذون قرارات أفضل ويجيدون حل المشكلات.
وتشير أحدث النتائج إلى أهمية التواضع لدى القادة على وجه التحديد.
ومن المفيد أن تركز الأبحاث الحديثة على التواضع، بعدما استمر التركيز لعقود على أهمية تقدير الذات والثقة بالنفس، حيث اعتبرت الثقة حلا سحريا لكثير من نقائص مجتمعنا.
ومع ذلك، لا يلزم بالضرورة أن تكون الثقة بالنفس نقيضا للتواضع، إذ يقول خالد عزيز، مدرب فنون قيادة بالمملكة المتحدة، إن “التواضع يستلزم الثقة”.
وفي عام 2013 نشر برادلي أوينز، عالم النفس بجامعة بريغهام يونغ، دراسة بحثت أداء 144 من الطلاب الذين لم يتخرجوا بعد من دراسة الإدارة. وتوقع أوينز ألا يقيم الشخص تواضعه بالشكل الصحيح، فطلب من المشاركين تقييم الآخرين بناء على عبارات مثل: “هذا الشخص يطلب الرأي باستمرار”، و”هذا الشخص يقر بعدم درايته بالأشياء”، و”هذا الشخص يقر بدراية الآخرين أكثر منه وتفوقهم عليه في المهارات”. بعد ذلك تتبع أوينز مقاييس مختلفة لأداء الطلاب خلال العام.
وجاءت النتائج مذهلة، فقد حصل الطلاب الذين كان تقييمهم الأكثر تواضعا على درجات أفضل من الذين كانت نظرتهم لأنفسهم مبالغا فيها. بل ثبت أن التواضع كان مؤشرا أفضل للأداء من مقياس الذكاء الفعلي للشخص.
وبدا سبب تلك الميزة جليا حين دقق أوينز وزملاؤه في التقدم الدراسي للطلبة خلال العام، فحتى لو لم يبدأ المتواضعون بقوة إلا أنهم بإقرارهم بنقائصهم في المعرفة والمهارات وتصحيح النقائص تمكنوا من إحراز النتائج الأفضل خلال الفصل الدراسي. أما الأقل تواضعا فكان نجاحهم يتوقف عند حد معين لا يمكن تجاوزه. وإجمالا أثبت الطلاب الأكثر تواضعا قدرة أكبر على التعلم، بغض النظر عن الذكاء.
وساعدت دراسة أوينز في تأكيد أهمية التواضع كسمة سيكولوجية مميزة، وجاءت دراسات لاحقة لتؤكد أهمية التواضع الفكري في زيادة التعلم، فضلا عن مؤشرات أخرى للتفكير الناجح.
ووجدت إليزابيث كرومري مانكوزو، من جامعة بيبردين بكاليفورنيا، أن الأفراد الأكثر تواضعا يميلون لإظهار شغف أكبر بالمعرفة ويبدون أكثر استعدادا للعلم من أجل العلم.
كما وجدت أن المتواضعين أحرزوا درجات أفضل في اختبارات “مراجعة الفكر” التي تقيس النزعة للعدول عن توجهات المرء الأولى وإعادة التفكير في افتراضاته، وهي نتيجة هامة لأن الذين يراجعون أفكارهم يكونون أقل عرضة لانحياز الفكر والتضليل. ويستشف من هذا أن تأثير التواضع ينسحب إيجابا على اتخاذ المرء لقراراته.
وبالنسبة لزعماء العالم اليوم، يشار أحيانا إلى أن اشتغال المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل بالعلوم كان سببا في تحليها بقدر أكبر من التواضع الفكري، الذي يتضمن النزعة لإعادة التفكير في افتراضاتها والإصغاء للآخرين قبل اتخاذ القرارات.
ويُعتقد أن هذا الأمر ساعدها في تجاوز العديد من الأزمات خلال عملها كمستشارة لألمانيا على مدار الخمسة عشر عاما الماضية. كما عُرف عن الرئيس الأمريكي السابق إبراهام لنكولن تواضعه وقدرته على الإقرار بخطئه، ما جعله أكثر قدرة على اتخاذ القرارات الصحيحة.
وفضلا عن الفائدة التي تعود على الشخص المتواضع نفسه، تظهر البحوث الحديثة أن التواضع يؤثر أيضا بصورة إيجابية على فريق العمل.
ففي بحث لأكثر من 700 موظف بشركة أمريكية لتقديم الخدمات الصحية، وجد أوينز أن القادة الأكثر تواضعا شجعوا الموظفين على الانخراط أكثر في العمل وجعلوهم يشعرون بالرضا عن عملهم. ورغم أن أوينز لم يبحث في تلك الصلة، أشار بحث أجراه لاحقا إلى أن تواضع القائد يدعم التواصل بشكل أفضل بين أفراد فريق العمل.
وعلاوة على ذلك فإن تحلي القائد بالتواضع يجعل الموظفين لا يخافون من الإعلان عن معارضتهم للقرارات التي يرون أنها غير صحيحة، كما يصبح الموظفون أكثر استعدادا للإقرار بالأخطاء التي يرتكبونها، لأن القائد نفسه يعترف بخطئه. كل هذا من شأنه أن يخلق بيئة عمل صادقة وبناءة.
وقد وجدت إيمي يي-أوو، من الجامعة المهنية بهونغ كونغ، فوائد مماثلة في دراسة شملت 105 من شركات التكنولوجيا. استخدمت يي-أوو بحثا شبيها بالذي أجراه أوينز ووجدت أن المديرين التنفيذيين الأكثر تواضعا شجعوا الموظفين على مزيد من التعاون وتبادل المعلومات داخل فريق الإدارة العليا للشركة. وأدى ذلك لاتخاذ قرارات أفضل، وبالتالي تحقيق أرباح أكثر.
ورغم هذه الفوائد قد يخشى القادة من أن يقوض التعبير عن التواضع سلطتهم. لكن أحدث بحث عن التواضع، نشر في وقت سابق من هذا العام، أشار إلى أن هذا ليس صحيحا بالضرورة طالما أن القائد يعبر عن تواضعه بالشكل الصحيح.
ووضعت إيرينا كوخوهارينكو، باحثة بجامعة سري البريطانية، مجموعة من العبارات لوصف سلوك القائد وطلبت من المشاركين بالدراسة التي أجرتها في هذا الصدد تقييم القائد بناء على كفاءته. ورغم أن تصريح القائد مباشرة بجهله بمسألة مهمة -كأن يقول صراحة “لا أعرف”- ربما أضر بتقييمه قليلا، فإن هذا التأثير كان أقل كثيرا بالمقارنة عندما يقر القائد بجهله عن طريق الاستفسار عن الأمر.
الأكثر من ذلك، لم يؤثر إظهار عدم العلم بالشيء –من خلال الاستفسار– إلا حين تكون كفاءة القائد محل شك من الأساس. أما بالنسبة للقائد الذي أثبت درايته بحصوله على درجة مرموقة مثلا، لم يكن هناك أي أثر يذكر. وحتى في هذه الحالة، ظلت ثقة المشاركين إجمالا بقائدهم دون تغير، إذ بدا أنهم قدّروا رغبة القائد الأمينة في المعرفة واحترموا صراحته حتى ولو اهتزت ثقتهم بكفاءته المهنية.
وبالنظر لتلك النتائج، تنصح كوخوهارينكو القادة بعدم الإحجام عن التساؤل والاستفسار حتى ولو أظهر ذلك عدم معرفتهم – بدلا من محاولة التظاهر بالدراية بكل شيء. وتقول: “لم نر خلال أربع دراسات أجريناها أثرا سلبيا بالمجمل لذلك”.
وتنصح من لا يزال يشكك في أهمية التواضع أن يتذكر الشخصيات التي ألهمته في حياته، وسيجدها غالبا لأناس أظهروا قدرا أكبر من التواضع.
رابط المصدر: