آنا بورشفسكايا
يبدو أن بعض صنّاع السياسات في الغرب يعتقدون أنه بإمكان روسيا المساعدة في مسألة إيران بالرغم من تهديدها بمهاجمة أوكرانيا، ولكنهم يفتقدون الصورة الأكبر.
لطالما لعبت روسيا دوراً رئيسياً في المفاوضات النووية المتعددة الأطراف مع إيران، غير أن تصعيدها الأخير في أوكرانيا يلقي بظلالٍ قاتمة بشكل خاص على المحادثات الحالية في فيينا، والتي تهدف إلى إعادة تفعيل «خطة العمل الشاملة المشتركة» لعام 2015 التي أصبحت مهددة بالانهيار. وربما وصلت العلاقات الروسية مع الغرب إلى أخطر نقطة تحوّل لها منذ سقوط الاتحاد السوفيتي بسبب عدة عوامل من بينها تهديد الحرب المفتوحة مع كييف، والقمع المستمر في كازاخستان، والتدخلات المتنوعة في الشرق الأوسط. فما الذي يعنيه ذلك بالنسبة لمقاربة الرئيس فلاديمير بوتين من المحادثات الإيرانية؟
استراتيجية روسيا تجاه إيران
يتطلب فهم ذهنية بوتين الحالية إلقاء نظرة ثاقبة على مقاربته السابقة لبرنامج إيران النووي والمساعي الدبلوماسية ذات الصلة. ولطالما فضّلت موسكو أن لا تمتلك إيران أسلحة نووية، ولكن هذا لا يعني بالضرورة أنها تشارك الغرب أهدافه أو أساليبه أو خطوطه الحمراء بشأن هذه القضية. فقد أيّد الكرملين العقوبات المفروضة على طهران وعمل في الوقت نفسه على تخفيفها، مدعياً أن المخاوف الغربية مبالغ فيها وتضر بجهوده الرامية إلى توسيع التجارة الثنائية مع الجمهورية الإسلامية. وقد استخدمت روسيا أيضاً دعمها للعقوبات كوسيلة لانتزاع تنازلات من الغرب.
وبالفعل، مع تباطؤ المفاوضات وتراجعها على مر السنين، خلص العديد من المحللين الروس سراً إلى أن بوتين قادر على التعايش مع دولة إيرانية نووية إذا لزم الأمر – وكان مصدر قلقه الأكبر هو احتمال أن تصبح إيران موالية للغرب. وكما ذكرت صحيفة “نيويورك تايمز” مؤخراً، فإن هذا المفهوم مدعوماً بتسجيل صوتي مسرّب لوزير الخارجية الإيراني السابق محمد جواد ظريف يعترف فيه بأن نظراءه الروس في المفاوضات السابقة لم يريدوا نجاح الاتفاق النووي “لأنه لم يكن من مصلحة موسكو أن تطبّع إيران علاقاتها مع الغرب”. وفي حين أن المسألة محل نقاش فيما إذا كان هذا القلق مبرراً في حالة «خطة العمل الشاملة المشتركة» الضيقة التركيز، إلا أن ما كشف عنه ظريف يسلط الضوء على الأولويات الرئيسية لموسكو.
قبل القرم وبعده
من الأفضل النظر إلى القرارات التي يتخذها بوتين بشأن سياساته تجاه أوكرانيا وإيران، حتى عند تزامنها، على أنها أوجه من استراتيجية عامة معادية للغرب وليست إجراءات مترابطة بشكل مباشر. لذلك، يجدر بواشنطن أن تكون حذرة بشأن الأهمية التي تضعها لضمانات موسكو على كلتا الجبهتين ما لم تكن مصحوبة بمؤشرات ملموسة على تحولات أعمق في سياسات روسيا.
وتتضح هذه الضرورة عند النظر إلى الدور التقني والدبلوماسي السابق الذي لعبته روسيا في برنامج إيران النووي. فبحلول أيلول/سبتمبر 2013، كانت موسكو قد وضعت محطة بوشهر للطاقة النووية تحت السيطرة الرسمية لطهران، علماً بأن شركة “أتومسترويكسبورت” الروسية المملوكة للدولة هي التي بنت هذه المحطة وتولّت تشغيلها سابقاً. وبعد شهرين، وقّعت روسيا والولايات المتحدة وأعضاء آخرون في “مجموعة 5 + 1” اتفاقية نووية مؤقتة مع إيران.
وبعد ذلك بوقت قصير، ضمّت موسكو شبه جزيرة القرم بشكل غير قانوني خلال شهر آذار/مارس 2014 وبدأت في دعم الانفصاليين في شرق أوكرانيا. وأطلق هذا القرار شرارة صراع مجمّد لا يزال قائماً حتى يومنا هذا، كما رفع سقف المواجهة بين روسيا والغرب إلى مستوى جديد. وفي الوقت نفسه، ارتقى بوتين بعلاقاته مع إيران إلى مستويات غير مسبوقة بسبب الحرب في سوريا والصراع الجيوسياسي الأوسع الذي أنذرت به، وتدخّل بشكل مباشر في الصراع عام 2015.
يضاف إلى ذلك أنّ تعامل روسيا مع صفقة بيع صواريخ “أس-300” إلى إيران يبيّن كيف يعمل بوتين غالباً ضد أهداف الولايات المتحدة بالرغم من مشاركته في المساعي الدبلوماسية التي قادتها واشنطن – وبالتالي كيف أن التعامل بحسن نية مع موسكو قد يكون ضرباً من السذاجة. فعندما تم الاتفاق في البدايةً على صفقة البيع عام 2007، كانت الشركة الروسية المسؤولة عنها “روسو بورون إكسبورت” تخضع آنذاك لعقوبات أمريكية تم تجديدها في عام 2008. وفي حزيران/يونيو 2010، أقرّت الأمم المتحدة حظر أسلحة أكثر صرامةً على إيران، وعلّق بوتين في وقت لاحق من ذلك العام التسليم الفعلي لمنظومة الدفاع الجوي تحت وطأة الضغوط الأمريكية والإسرائيلية. ومع ذلك، نظراً لرغبة إدارة أوباما في ضمان تعاون روسيا في المفاوضات النووية لـ “مجموعة الخمسة زائد واحد”، لم تجدّد الولايات المتحدة العقوبات ضد شركة “روسو بورون إكسبورت”. وحالما تمت الموافقة على إطار «خطة العمل الشاملة المشتركة» في نيسان/أبريل 2015، أعلنت موسكو أن حظر الأسلحة على إيران لم يعد ضرورياً واستأنفت بيع صواريخ “أس- 300” بشكل جدي.
ويمكن النظر إلى هذا الأمر بطريقة مختلفة: فقد توصّلت حسابات الكرملين في وقت مبكر إلى أن بعض التعاون في المحادثات النووية الإيرانية يصبّ في مصلحته بغض النظر عمّا إذا كان هذا التعاون قد يخفف الضغط الدولي الناجم عن أزمة القرم المتزامنة مع المحادثات. فمحادثات “مجموعة الخمسة زائد واحد” التي استمرت لسنوات طويلة رفعت مكانة موسكو كقوة عالمية لا يمكن بدونها اتخاذ قرارات دبلوماسية كبرى، مما عزز دورها كثقل موازن للغرب. كما أن «خطة العمل الشاملة المشتركة» سمحت لموسكو بتوسيع روابطها مع طهران وفي الوقت نفسه انتزاع التنازلات من واشنطن وأوروبا. وكما قال نائب وزير الخارجية الروسي سيرغي ريابكوف في ذلك الوقت، “هل كان الاتفاق ليبصر النور لو لم تشارك روسيا في هذه المحادثات؟ أعتقد أنه كان من الممكن إبرام اتفاق، لكن الشروط كانت ستكون أسوأ بكثير بالنسبة لروسيا”.
ما الذي اختلف الآن؟
أدانت روسيا جهاراً قرار الرئيس ترامب بالانسحاب من «خطة العمل الشاملة المشتركة» في عام 2018 ودعمت علناً المساعي الأوروبية اللاحقة لإنقاذها. ورسمياً، تدعم موسكو المحادثات الحالية أيضاً. ومع ذلك، ينبغي على صنّاع السياسات في الغرب أن يحرصوا على عدم إساءة فهم الدوافع وراء هذه القرارات.
أولاً، عندما أشار لافروف في أواخر كانون الأول/ديسمبر إلى أن الكرملين يعارض أي تغييرات على الاتفاق، كان يتحدث بلا شك جزئياً عن فكرة إدراج حظر أسلحة دائم ضد إيران. وقد فشل مجلس الأمن الدولي سابقاً في إصدار قرار بشأن مثل هذا الحظر بعد استخدام روسيا (والصين) حق النقض.
ثانياً، تريد موسكو أن تواصل تصوير نفسها على أنها وسيط عالمي رئيسي بغض النظر عمّا إذا آتت المحادثات ثمارها. ففي مقابلة مع مجلة “نيوزويك” الأمريكية الشهر الماضي، على سبيل المثال، دعا السفير الروسي أناتولي أنتونوف الولايات المتحدة وإيران إلى “إظهار أقصى قدر من المرونة في المفاوضات” والسعي إلى “الجمع بالشكل الأمثل بين المسؤوليات والمنافع لكلٍّ من المشاركين والمجتمع الدولي بأسره“.
ثالثاً، حتى مع مشاركة موسكو في محادثات تهدف إلى إعادة إيران إلى الامتثال لقيود نووية مهمة، فإنها تقلل مرة أخرى من شأن المخاوف الغربية بشأن نوايا طهران. ففي أواخر شهر كانون الأول/ديسمبر، على سبيل المثال، رفضت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا التأكيدات على أن إيران كانت تماطل في المفاوضات. وعلى النحو نفسه، دافعت عن طهران في شباط/فبراير 2021 بالقول إن رفض إيران الامتثال لـ «خطة العمل الشاملة المشتركة» لا يتعارض مع التزاماتها تجاه معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية – وهي فكرة سبق أن اعترضت عليها وزارة الخارجية الأمريكية بتفصيل كبير.
وفي الوقت نفسه، يبدو أن المعاملات التجارية والدفاعية الروسية مع إيران قد ارتفعت منذ انسحاب الولايات المتحدة من «خطة العمل الشاملة المشتركة». فوفقاً لصحيفة “طهران تايمز”، ارتفع إجمالي حجم التجارة الثنائية من 1,74 مليار دولار في عام 2018 إلى 2 مليار دولار في عام 2019. وفي آب/أغسطس الماضي، ذكرت وكالة الأنباء الروسية “تاس” أن التجارة نمت بنحو 40 في المائة خلال الأشهر الستة الأولى من عام 2021 مقارنةً بالفترة نفسها من عام 2020. وأحد التفسيرات المحتملة لذلك هو أن روسيا كانت أقل تأثراً من الشركاء التجاريين الآخرين بعد أن أعادت واشنطن فرض العقوبات – على سبيل المثال، تشكل الحبوب الغذائية الجزء الأكبر من المبيعات الروسية لإيران، ولا تنطبق العقوبات الأمريكية على مثل هذه السلع. فضلاً عن ذلك، يُقال إن موسكو تستعد لبيع 32 طائرة مقاتلة من نوع “سو-35” لإيران، مما سيعزز القوة الجوية لإيران بشكل كبير.
وهكذا، على الرغم من إعرابها عن الإدانة الشكلية لانسحاب واشنطن من «خطة العمل الشاملة المشتركة»، تجنبت روسيا إلى حدٍّ كبير العواقب السلبية المترتبة عن العقوبات – بحيث تمكّنت فعلياً من تشويه صورة القرار كمثال آخر على خطورة النزعة الأمريكية إلى التصرف من جانب واحد. وفي حين أن الانضمام إلى إطار «خطة العمل الشاملة المشتركة» عام 2015 منح موسكو مزايا قصيرة الأجل، فإن إحياء الاتفاق اليوم قد لا يجني بالضرورة المزيد من الفوائد. ومع ذلك، فإن الحفاظ على مشاركة روسيا في المناقشات طوال مدتها قد يساعد بوتين على الحفاظ على دوره كصاحب نفوذ عالمي.
ما هو دور العامل الأوكراني؟
تُعتبر التعزيزات العسكرية الروسية الحالية على الحدود الأوكرانية وغيرها من التحركات المزعزعة للاستقرار أكثر خطورةً من الاستفزازات السابقة، ويبدو أن روسيا تعمّدت رفع مطالب صعبة التحقيق إلى حلف “الناتو”. وبعد الانسحاب الفاشل لإدارة بايدن من أفغانستان وتعليق العقوبات المفروضة على مشروع خط أنابيب “نورد ستريم 2″، من المحتمل أن يشعر بجرأة أكبر من أي وقت مضى لإعادة التفاوض على شروط حل الاتحاد السوفيتي. وفي 30 كانون الأول/ديسمبر، حذّر بايدن من أن معاقبة روسيا بسبب تعزيزاتها العسكرية في أوكرانيا قد تؤدي إلى “انقطاع كامل للعلاقات” – وهو إنذار نهائي غير مسبوق وصفه المحلل المخضرم جون إراث بأنه “ابتزاز نووي”.
فما الذي يعنيه ذلك بالنسبة للمفاوضات مع إيران؟ أولاً، ستبقى موسكو ملتزمة بتحقيق مصالحها الخاصة بغض النظر عمّا تفضي إليه محادثات فيينا. فقد عمل بوتين بجدّ لسنوات لتقويض النظام العالمي الذي تقوده الولايات المتحدة، لذلك سيفعل كل ما في وسعه لتوجيه التطورات الأخيرة في هذا الاتجاه. ولم يكن تعاونه الأولي بشأن «خطة العمل الشاملة المشتركة» لصالح واشنطن أبداً، ولا ينبغي النظر من هذا المنطلق إلى أي سلوك روسي قد يبدو مساعداً في فيينا، بغض النظر عما يحدث في أوكرانيا.
ثانياً، نظراً لأن موسكو على ما يبدو ليس لديها الكثير لتكسبه من إحياء «خطة العمل الشاملة المشتركة»، فيمكنها الانتظار بينما تتظاهر باتخاذ الخطوات المطلوبة والمواقف الخادعة في المساعي الدبلوماسية تجاه إيران. في المقابل، لا يزال الغرب يعتبر أن إيران تشكل تهديداً هائلاً، لذلك يمكن لبوتين استغلال هذه الحقيقة كوسيلة ضغط في المسارح الأخرى، حتى أنه قد يلمح إلى أنه سيساعد أكثر مع طهران إذا تساهلت معه واشنطن بشأن أوكرانيا. وإذا حدث ذلك، فإن آخر ما يجب أن يفعله صنّاع السياسات هو تصديق كلامه.
من الناحية النظرية، يمكن أن تشير موسكو إلى تحوّل حقيقي في سياساتها من خلال اتخاذ خطوات ملموسة للحد من النفوذ الإيراني في سوريا، ووقف مبيعات الأسلحة إلى طهران و/أو انتقاد إيران بشأن القضية النووية. للأسف، ليس أي من هذه السيناريوهات واقعياً. فقد يميل صنّاع السياسات الغربيون إلى الاعتقاد بأن روسيا يمكن أن تساعد في موضوع إيران حتى لو اتخذت خطوات ضارة ضد أوكرانيا، ولكن من الضروري أن ينظروا إلى الصورة الكبرى – فموقف بوتين المعادي للغرب لم يقتصر أبداً على أوروبا. ووفقاً لذلك، يجب على واشنطن وشركائها التركيز على بناء استراتيجية موحدة لا تعزز الموقف التفاوضي للولايات المتحدة في فيينا فحسب، بل تُظهر أيضاً الإرادة السياسية للدفاع بقوة عن النظام العالمي القائم على القواعد إذا لزم الأمر.
آنا بورشيفسكايا هي زميلة أقدم في معهد واشنطن ومؤلفة الكتاب “حرب بوتين في سوريا: السياسة الخارجية الروسية وثمن غياب أمريكا“.
.
رابط المصدر: