هل ستساعد تركيا واشنطن إذا غزت روسيا أوكرانيا؟

سونر چاغاپتاي

 

قد تؤدي المخاوف من القوة العسكرية الروسية إلى ابقاء أنقرة بعيداً عن دائرة الضوء، لكن حساباتها المتعلقة بالبحر الأسود وتعاطفها مع تتار القرم هي عوامل تشير إلى استعدادها لتقديم المساعدة وراء الكواليس، إذا لزم الأمر.

مع تزايد المخاوف بشأن الغزو الروسي المحتمل لأوكرانيا، يتساءل الكثير من المراقبين عن كيفية رد تركيا على الحرب بين جارتيها في البحر الأسود. وعلى وجه الخصوص، هل ستدعم أنقرة المساعي التي تقودها الولايات المتحدة للدفاع عن سيادة كييف؟

من جهة، تحرص تركيا على الحفاظ على توازن القوى في ساحل البحر الأسود. كما تعارض ضمّ روسيا لشبه جزيرة القرم في عام 2014، ويُعزى ذلك جزئياً إلى تعاطفها مع مجتمع التتار الأتراك الأصليين. وإلى جانب التعاون الدفاعي المتزايد بين تركيا وأوكرانيا، يبدو أن هذه العوامل تبشر بالخير بالنسبة لدعم أنقرة لواشنطن في حال نشوب حرب.

ومن جهة أخرى، تنتهج تركيا سياسة راسخة في تجنب النزاع المباشر مع أقوى جار عسكري لها، علماً بأن مستوى الانسجام والتعاون الدبلوماسي بين الرئيسين رجب طيب أردوغان وفلاديمير بوتين قد ازداد بشكل ملحوظ منذ محاولة الانقلاب في تركيا عام 2016. وبالتالي، في حين قد تقدم أنقرة مساعدة سرية لأوكرانيا إذا اندلعت الحرب، إلا أنه من غير المرجح أن تضاهي الدعم العلني الكبير الذي أبدته بريطانيا وبولندا وحكومات رئيسية أخرى لأي تحالف محتمل بقيادة الولايات المتحدة.

ميزان البحر الأسود

تُعتبر روسيا الخصم التاريخي لتركيا، ولطالما كانت نظرة أنقرة إلى جارتها الشمالية مليئة بالخوف. وفي حقبة الحرب الباردة، لعب التهديد باتخاذ روسيا خطوات عسكرية دوراً رئيسياً في إقناع تركيا بالإنضمام إلى حلف “الناتو” عام 1952 وتدريجياً إقامة علاقة ثنائية وطيدة مع الولايات المتحدة.

وقد جعلت هذه المخاوف البحر الأسود مصدر قلق خاص بالنسبة لتركيا. وفي هذا السياق، جعلت “اتفاقية مونترو” من البحر منطقة محدودة الوصول في عام 1936، ولا تزال بنودها توجّه رؤية أنقرة الاستراتيجية للروابط مع موسكو وكييف بعد ما يقرب من قرن على إبرامها.

يُذكر أن الممر البحري الوحيد إلى البحر الأسود هو عبر “مضيق البوسفور” في اسطنبول. وتمنح “اتفاقية مونترو” حرية الوصول البحري إلى الدول الساحلية فقط، وتُمنع الدول غير الساحلية من الاحتفاظ بوجود بحري دائم في البحر. وبالإضافة إلى هذه المهلة الزمنية، تواجه القوات البحرية غير الساحلية قيوداً على نوع السفن الحربية التي يمكنها إرسالها عبر المضيق وحمولتها (على سبيل المثال، يتدنى الوزن المسموح به لبعض الدول الأجنبية إلى 15 ألف طن، مما يقيّد وجودها البحري المحتمل إلى سفينتي سطح أو ثلاث على الأكثر).

ومن الناحية النظرية، تتشارك جميع الدول الساحلية الست البحر الأسود عسكرياً. ومع ذلك، فإن حجم الأساطيل البحرية في أربع من هذه الدول – بلغاريا وجورجيا ورومانيا وأوكرانيا – صغير نسبياً (على سبيل المثال، في حالة تبليسي، معظم هذه القوات مؤلفة من سفن خفر السواحل). ومن ثم، يُعتبر البحر الأسود فعلياً ملكية بحرية مشتركة بين تركيا وروسيا. ومنذ نهاية الحرب الباردة، توددت أنقرة إلى الدول الساحلية الأخرى بشكل مكثف لبناء نفوذها في وجه القدرة العسكرية لموسكو.

وقد تحسنت الروابط التركية مع أوكرانيا بشكل خاص وإلى حدّ كبير في عهد أردوغان. فقد عزّزت الدولتان نشاطهما التجاري في السنوات الأخيرة وأطلقتا نظام سفر بدون جوازات وتأشيرات دخول لرعاياهما. كما يسير التعاون العسكري في كلا الاتجاهين. فقد اشترت أوكرانيا طائرات مسيرة تركية واستخدمتها ضد الانفصاليين المدعومين من موسكو في منطقة دونباس. فضلاً عن ذلك، وقّعت الشركة الرائدة في صناعة الطائرات المسيرة في تركيا، “بايكار”، مؤخراً اتفاقاً ستقدّم بموجبه شركة “موتور سيش” الأوكرانية قطعاً أساسياً لمحركات الطائرات المسيرة التركية من الجيل الثالث “آقنجي”.

عامل القرم

حتى أواخر القرن الثامن عشر، كانت القرم جزءاً من الإمبراطورية العثمانية – وبشكل أكثر تحديداً كانت تابعة للكومونويلث الخاضع لإدارة ولاية تركية تدعى “خانية القرم”. ولكن في عام 1783، ضمّت الإمبراطورية الروسية المنطقة وأنشأت أسطولها في البحر الأسود في ميناء المياه العميقة سيفاستوبول. ومنذ ذلك الحين، اعتبرت شبه جزيرة القرم بمثابة منفذ حيوي للبحار الدافئة.

وعلى مر السنين، أرسل القياصرة العديد من الروس إلى شبه الجزيرة لترسيخ حكمهم، والانخراط في الاضطهاد الديني والسياسي للتتار لإجبارهم على الهجرة بأعداد كبيرة. ومع ذلك، بقي التتار يشكلون 39 في المائة من سكان القرم عند بداية الحرب العالمية الثانية. وبعد الحرب، عزّز جوزيف ستالين الصبغة الروسية في المنطقة من خلال إبعاد السكان التتار وغيرهم من المجتمعات ودفعهم نحو الداخل السوفيتي بأعداد كبيرة، زاعماً أنهم تعاونوا مع ألمانيا النازية.

وفي أعقاب موت ستالين، تمّ ترحيل بعض هذه الجماعات المشردة في النهاية إلى أوطانها في الخارج. ومع ذلك، لم يُسمح للتتار بالعودة إلى القرم، مما يؤكّد الأهمية الاستراتيجية لشبه الجزيرة بالنسبة لموسكو.

وبعد انهيار الاتحاد السوفيتي، نجح أخيراً بعض التتار المطرودين في العودة إلى القرم. وفي أحدث إحصاء سكاني رسمي أجرته أوكرانيا – يعود إلى عام 2001 – شكّل التتار حوالي 11 بالمائة من سكان شبه الجزيرة.  

واليوم، يعارض معظم التتار في القرم بشدة عودة الحكم الروسي، ويشارك في هذا الشعور الجالية الكبيرة من تتار القرم المنتشرة في تركيا والتي يقدر عددها بالملايين. وبالتالي، فإن فرص قبول أنقرة رسمياً بضم الجزيرة إلى روسيا ضئيلة، بغض النظر عن مبادرة بوتين الموسعة على الصعيدين الدبلوماسي والأمني  تجاه أردوغان منذ محاولة الانقلاب الفاشلة عام 2016. وربما يكونا الرئيسين قد توصلا إلى اتفاقات مهمة (وإن كانت بسيطة) لتَشارك السلطة في سوريا وليبيا وجنوب القوقاز وأماكن أخرى، لكن شبه جزيرة القرم تبدو وحشاً سياسياً مختلفاً نظراً لمواقف تركيا من أوكرانيا والتتار وساحل البحر الأسود.

