هل سيختار “حزب الله” الحفاظ على كلمته أم ترسانته؟

في غضون أقل من أسبوع، نجحت إسرائيل في تقويض القدرات العسكرية لـ”حزب الله” وأنظمة اتصالاته وسلسلة قيادته بشكل كبير. أولا، أدى تفجير أجهزة النداء وأجهزة اللاسلكي إلى تعطيل قدرة “الحزب” على التواصل. ثم جاءت عملية اغتيال قائد العمليات إبراهيم عقيل يوم الجمعة، إلى جانب 14 من كبار قادة “قوة الرضوان”، والتي شكلت نكسة كبيرة للقيادة العليا ووحدة القيادة في المجلس الجهادي للجماعة اللبنانية المسلحة. واليوم، لم يبقَ من الأعضاء المؤسسين للبنية العسكرية لـ”حزب الله” سوى علي كركي.

يأتي هذا التصعيد بعد قرار القادة الإسرائيليين مواجهة التهديد المستمر الذي يشكله “حزب الله” على شمال البلاد. وقد قرر مجلس الوزراء الأمني المصغر، برئاسة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، يوم الاثنين الماضي، تحديد هدف حربي جديد: العودة الآمنة لسكان إسرائيل إلى شمال البلاد.

ومع ذلك، لا يقدم زعيم “حزب الله” حسن نصرالله أي تنازلات. ففي خطاب ألقاه يوم 19 سبتمبر/أيلول، كرر نصرالله تهديداته بمهاجمة شمال إسرائيل. وعلى الرغم من اعترافه بالتقدم التكنولوجي لإسرائيل، رفض التراجع وصرح بأنه “لا تصعيد عسكريا، ولا قتل، ولا اغتيالات، ولا حرب شاملة يمكن أن تعيد السكان إلى الحدود”.

وبعد خطابه مباشرة، قصفت إسرائيل حوالي 30 منصة لإطلاق الصواريخ ومواقع للبنية التحتية لـ”حزب الله”، التي تحتوي على نحو 150 فوهة إطلاق، وفقا لمتحدث باسم قوات الدفاع الإسرائيلية (IDF). كما استهدف الجيش الإسرائيلي منشآت تخزين أسلحة تابعة لـ”حزب الله” في عدة مناطق بجنوب لبنان، وتلت ذلك ضربات أكثر كثافة خلال عطلة نهاية الأسبوع، حيث زعمت إسرائيل يوم السبت أنها دمرت 400 منصة إطلاق صواريخ في جنوب لبنان وسهل البقاع. ويشير حجم هذه الضربات إلى رغبة إسرائيل في التصعيد واستعدادها لتوسيع دائرة الأهداف.

ورغم الدعوات للمضي قدما بكل قوة، لم يتخذ القادة الإسرائيليون حتى الآن قرارا بشن حرب شاملة أو القيام باجتياح بري. مثل هذا القرار قد يلحق أضرارا كبيرة بالبلاد وبنيتها التحتية المدنية، خاصة إذا أطلق “حزب الله” صواريخه الأكثر تطورا. تبدو إسرائيل مصممة على دفع “حزب الله” إلى إعادة التفكير في استراتيجيته وإعادة النظر في مشاركته في النزاع، الذي بدأه “الحزب” في 8 أكتوبر/تشرين الأول 2023، بعد يوم واحد من هجمات “حماس” على إسرائيل.

والآن، يواجه “حزب الله” خيارين: إما الحفاظ على ما تبقى من أصوله العسكرية وقيادته، وإما الاستمرار في تهديد شمال إسرائيل.

 

في بداية الحرب، كان هدف “حزب الله” وداعمه الرئيس إيران تحقيق مكاسب من أي حل سياسي أو دبلوماسي ينهي الحرب بين إسرائيل و”حماس” في غزة

 

 

كانت الخسائر التي تكبدها “الحزب” خلال الأسبوع الماضي فادحة، لكنه خسر معركة الردع منذ شهور. فمنذ أكتوبر/تشرين الأول الماضي- عندما قرر “حزب الله” مهاجمة إسرائيل دعما لـ”حماس”- نجحت إسرائيل في تقويض قدرات “الحزب” العسكرية من خلال ضربات دقيقة مستهدفة، وتمكنت من تحقيق ذلك إلى حد كبير دون التسبب في وقوع كثير من الضحايا المدنيين. وخلال العام الماضي، قتلت إسرائيل أكثر من 500 شخص- غالبيتهم من مقاتلي “حزب الله”- بما في ذلك قادة كبار ونخب، مثل وسام الطويل وطالب عبدالله وفؤاد شكر وغيرهم.

بالإضافة إلى ذلك، جرى تدمير البنية التحتية العسكرية لـ”حزب الله” جنوب نهر الليطاني، إلى جانب عدد كبير من مخازن أسلحته ومنشآته العسكرية في مختلف أنحاء لبنان. وتركزت ردود “الحزب” في الغالب على شمال إسرائيل، حيث استهدفت القواعد العسكرية والبنية التحتية العسكرية، مع تجنب إلحاق الأذى بالمدنيين والمدن الكبرى والبنية التحتية المدنية بشكل عام.

 

أ.ف.ب أ.ف.ب

أشخاص يتجمعون أمام مبنى استهدفته غارة إسرائيلية في الضاحية الجنوبية لبيروت في 20 سبتمبر 2024. 

في بداية الحرب، كان هدف “حزب الله” وداعمه الرئيس إيران تحقيق مكاسب من أي حل سياسي أو دبلوماسي ينهي الحرب بين إسرائيل و”حماس” في غزة. ومع ذلك، تمكنا من تحقيق إنجاز غير مسبوق، وهو نقل المنطقة العازلة من جنوب لبنان إلى شمال إسرائيل. لا يزال حوالي 60 ألف إسرائيلي نازحين داخليا، وقد صور “حزب الله” هذا الأمر في دوائره على أنه أعظم إنجاز ضد إسرائيل، وهو أمر سيكون من الصعب التراجع عنه.

إذا وسعت إسرائيل دائرة أهدافها لتشمل ضرب الأصول العسكرية المتقدمة، مثل المنشآت التي تخزن وتنتج الصواريخ الموجهة بدقة، فقد يضطر “حزب الله” إلى إعادة النظر في تهديده لشمال إسرائيل. اليوم، يسير “الحزب” على خيط رفيع بين الحفاظ على أصوله العسكرية واستمرار تهديداته، والسؤال المطروح هو إلى أي مدى يمكنه تحمل المزيد من الخسائر.

ترى إسرائيل في هذه اللحظة فرصة لمضاعفة الضغط على “حزب الله”، ورفع الثمن الذي سيضطر “الحزب” إلى دفعه إلى مستوى لا يُطاق. ورغم أن احتمال اندلاع حرب شاملة بين إسرائيل و”حزب الله” حقيقي، فإن الطرفين يفضلان الحل الدبلوماسي. فإسرائيل تسعى إلى الحفاظ على دقة هجماتها، بينما يحاول “حزب الله” تجنب استفزاز إسرائيل أو أن يُجبر على استخدام وإهدار أثمن أصوله العسكرية- وهي الصواريخ الدقيقة- التي تعتبرها إيران بمثابة بوليصة تأمين.

 

إن تمكن إسرائيل من اغتيال شكر وعقيل في قلب معقلهما بالضاحية الجنوبية لبيروت يمثل اختراقا كبيرا. لكن ما يقلق قيادة “حزب الله” أكثر بكثير هو فقدانها عنصر المفاجأة

 

 

في الواقع، قد يكون التصعيد الإسرائيلي الحالي يهدف إلى تجنب الحرب من خلال دفع “حزب الله” إلى قبول الحل الدبلوماسي الوحيد المطروح على الطاولة- وهو الذي قدمه آموس هوكشتاين، المبعوث الأميركي لشؤون الطاقة الدولية- الحل يتضمن فصل لبنان عن غزة وتنفيذ قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1701، الذي أنهى الحرب بين إسرائيل و”حزب الله” في عام 2006. هذا يعني أن “حزب الله” سيضطر إلى قبول اتفاق وقف إطلاق نار منفصل، وسحب وجوده العسكري إلى شمال نهر الليطاني، على بعد حوالي 18 ميلا من الحدود، مما يسمح للإسرائيليين النازحين بالعودة إلى ديارهم في الشمال.

حتى الأسبوع الماضي، كانت إسرائيل و”حزب الله” يسيران على خط رفيع بين حرب شاملة ونمط محسوب من الهجمات والردود. خسر “حزب الله” الكثير من بنيته العسكرية وقادته وأسلحته، ولكن الأهم من ذلك أنه فقد الثقة والأمان داخل صفوفه. فبعد كل عملية اغتيال أو ضربة، وخاصة بعد التفجيرات الجماعية لأجهزة النداء وأجهزة الاتصال اللاسلكية، أصبح “الحزب” يخشى من المزيد من الاختراقات العميقة داخل صفوفه من قبل أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية. وقد فقد مقاتلوه الثقة في بعضهم البعض، خوفا من أن يكون أي منهم جاسوسا لإسرائيل.

