هل خدمت جبهات الإسناد إسرائيل ؟

استعير مصطلح «جبهات الإسناد»، مما أطلقته المجموعات المسلحة التى تداخلت فى الحرب الإسرائيلية على غزة على نفسها، رغم المبالغة الكبيرة من جانبها فى توصيف مشاركتها المسلحة باعتباره فتحا لـ«جبهات» ضد إسرائيل. وهنا نتحدث بعد عام كامل من عمر الحرب، وهى مدة كافية تصلح لإجراء تقييم لعديد من فصولها ومآلاتها، ويبدو منطقيا النظر فى هذا المسار، خاصة بعد أن شرعت إسرائيل فى إعلان حرب مفتوحة، ضد لبنان. ليس من المفارقة أن تستخدم إسرائيل، صيغة المبالغة فى توصيف هذه المشاركات بل بدا الأمر منطقيا، باعتبار رئيس الوزراء بنيامين نيتانياهو كان فى أشد الاحتياج لأن يخرج للعالم، كى يعلن أن إسرائيل تخوض فى الإقليم حربا على ست جبهات.

احتياج إسرائيل لهذا النوع من المبالغة، مفهوم ولديها عشرات الأهداف تريد تحقيقها من طرح الأمر على هذا النحو، بالمناسبة ليس ضمنها تصوير الدولة الإسرائيلية باعتبارها ضحية تواجه أخطارا داهمة، فقد استخدم هذا فى فصول مبكرة من الحرب واستنفد أغراضه. ويستبدله الآن بخطاب مغاير يمثل أهمية أكبر ويفرضه الواقع السياسى والميدانى. لذلك قرن نيتانياهو الترويج لمواجهة إسرائيل ست جبهات، بإعلان القدرة على الانتصار فى هذه الجبهات مجتمعة، بل وهى فى طريق تحقيق هذا النصر تضع أمام دول العالم المعنية أن لدى إسرائيل تصورها الخاص، لصياغة ترتيب أمنى جديد شامل لمنظومة الأمن الإقليمى الذى تقع فى القلب منه. لا يمثل هذا سقوطا إسرائيليا فى فخ المبالغة، ولم يأت كعرض جانبى لحالة النشوة التى أصابت القيادات الإسرائيلية، بعد نجاحها فى بعض العمليات النوعية المؤثرة داخل لبنان، إنما هو فصل جديد عملت عليه إسرائيل، بعد تقييمها للوضع الذى كانت عليه عشية اعتزامها الانتقال إلى هذا الفصل الجديد، الذى يبدو فى حقيقته انحيازا لإحدى التوصيات التى عادة ما تشملها «تقديرات الموقف»، التى يجرى إعدادها فى مراكز التفكير الاستراتيجى طوال الوقت.

إسرائيل لا تتحرك بعشوائية، وهى أبعد ما تكون عن ذلك حتى وهى تواجه خطرا وجوديا بحجم الحرب الأخيرة على غزة، تفاعلات وتداعيات هذه الحرب فى شهورها الأولى وحتى نقطة المنتصف منها تقريبا، رسمت مشهدا بالغ الكآبة والخطورة على إسرائيل الدولة، ووضعتها أمام عديد من الأسئلة الاستراتيجية الخانقة التى خرجت من حلفائها قبل أعدائها. عشرات المقالات التى كتبت فى الصحافة الأمريكية بدأت تتساءل عن خطورة المشروع، وجدواه فى خدمة المصالح الأمريكية، فى الوقت الذى كانت تظاهرات جامعاتها تدخل منحنى أخطر فى مناقشة «أخلاقية» دعم هذا الحليف المنفلت. على الضفة الأخرى مثل تسارع انقلاب الموقف الأوروبى الموحد، من تعاطيه مع الحرب على غزة، ووصل إلى اعلان دول رئيسية بالاتحاد الأوروبى اعتزامها الاعتراف الفورى بالدولة الفلسطينية، فضلا عن التمرير الاستثنائى لمثول قادة إسرائيل إلى المحاكمة الدولية بتهمة «الإبادة الجماعية». هناك الكثير من مكونات المشهد الذى نسج على مدى أشهر الحرب، انما يظل ما سبق أشهر وأعمق نماذجه فى مدلولاته وفى جغرافيته التى تقع فى قلب المجال الحيوى، الذى يدعم مشروع دولة إسرائيل ولا يزال بالطبع.

هذا النسيج الكئيب الذى أحاط بإسرائيل، يمكن إضافة له جهود الوساطة التى انخرط فيها الثلاثى الأمريكى والمصرى والقطرى، من أجل الوصول إلى تسوية تحمل قرارا بوقف الحرب واجراء صفقة لتبادل الأسرى والمحتجزين، وإن مثلت فى حقيقتها محاولة حصار وإدارة الانفلات الإسرائيلي. وأيضا تغذية الوضع الداخلى الإسرائيلى الذى شهد انقساما وتحللا لم تواجههما الدولة على مدى تاريخها، وهى مكون بالغ الأهمية فى هذا النسيج المشار إليه. الدولة الإسرائيلية حملت تلك المكونات الخانقة، ووضعتها أمام مراكز ومجموعات التفكير كى ينتجوا لها مخارج متصورة، عشية إرغامها على التوقيع وموافقتها على المشروع الأمريكى للتسوية الذى انتقل إلى مرحلة خطيرة، باعتماده بقرار دولى من مجلس الأمن الذى كان يهم دوله الرئيسية حينها، التحرر والتخفف من العبء الأخلاقى الذى كان يطاردها، فوضعت موافقتها على المشروع أيا ما كان فيه طالما سيوقف آلة الحرب. حدد القادة الإسرائيليون هدفهم بدقة فى تلك المرحلة، فهم يحتاجون بشدة إلى تحطيم هذا النسيج، كليا وليس بصورة جزئية، فقد حددت تقديرات الموقف الخطورة الداهمة فى استحكام ترابط مكونات هذا النسيج.

الذى استشعره نيتانياهو كخطر حقيقي؛ وشاركه القادة الكبار للدولة وليس شرطا من أعضاء الحكومة المصغرة، أن «التراكم» لهذه المكونات التى بدأت تضيق حلقاتها لحد استشعار الهزيمة الكاملة، فى حال اضطرت إسرائيل للتوقيع على اتفاق الهدنة وقد وصلت بعض الجولات إلى مشارف خطوة من هذا النوع. كسر هذا التراكم صار يمثل هدفا إسرائيليا رئيسيا للخروج من المأزق المكتمل، إلى فضاء جديد كليا بما يمثله من رحابة حركة على مسارات مغايرة، ويستدعى بالضرورة خطابا مختلفا، وقضايا واشكاليات تفك ارتباط ما هو قادم عن حصاد العام الماضى الذى لم يشكل رصيدا مريحا بالمرة، بل سيحمل ضررا بالغا فى حال استخدامه مستقبلا بأى صورة.

الملف المفتوح جزئيا، والذى يوفر لإسرائيل انتقالا منطقيا ولا يمثل تغييرا دراماتيكيا لا يحتمله مجمل المشهد بأى حال، هو الصراع مع إيران وأذرعها ومواجهة تدخلها فى الصراع باعتباره استكمالا لما بدأته آلة الحرب الإسرائيلية. لذلك جاء قرار استخدام القدرات الاستخباراتية من أجل اقتحام هذا الملف واستدعائه، ليصبح فى الصدارة لصالح تنحية الاهتمام بزاوية الرؤية الفلسطينية، ونجحت القدرة الاستخباراتية المعززة فى ضمان هذا الانتقال السلس، الذى بدا تلقائيا عبر مجموعة من الخطوات المثيرة التى بدأت باغتيال قائد حركة حماس فى قلب طهران، وامتدت لتصل إلى حرب كاملة فى مسرح جديد تماما يحظى بنسبة أعلى من المشاهدة. ويظل الأهم فيما تحقق على المستوى الإسرائيلى، أنه يضمن لها دخول الفصل الجديد من الحرب بدرجة أعلى من التماسك والصلابة، للمشروع وللمستقبل لم تحظ بهما طوال أشهر الحرب على غزة.

 

المصدر

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M