انقضى عام على توقيع اتفاق وقف دائم للأعمال العدائية الذي تم إبرامه في نوفمبر 2022 في بريتوريا عاصمة جنوب أفريقيا بين الحكومة الفيدرالية الإثيوبية والجبهة الشعبية لتحرير التيجراي، وهو ما أسفر عن إنهاء صراع مسلح استمر لأكثر من عامين، والجدير بالذكر أن الاتفاق لم يتم توقيعه من جانب أطراف الصراع فحسب، بل وأيضًا من جانب لجان وسطاء تتبع الاتحاد الأفريقي والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، باعتبارها الجهات الضامنة. وقد تضمن اتفاق السلام أحكامًا تتعلق باستعادة القانون والنظام، واستعادة الخدمات الأساسية، فضلًا عن الوصول دون عوائق إلى الإمدادات الإنسانية.
ومن هذا المنطلق، تطرح هذه الورقة البحثية تساؤل رئيس مفاداه هل حقق اتفاق بريتوريا الاستقرار في إثيوبيا؟ وتحاول تقييم مدى التقدم الذي تم إحرازه في تطبيق بنود اتفاق بريتوريا للسلام للإجابة عن هذا التساؤل.
أبرز نقاط اتفاق بريتوريا للسلام
في البداية، يمكن استعراض ورصد أبرز ما تضمنه فحوى اتفاق بريتوريا للسلام، وذلك على النحو التالي:
- إجراءات بناء الثقة بين طرفي الصراع: وذلك من خلال اتخاذ مجموعة من الإجراءات من جانب الحكومة الفيدرالية الإثيوبية وجبهة تحرير التيجراى. ويمكن توضيح ذلك حيث وافقت الحكومة الإثيوبية على وقف جميع العمليات العسكرية ضد مقاتلي الجبهة الشعبية لتحرير التيجراي، وتوفير وصول المساعدات الإنسانية واستعادة الخدمات الأساسية والضرورية إلى إقليم التيجراي في أسرع وقت ممكن، وإلغاء تصنيف الجبهة كمجموعة إرهابية، ونبذ العنف كوسيلة لحل الخلافات السياسية، وضمان تسوية دائمة للصراع، وتوفير إطار عمل لمعالجة المسائل الناشئة عن الصراع، وتعزيز المصالحة وإعادة تأهيل الروابط الاجتماعية، وإعادة الإعمار. وعلى صعيد جبهة تحرير التيجراي، فقد وافقت على تدابير الثقة التي تتمحور حول احترام التفويض الدستوري للحكومة الاتحادية بإرسال قوات الأمن إلى إقليم التيجراي، وكذلك احترام السيادة الإثيوبية وعدم تقويضها سواء بمفردها أو من خلال العلاقات مع القوى الأجنبية، والامتناع عن مساعدة وتحريض أو دعم أو التعاون مع أي جماعة مسلحة أو تخريبية في أي جزء من البلاد. وبموجب الاتفاق ستتولى الحكومة الفيدرالية الإثيوبية إدارة إقليم التيجراي، بما في ذلك في العاصمة ميكيلي، وأن قوة الدفاع الوطني الإثيوبية وغيرها من المؤسسات الفيدرالية ذات الصلة يجب أن يتاح لها دخول المدينة بطريقة سلسة. وفي المقابل، ضمنت الحكومة الإثيوبية أن يجري تمثيل شعب التيجراي بشكل صحيح في المؤسسات الحكومية.
- نزع السلاح والتسريح وإعادة الإدماج: نص الاتفاق على الاعتراف بوجود جيش وطني واحد لجمهورية إثيوبيا الفيدرالية. كما اتفق الطرفان على تصميم وتنفيذ برنامج وطني لنزع السلاح والتسريح وإعادة الاندماج لمقاتلي الجبهة الشعبية لتحرير التيجراي بالتوافق مع الدستور الإثيوبي. علاوة على ذلك، تلتزم الجبهة الشعبية لتحرير التيجراي بنزع السلاح الكامل في غضون 30 يومًا، على أن تكون البداية بالأسلحة الثقيلة ثم يتبعها الأسلحة الخفيفة، كجزء من عملية نزع السلاح والتسريح وإعادة الإدماج.
المشهد الإثيوبي الراهن بعد عام من توقيع اتفاق السلام
في هذا الجزء، نحاول الإجابة عن تساؤل يتعلق بما الذي تم تطبيقه على أرض الواقع، وهل ألتزم طرفي الصراع بالتعهدات الواردة في اتفاق السلام الذي تم توقيعه في نوفمبر 2022. وسيتم الإجابة عن هذا التساؤل بشكل موضوعي من خلال استعراض المؤشرات الإيجابية المتعلقة بالإنجازات التي تحققت، وكذلك توضيح التحديات التي تواجه تفعيل بنود الاتفاق، وذلك على النحو التالي:
أولًا: المؤشرات الإيجابية
- تعزيز الدبلوماسية الإثيوبية: لا شك في أن اتفاق بريتوريا نجح في تحقيق أهدافه المباشرة والتي تتمثل في إنهاء الحرب التي استمرت عامين، وأدت إلى مقتل مئات الآلاف وأجبرت الملايين على الفرار من منازلهم. وبموجب توقيع اتفاق السلام تمكنت الحكومة الإثيوبية من تحسين علاقاتها مع المجتمع الدولي، وهو ما اتضح جليًا في انضمامها لتكتل البريكس في أغسطس 2023.
- العمل على تحسين العلاقات بين الحكومة الفيدرالية وإقليم التيجراي: فقد قام مجلس نواب الشعب الاتحادي بإلغاء تصنيف جبهة تحرير التيجراي الشعبية كمنظمة إرهابية وأسقط جميع التهم الموجهة إلى قادتها وإطلاق سراح سجنائها. كما نجد أنه وفقًا للاتحاد الأفريقي، سلمت الجبهة الشعبية لتحرير تيجراي بالفعل الأسلحة الثقيلة، وأعادت الحكومة الإثيوبية الخدمات الأساسية إلى إقليم التيجراي.
- استئناف الخدمات في إقليم التيجراى وتسليم المساعدات الإنسانية: استؤنفت الخدمات بما في ذلك الخدمات المصرفية والاتصالات والكهرباء والصحة والمدخلات الزراعية والنقل من وإلى ميكيلي عاصمة إقليم التيجراى، كما تم تسليم المساعدات الإنسانية بعد توقيع اتفاق السلام في نوفمبر 2022، والجدير بالذكر أن هناك تحديات تواجه استئناف المساعدات إلى إقليم التيجراي بعد اتفاق السلام في نوفمبر 2022، حيث أوقف برنامج الأغذية العالمي والوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID) تقديم المساعدة الإنسانية في مايو 2023 بسبب تقارير تزعم بأن المساعدات الإنسانية لا تصل للمحتاجين إليها في منطقة ما بعد الصراع في إقليم التيجراى، ولكن في أغسطس 2023 ، أعلن برنامج الأغذية العالمي استئناف تقديم المساعدات الغذائية إلى الإقليم، كما أعلنت الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية في 15 نوفمبر 2023عن خططها لاستئناف المساعدات الغذائية الحيوية في إثيوبيا في غضون شهر. وحتى قبل تعليق المساعدات، لم تكن كمية المساعدات المقدمة كافية، وهو ما يعرض العديد من المواطنين في إقليم التيجراى للموت بسبب الجوع وليس بسبب الصراع المسلح.
ثانيًا: مؤشرات متراجعة
- عدم استعادة الأراضي المتنازع عليها: عندما اندلعت الحرب بين جبهة تحرير التيجراي والحكومة الفيدرالية في نوفمبر 2020، قامت قوة شبه العسكرية في منطقة أمهرة تسمى “فانو” بضم غرب التيجراي، ويتم حكمها حاليًا كمنطقة جديدة في منطقة أمهرة، كما استولت هذه القوات على أجزاء من جنوب التيجراي، وهي منطقة أخرى متنازع عليها، والتي لا تزال الأمهرة تسيطر عليها. وبموجب اتفاق السلام، تعهدت الحكومة الفيدرالية الإثيوبية بمعالجة النزاعات المتعلقة بـ “المناطق المتنازع عليها” بما يتماشى مع المبادئ الدستورية المنصوص عليها في الدستور الفيدرالي لإثيوبيا. ويستلزم هذا الالتزام إعادة أراضي إقليم التيجراي إلى وضعها قبل حرب نوفمبر 2020. ومن المُلاحظ أنه، قد مر عام تقريبًا منذ توقيع الاتفاقية، وخلال هذا الوقت، لم تظهر الحكومة الإثيوبية التزامًا كبيرًا باستعادة أراضي تيجراي وإدارتها، واكتفت بإصدار تصريح بأن مصير المناطق “المتنازع عليها” سيتم تحديده من خلال الاستفتاء، ونجد أن هناك تخوفًا من جانب سكان إقليم التيجراي لعدم إمكانية إجراء استفتاء عادل، لأن الملايين من شعب الإقليم قد نزحوا وغير قادرين على العودة.
- عدم انسحاب القوات الإريترية: هناك تجاهلًا واضحًا لبنود جوهرية في الاتفاق، فعلى الرغم من مرور عام على التوقيع فإن القوات الإريترية التي تحالفت مع الحكومة الإثيوبية في الحرب لم تنسحب من إقليم التيجراي، مما يصعب إمكانية عودة النازحين إلى مناطقهم، ولا تزال المناطق الغربية في إقليم تيجراي تخضع لسيطرة القوات الإريترية، التي لا ما زالت تتعامل مع هذه المناطق المتنازع عليها باعتبارها “غنيمة حرب” خصوصًا أنها تشكل الممر البري الوحيد لإقليم التيجراي نحو العالم الخارجي، ومن ثم خنق الإقليم وحرمانه من صلاته بالحدود الدولية، بغرض قطع الطريق على أي إمدادات عسكرية واقتصادية. كما أن هناك اتهامات موجهة للقوات الإريترية المتحالفة مع الحكومة الإثيوبية بارتكاب “جرائم حرب” في منطقة التيجراي قبل أيام وبعد توقيع اتفاق السلام، وقد جاء ذلك في تقرير أصدرته منظمة العفو الدولية بتاريخ 4 سبتمبر 2023، الذي أشار إلى استمرار الانتهاكات ضد المدنيين في إقليم التيجراي، حيث قام الجنود الإريتريون بارتكاب انتهاكات حيال النساء، كما تم إعدام الرجال المدنيين.
- تباطؤ وتيرة تنفيذ برنامج نزع السلاح والتسريح وإعادة الإدماج: فيما يتعلق بنزع السلاح والتسريح وإعادة الإدماج، فقد نص اتفاق بريتوريا على نزع السلاح الشامل لقوات التيجراي في غضون 30 يومًا، ولكن نجد أن اجتماع المتابعة لكبار القادة في السابع من نوفمبر 2022 في العاصمة الكينية قدم خطة أكثر وضوحًا. وعلى المستوى الفيدرالي، تم إنشاء اللجنة الوطنية لإعادة التأهيل في ديسمبر 2022 للإشراف على تسريح وإعادة تأهيل المقاتلين السابقين. وحتى الآن، سجلت اللجنة 371.971 مقاتلًا سابقًا من ثماني ولايات إقليمية، حوالي 70% منهم ينحدرون من إقليم التيجراي. ونجد أن اللجنة الوطنية قد أعلنت أن هناك تأخيرًا في تنفيذ أنشطة التسريح، بسبب عدم كفاية الموارد الكبيرة المطلوبة لبرنامج نزع السلاح والتسريح وإعادة الإدماج لتحقيق النجاح الفعال، وهو ما يعنى أن فعالية الحكومة الفيدرالية في هذا الصدد قد تتعرض للتراجع بسبب النقص المحتمل في الدعم المالي من الأطراف الدولية التي تعهدت بالمساعدة خلال المفاوضات. وتُقدر اللجنة ميزانية قدرها 800 مليون دولار للبرنامج، حيث يأتي 85% من التمويل من منظمات دولية مثل البنك الدولي، في حين تغطي الحكومة الفيدرالية الجزء المتبقي.
وفي الختام، يمكن القول إن اتفاق السلام قد حقق استقرار هش، صحيح أن الاتفاق الذي تم توقيعه في نوفمبر 2022 قد نجح في إسكات البنادق بين الحكومة الإثيوبية وجبهة تحرير التيجراي، ولكن لم يتم تنفيذ البنود الجوهرية التي تضمنها الاتفاق على الرغم من مرور عام، والمتعلقة بإجبار القوات الأجنبية (مسلحي الأمهرة والجنود الإريتريين) على الانسحاب من إقليم التيجراي، وضرورة ضمان عودة النازحين إلى ديارهم التي شردوا عنها بسبب الحرب.
المصدر : https://marsad.ecss.com.eg/79912/