كما تراجعت ثقة “الحزب” في التكنولوجيا، حيث لم يعد لديه نظام اتصالات موثوق به يمكن الاعتماد عليه في أي رد عسكري أو حرب. والطريقة الوحيدة المتبقية هي الاتصالات الشفهية، وهو ما لجأ إليه قادة “الحزب” عند تحديد موعد اللقاء الشخصي بين إبراهيم عقيل وقادة “قوات الرضوان”، الاجتماع الذي استهدفته إسرائيل. أي إن مستوى التسلل الإسرائيلي أعمق مما يدركه الحزب.

إلى جانب ذلك، فقد “حزب الله” الكثير من ثقة مجتمعه. وكما يتساءل الكثير: إذا كان “الحزب” عاجزا عن حماية نفسه، فكيف له أن يحمي أنصاره وجمهوره؟ سيكون من الصعب للغاية ضمان أمن وسلامة مجتمعه في وقت يسير بينهم وهو معرض للتفجير. والأسوأ من ذلك أن “الحزب” لم يعد يمثل قصة النجاح التي كانت إيران تفتخر بها في المنطقة.

إن تمكن إسرائيل من اغتيال شكر وعقيل في قلب معقلهما بالضاحية الجنوبية لبيروت يمثل اختراقا كبيرا. لكن ما يقلق قيادة “حزب الله” أكثر بكثير هو فقدانها عنصر المفاجأة، الذي كان دائما جزءا أساسيا من استراتيجيتها العسكرية. فإسرائيل كانت على دراية تامة بالموعد والطريقة التي كان “حزب الله” يخطط من خلالها للرد على مقتل شكر في أغسطس/آب، فشنت قوات الدفاع الإسرائيلية ضربة استباقية استهدفت البنية التحتية لـ”الحزب”، بما في ذلك منصات الإطلاق التي كانت معدة للعملية.

كل هذه الخسائر، إلى جانب فشل “الحزب” حتى الآن في تنفيذ رد عسكري فعّال ضد إسرائيل، تشكل إهانة وإحراجا كبيرين لـ”حزب الله”. لكن على الصعيد العسكري، فإن الوضع أكثر سوءا. حيث بات “حزب الله” أكثر تقييدا وردعا من أي وقت مضى.

 

تبدو الحكومة الإسرائيلية وكأنها ترى في انتكاسات “حزب الله” فرصة سانحة لجيش الدفاع الإسرائيلي لشن حرب تهدف إلى تقليص قدرات “الحزب” بشكل أكبر

 

 

من المحتمل أن تتمكن الجماعة في نهاية المطاف من التعافي من هذه الخسائر، وإعادة بناء شبكة اتصالاتها، ومواجهة الاستخبارات الإسرائيلية، واستعادة ثقة مجتمعها. لكن كل هذا سيستغرق وقتا طويلا، وهو ترف قد لا يكون “حزب الله” قادرا على تحمله.

واليوم، يتطلب أي رد على التصعيد الإسرائيلي من الجماعة المسلحة حل المخاوف التالية:

أولا، في ظل غياب نظام اتصالات فعال، يصبح من الصعب على “حزب الله” التنسيق بشأن عمليات الاستهداف، والاستجابة، أو الأمور اللوجستية. كما أن استخدام الاتصالات الشفهية أو المكتوبة- كما تفعل “حماس” في أنفاق غزة- ليس خيارا سهلا بالنسبة له. فلبنان مساحة أكبر بكثير، ومع غياب نظام اتصالات سريع وفعال، تتراجع القدرة العسكرية لـ”حزب الله” على خوض الحرب بشكل كبير.

ثانيا، قُتل أو أصيب عدد كبير من كبار مسؤولي “حزب الله”، حيث استهدفت أجهزة النداء المتفجرة الكثير من كبار قادة الجماعة وعناصرها المتوسطة. فقد احتوت الشحنة المتفجرة على 5000 جهاز نداء، بينما تُقدّر القوة القتالية لـ”حزب الله” بشكل مستقل بما لا يقل عن 20 ألف مقاتل. خُصصت أجهزة النداء للمسؤولين والمقاتلين ذوي المهام الخاصة والمهارات الحساسة، أي الذين يحتاجون إلى حماية خاصة. من بين الضحايا كانت عائلات أعضاء “حزب الله” في البرلمان اللبناني، وكبار القادة، بالإضافة إلى أفراد الأمن رفيعي المستوى. كما ورد أن السفير الإيراني في لبنان كان على مقربة من أحد الأجهزة المتفجرة.

وأخيرا، لم يتمكن “حزب الله” حتى الآن من تحديد مدى الاختراق الذي تعرض له من قِبل الاستخبارات الإسرائيلية. فقد أفادت مصادر مقربة من دائرته الداخلية لمجلة “فورين بوليسي” بأن قادة “الحزب” يقومون بفحص كل جهاز إلكتروني يمتلكونه بدقة، وهم يشعرون بالقلق من احتمال أن تكون سياراتهم، ودراجاتهم النارية، وحتى مصانع صواريخهم المتطورة، مفخخة وقابلة للانفجار في أي لحظة.

وسيتعين على “الحزب” إجراء تحقيق معمق للتأكد من أن بقية أجهزته لم تتعرض للاختراق أو العبث من قبل الإسرائيليين، وهي عملية قد تستغرق أسابيع. وإذا كان “حزب الله” يخشى أن تكون مرافق صواريخه مفخخة أو تحت المراقبة، فإن ذلك سيجعل– من الناحية اللوجستية– نقل هذه الأسلحة وإطلاقها بأمان أمرا بالغ الصعوبة.

تبدو الحكومة الإسرائيلية وكأنها ترى في انتكاسات “حزب الله” فرصة سانحة لجيش الدفاع الإسرائيلي لشن حرب تهدف إلى تقليص قدرات “الحزب” بشكل أكبر. ومع ذلك، فإن حربا مشابهة لتلك التي اندلعت في عام 2006 قد تلحق بإسرائيل أضرارا كبيرة دون أن تنجح في القضاء على تهديد “حزب الله” بشكل كامل. مثل هذه الحرب قد تزيد من عزلة إسرائيل دوليا، وتتسبب في المزيد من الضحايا المدنيين على كلا الجانبين، كما قد تفتح الباب أمام خطر اندلاع حرب إقليمية على عدة جبهات.

 

قرار الأمم المتحدة رقم 1701 غير مستدام، لأنه يفتقر إلى تدابير عقابية فعالة، ومن المرجح أن ينتهكه “حزب الله” في النهاية

 

 

إن ما حققه جيش الدفاع الإسرائيلي وجهاز الاستخبارات الخارجية (الموساد)، خلال الأسبوع الماضي كان ذا فعالية كبيرة. فلا حاجة لخوض حرب شاملة قد تؤدي إلى خسائر كبيرة بين المدنيين، وتعيد إحياء خطاب “محور المقاومة”، وتوحّد الرأي العام الإقليمي والدولي ضد إسرائيل.

وللوصول إلى حل طويل الأمد، فإن السيناريو الأفضل هو أن يقبل “حزب الله” بوقف إطلاق نار منفصل عن الصراع في غزة. ويجب أن تركز الجهود الدبلوماسية، سواء من الولايات المتحدة أو حلفائها، على تحقيق هذا الهدف والضغط على “حزب الله” لفصل الجبهتين. فبالنسبة لإيران و”حزب الله”، لا شيء أكثر أهمية من الحفاظ على أصولهما العسكرية، وخاصة الصواريخ الدقيقة.

ويجب على الجهود الدبلوماسية الأميركية أن تستغل ضعف “حزب الله” الحالي. وبالإضافة إلى الضغط على الجماعة لقبول وقف إطلاق نار منفصل، ينبغي أن تركز المفاوضات على منع اندلاع حرب شاملة، وضمان عودة السكان من كلا الجانبين إلى ديارهم، وتقويض السرديات التي يروج لها “حزب الله” وإيران حول النصر والمقاومة.

إن قرار الأمم المتحدة رقم 1701 غير مستدام، لأنه يفتقر إلى تدابير عقابية فعالة، ومن المرجح أن ينتهكه “حزب الله” في النهاية. لذلك، يجب وضع سياسة طويلة الأجل بعد التوصل إلى وقف إطلاق النار، تهدف إلى احتواء “حزب الله” في لبنان. هذه السياسة ينبغي أن تركز على قطع طرق إمداده بالأسلحة من طهران عبر العراق وسوريا، إضافة إلى دعم الدولة اللبنانية في استعادة سيادتها الكاملة على قرارات الحرب والسلام.

 

المصدر

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M