حسابات أردوغان وبوتين

بغض النظر عن المخاوف المحيطة بشبه جزيرة القرم، سيبقى أردوغان حذراً في ردود فعله على تحركات بوتين بشأن أوكرانيا، ومن المرجح أن يبتعد عن أي إجراءات قد يُنظر إليها على أنها تتحدى علانية وعسكرية لسياسة روسيا. وينبع هذا الحذر جزئياً من التحديات المتعددة التي يواجهها أردوغان في الداخل. فالاقتصاد التركي يعاني صعوبات بسبب جائحة فيروس كورونا وسوء الإدارة المالية للحكومة. وعلى الصعيد السياسي، تتراجع قاعدة دعم أردوغان بعد عقدين من الهيمنة، بينما تزداد المعارضة. علاوةً على ذلك، أدّت الصراعات المذكورة أعلاه في سوريا وليبيا وجنوب القوقاز إلى جعل أنقرة معرضة بشكل متزايد لتقلبات الكرملين.

وبالفعل، يتمتع بوتين بعدد من العوامل المساعدة الفعالة التي يمكنه استخدامها ضد أردوغان على الفور إذا اتبعت أنقرة سياسة تقدمية تجاه أوكرانيا. على سبيل المثال، بإمكانه فرض مقاطعة سياحية؛ فلطالما كان الروس يشكلون جزءاً كبيراً من السياح في تركيا قبل الجائحة، وأردوغان بحاجة إلى موسم سياحي قوي هذا الصيف لمساعدة الاقتصاد على الانتعاش. ويمكن للعقوبات التجارية الروسية أن تعرقل انتعاش تركيا أيضاً، مما ينهي بشكل أساسي احتمالات فوز أردوغان بالانتخابات الرئاسية لعام 2023.

وعلى صعيد آخر، بإمكان بوتين منح نظام الأسد السوري الضوء الأخضر لمهاجمة معقل المتمردين في محافظة إدلب، الأمر الذي قد يهدّد بتدفق 2-3 ملايين لاجئ آخر عبر الحدود إلى تركيا، التي تستضيف أساساً ما يقرب من 4 ملايين سوري. ونظراً إلى ازدياد المشاكل الاقتصادية وتنامي المشاعر المعادية للاجئين في تركيا، لن يتمكن أردوغان من تجاوز الصعوبات الاجتماعية والسياسية الناتجة عن تدفق جماعي آخر للاجئين. كما بإمكان الرئيس الروسي عرقلة الاتفاقات الهشة لوقف إطلاق النار بين الحلفاء الروس والأتراك في ليبيا وجنوب القوقاز، مقوّضاً بذلك الصورة التي كوّنها أردوغان لنفسه محلياً كوسيط قوة عالمي.

التداعيات السياسية على واشنطن

إذا غزت روسيا أوكرانيا، فمن غير المرجح أن تكون تركيا في طليعة أي تحالف دولي لصدها. لكن عند أخذ آراء أنقرة في الاعتبار بشأن ميزان القوى في البحر الأسود، يمكن لواشنطن أن تتوقع من أردوغان توفير مساعدة عسكرية وراء الكواليس وغيرها من أشكال الدعم إلى كييف.

ويبدو أن أكثر نقاط الضعف المباشرة لأنقرة أمام الضغط الروسي هي تدفقات اللاجئين المحتملة من إدلب. وإذا وفرت واشنطن وحلفاؤها الأوروبيون ضمانات حاسمة بأنهم سيقاومون أي اعتداء شامل ينفذه نظام الأسد ضد هذه المحافظة، فمن المرجح أن توسع تركيا دعمها لجهودهم لمواجهة العدوان الروسي على أوكرانيا.

 

.

رابط المصدر:

https://www.washingtoninstitute.org/ar/policy-analysis/hl-stsad-trkya-washntn-adha-ghzt-rwsya-awkranya

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M