يشهد العالم حالة محتدمة من الاستقطاب والصراع الجيوسياسي مما يؤثر على خريطة العالم السياسية، وما يتبعها من تغيير في خرائط الاقتصاد العالمي. ومع هذه التطورات، ظهرت وتيرة من التحركات الدولية للحد من هيمنة الدولار على الاقتصاد العالمي في سبيل إنقاذ الاقتصاد الوطني لتلك الدول سواء حليفة كانت للولايات المتحدة أو لم تكن، خاصة بعدما ركزت الولايات المتحدة جهودها على إنقاذ اقتصادها الوطني بغض النظر عن تداعيات ذلك على الاقتصاد العالمي، وظهر هذا الأمر جليًا في القرارات المتتالية للفيدرالي الأمريكي لرفع سعر الفائدة، مما أدى إلى موجات تضخمية ضربت أركان الاقتصاد العالمي، وسببت حالة من عدم الاستقرار في كافة الأسواق العالمية.
تحركات إقليمية متعددة الأطراف
ظهر العديد من المبادرات على الساحة الدولية للحد التدريجي من هيمنة العملة الخضراء على الاقتصاد العالمي، وكان أحد أبرز تلك التحركات تجمع بريكس المكون من: روسيا، والهند، والصين، والبرازيل، وجنوب أفريقيا، الذي كان قد أعلن في وقت مضى عزمه إنشاء عملة موحدة “بريكس”، مع السماح لأي دولة منضمة لبنك التنمية التابع للمجموعة بالانضمام إلى العملة الموحدة، وهو الأمر الذي سيتم بحثه خلال القمة المقبلة في جنوب أفريقيا والتي ستكون مصر ضيفًا فيها. ويأتي ذلك في سياق خدمة أحد أهم الأهداف الأساسية للمجموعة وهو تأسيس نظام عالمي جديد يكون أكثر تعددية من النظام الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة الأمريكية.
تكمن جاذبية العملة الجديدة في احتمالية ربطها بالذهب، وذلك على عكس الدولار الأمريكي الذي لم يعد مرتبطًا بالذهب منذ سبعينيات القرن الماضي. وكان هناك عدد من الدول التي أعربت عن رغبتها في الانضمام للبريكس وعلى رأسها: مصر، والسعودية، والإمارات، وإيران.
كذلك أعلن الأمين العام لمنظمة شنغهاي في يناير الماضي عن إنشاء مجموعة من الخبراء؛ بهدف العمل على تنفيذ خريطة طريق لزيادة التسويات الجارية بالعملات الوطنية، بعدما أقرت المنظمة استخدام العملات الوطنية في إصدار السندات، والاستثمار والتجارة البينية بين تلك الدول. وجدير بالذكر أن مصر انضمت في أواخر عام 2022 كشريك للحوار لمنظمة شنغهاي، ثم تبعتها السعودية في عام 2023 بهدف تعزيز التعاون مع دول المنظمة.
لم يتوقف الأمر عند الجانب الشرقي من العالم فحسب، بل امتد ليشمل الفناء الخلفي للولايات المتحدة الأمريكية، وظهرت تحركات من البرازيل والأرجنتين لإصدار عملة موحدة بينهما، مع اختيار اسم مبدئي لها وهو “السور” والذي يعني الجنوب، مع توجيه الدعوة إلى كافة دول أمريكا اللاتينية للانضمام إلى هذه العملة. ولا تأتي هذه العملة الجديدة كبديل للعملات الوطنية للدولتين -الريال البرازيلي والبيزو الأرجنتيني– وإنما تأتي في إطار دعم التجارة الإقليمية وتقليل الآثار السلبية الناجمة عن الاعتماد الكلي على الدولار. وقد لقيت تلك الدعوة ترحيبًا كبيرًا من قبل دول أمريكا اللاتينية، بل امتد الترحيب ليشمل دول الكاريبي أيضًا التي وافقت بالفعل على إطلاق عملة موحدة وهو ما ظهر في قمة “سيلاك” في يناير الماضي.
تحركات على مستوى العلاقات الثنائية بين الدول
على جانب آخر، هناك تحركات من عدة دول لاستخدام العملات المحلية لها في التجارة البينية، وتحتل التحركات الصينية الصدارة؛ انطلاقًا من كونها ثاني أقوى اقتصاد في العالم والمنافس الأول للولايات المتحدة الأمريكية، فضلًا عن اعتقاد بكين أن بوابتها لتصدر المشهد العالمي بات معتمدًا على الجانب الاقتصادي في المقام الأول، نظرًا لأنه سيحقق لها بطبيعة الحال النفوذ السياسي على الساحة الدولية، وكثفت جهودها لزيادة أعداد الدول التي تستخدم اليوان الصيني في التجارة البينية.
وهنا سعت الصين إلى تعزيز حضور اليوان كعملة للتبادل التجاري مع كثير من دول العالم، ومن أهم تلك الدول روسيا خاصة بعد نشوب الحرب الروسية الأوكرانية؛ فالصين وروسيا تجمعهما دائرة من المصالح المشتركة خاصة فيما يتعلق بالاتفاق على أهمية تقليل هيمنة الدولار على اقتصادهما بشكل خاص والاقتصاد العالمي بشكل عام، خاصة أن هذا يخدم بشكل مباشر أهدافهما في خلق نظام عالمي جديد يترك مساحة للاعبين دوليين مختلفين للعب دور على الساحة الدولية بدلًا من الأحادية القطبية للولايات المتحدة الأمريكية.
كذلك تتلاقى هذه الخطوات مع الاستراتيجية الروسية لتقليل آثار العقوبات الاقتصادية الغربية عليها. وقد ترجمت هذه التوجهات في مجموعة من الخطوات التي اتُخذت على أرض الواقع، مثل إعلان مجموعة شركات غاز بروم الروسية في سبتمبر 2022 أن الصين ستقوم بتسديد ثمن شحنات الغاز الروسي باليوان والروبل بدلًا من الدولار، مما يسهم في تعزيز قيمة العملتين والحد من الاعتماد على الدولار الأمريكي.
وكذلك عقدت الصين والبرازيل (أكبر اقتصاد في أمريكا اللاتينية) اتفاقية في مارس الماضي، تقضي بالتعامل بالعملة المحلية للدولتين في التجارة البينية بينهما والتخلي عن الدولار؛ بهدف تعزيز التجارة وتسهيل الاستثمار وخفض الضغط على الاقتصاد الوطني في ظل الأزمة الحالية. وجاء هذا الاتفاق خلال منتدى أعمال صيني – برازيلي رفيع المستوى عُقد في بكين بين الجانبين.
وكذلك تخلت الصين عن التعامل بالدولار أيضًا مع باكستان وعدة دول أخرى. ولكن على الرغم من الجهود التي تبذلها الصين لدمج عملتها بصورة أكبر في التجارة العالمية، يظل من الصعب صعود اليوان الصيني حتى يتم ربطه بأسواق النفط العالمية.
ولم تكن المملكة العربية السعودية التي تعد أكبر دولة مصدرة للنفط في العالم بمنأى عن تلك التحركات؛ إذ أعلن وزير المالية السعودي محمد الجدعان في مقابلة مع “بلومبرج” في يناير الماضي أن الرياض منفتحة على المناقشات بشأن التجارة، عبر استخدام عملات بخلاف الدولار الأمريكي عندما صرح: “لا أعتقد أننا نتجاهل أو نستبعد أي نقاش من شأنه أن يساعد في تحسين التجارة في جميع أنحاء العالم“. وأضاف الجدعان “لا توجد مشاكل في مناقشة كيفية تسوية اتفاقاتنا التجارية سواء كانت بالدولار الأمريكي أو اليورو أو الريال السعودي”.
تهديدات للدولار وتراجع نسبته في احتياطي العملات الأجنبية
سيطرت العملة الأمريكية على الاقتصاد بعدما اتخذت الولايات المتحدة بعض السياسات على الصعيد العالمي، أهمها اتفاقية “بريتون وودز” عام 1944 التي من خلالها أصبح الدولار الأمريكي عملة دولية مرتبطة بالذهب. وفي عام 1971، ألغى الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون ارتباط الدولار بالذهب، لتأتي قيمة الدولار منذ ذلك التاريخ من نسبة “الثقة” في أمريكا، حيث اعتبر نيكسون الدولار أقوى عملة في العالم لكونه عملة أقوى دولة في العالم.
من هنا أصبح الدولار مثله مثل أي سلعة أخرى يستمد قيمته من حجم الطلب عليه ومن الثقة في الاقتصاد الأمريكي. وقد عكست التحركات الدولية الأخيرة تراجعًا واضحًا في الثقة في الولايات المتحدة، لا سيما في ظل استخدامها للدولار كأداة للحرب بعد الحرب الروسية الأوكرانية. ففي حال نجحت السياسات المذكورة أعلاه بأخذ تحركات جادة على الأرض في إحداث تراجع الطلب الدولي على الدولار، فقد نرى الدولار يفقد جزءًا من قوته وتتراجع قيمته في سوق العملات العالمي، مما يعني إحداث تغيير في النظام المالي الدولي القائم منذ الحرب العالمية الثانية.
أما عن نصيب الدولار من احتياطي العملات الأجنبية اليوم، فقد أظهر المسح الذي أجراه صندوق النقد الدولي عن تكوين احتياطيات العملات الأجنبية الرسمية (COFER) في 2021، تراجع نصيب الأصول المقومة بالدولار الأمريكي من احتياطيات البنوك المركزية بنسبة 12 نقطة مئوية من 71% إلى 59% في ذلك التاريخ. وفي تقرير أحدث للصندوق، أظهر مزيدًا من التراجع لنصيب الدولار من احتياطي العملات الأجنبية عام 2022 ليصل إلى 58.4%، وهو مستوى للهبوط لم يشهده الدولار في الـ 25 عامًا الماضية.
وبالنظر في الماضي، نجد أنه كانت هناك محاولات من بعض الدول التي سعت إلى التقليل من الاعتماد التام على العملة الخضراء. ولكن أهم ما يفسر فشل تلك المحاولات هو الظروف السياسية المحيطة بها خصوصًا في ظل وجود قطب أوحد على الساحة الدولية.
ومع تغيير خريطة العالم السياسية بشكل كبير عن القرن الماضي بالتزامن مع صعود أقطاب أخرى على الساحة الدولية، وبالإضافة إلى تصدر محددات جديدة المشهد العالمي من أهمها مساعي بكين وموسكو بالتعاون مع دول أخرى في مواجهة الهيمنة الأمريكية، يمكن القول إن التقليل التدريجي لهيمنة الدولار على الاقتصاد العالمي لم يعد أمرًا مستحيلًا، بعدما تأثر الاقتصاد العالمي بتبعات السياسات التي يتبعها الفيدرالي الأمريكي وما أجرته الولايات المتحدة من “عسكرة” للدولار في صراعها مع روسيا، مما أثار مخاوف بعض الدول من إمكانية استخدام الولايات المتحدة نفس الأداة ضدهم حال نشوب خلاف بينهم وبين واشنطن. كل هذه العوامل خلقت اتفاقًا ضمنيًا في تحركات الدول على ضرورة الخروج من هذه الحلقة المغلقة.
خلاصة القول، لا يستطيع أحد إنكار القوة والأهمية التي يتمتع بها الدولار حاليًا، إلا أن هذا الأمر ليس ضمانًا لعدم وجود تغييرات لهذا الوضع في المستقبل. وعندما ننظر لأي تغيير جوهري في النظام العالمي سنجد أنه قلّما يحدث بشكل مفاجئ وإنما يحدث تدريجيًا. ومع تحليل التحركات المختلفة للقوى الكبرى والقوى الصاعدة في العالم خصوصًا بعد اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، نجد الكثير من الشواهد التي تشير إلى أنه قد تكون هناك نهاية للوضع الحالي مع ظهور بوادر لنظام مالي عالمي متعدد الأقطاب.
ولكن هذا بالتأكيد لا يعني أن الدولار سيختفي من التعاملات المالية الدولية؛ وذلك نظرًا إلى عدم توفر بديل يتمتع بما تحظى به العملة الأمريكية من حجم تعاملات وسيولة وسهولة التداول بها في الأسواق المالية. فلا توجد عملة لديها القدرة على حل محل الدولار الأمريكي بشكل كامل الآن.
ولذلك مازلنا نتحدث عن “كسر” الهيمنة وليس “إنهاؤها”، وهذا يعني أننا قد نشهد تراجعًا في قوة العملة الخضراء مع ظهور مجموعة مختلفة من العملات، ليصبح لدينا نظام مالي أكثر تعددية يشمل اليورو واليوان وغيرها إلى جانب الدولار الأمريكي. وسواء حدث ذلك على المدى المتوسط أو البعيد فيجب على الدول -خصوصًا الدول النامية- أن تعمل جاهدة حتى لا تسحق اقتصاداتها في معركة التنافس بين القوى العظمى، التي حين تنتهي سنكون قد وصلنا إلى عالم جديد يختلف كثيرًا عن ذلك العالم الذي كان يوجد قبل بداية الحرب.
وعلى الرغم من أن المشهد الحالي، يعكس أن الحرب الاقتصادية هي أحد أهم أبعاد الصراع بين القوى العظمى من أجل حسم مكانة كل منها في النظام العالمي الجديد، فإن القضية تختلف كثيرًا من منظور الدول النامية، إذ أصبح كسر هيمنة الدولار الأمريكي على اقتصاداتها ضرورة لإنقاذ الاقتصاد الوطني والمصلحة القومية لها، وحماية حقوق الإنسان الاجتماعية للمجتمعات التي باتت تعاني من التضخم والمشاكل الاقتصادية بسبب تداعيات الحرب.
.
رابط المصدر: