وائل مهدي
مع تدهور الأوضاع في سوق النفط ووصول الأسعار إلى مستوى تحت 30 دولاراً، وتوقعات استمرار هذا التدهور لأشهر مقبلة ما لم يقضِ العالم على جائحة «كورونا»، يبرز سؤال في أذهان العديدين وهو: هل كان يجب على السعودية الاستماع إلى روسيا والقبول بالمقترح التي تقدمت به خلال اجتماع تحالف «أوبك+» في 6 مارس (آذار)، بدلاً مما يحدث من تنافس على الحصص السوقية؟ والسؤال الآخر هو: هل انهار تحالف (أوبك+)، وهل ستكون هذه النهاية وإعلان الوفاة لمنظمة البلدان المصدّرة للبترول (أوبك) التي لم تتمكن الآن من معالجة أزمة أسعار جديدة غير التي شهدناها في 1998 و1985؟
قبل أن نجيب عن هذه الأسئلة فلنشرح ماذا حدث في الاجتماع يوم 6 مارس بصورة مقتضبة. كان هناك اتفاق في آخر 2019 بين «أوبك» وحلفائها المستقلين بقيادة روسيا على تخفيض الإنتاج بنحو 1.7 مليون برميل يومياً لموازنة السوق. وحتى تشجع السعودية (أكبر منتج للنفط في «أوبك») الجميع على التخفيض وتسرع عملية توازن السوق، خفضت السعودية 400 ألف برميل إضافية ليصبح المجموع 2.1 مليون برميل، واتفق الجميع حينها على الاجتماع في مارس لتحديد جدوى مواصلة الاتفاق من عدمه.
واجتمع الجميع في يوم 6 مارس، إلا أن هناك مفاجأة جديدة وهي فيروس «كورونا» والذي لم يقضِ فقط على حياة البشر ولكن على الطلب على النفط كذلك. وحسب توقعات «أوبك» يتعين على التحالف تخفيض جديد لـ1.5 مليون برميل يومياً إضافية وهو ما دعمته السعودية بشدة، ورفضته روسيا واقترحت مواصلة الاتفاق الجاري حتى يونيو (حزيران) بنفس الكمية.
وانتهى الاجتماع على خلاف بين الطرفين، وأعلن وزير الطاقة الروسي ألكسندر نوفاك عقب الاجتماع أن «الاتفاق انتهى»، وبدءاً من الأول من أبريل (نيسان) من حق كل الدول إنتاج الكمية التي تريد. وبناءً على هذا التصريح أخذت السعودية مجموعة من الإجراءات تهدف لتعظيم حصتها السوقية، من خلال زيادة الإمدادات لمستوى تاريخي واستئجار عدد ضخم من ناقلات النفط العملاقة لإغراق السوق بالنفط السعودي، إضافة إلى تقديم تخفيضات على نفطها هي الأعلى في 20 عاماً. وعدّت السوق ما يحدث حرب أسعار بين السعودية وروسيا، رغم عدم إعلان أي تصريح من السعودية بتأكيد هذه الحرب ونفي الكرملين وجود حرب بينها وبين أي منتج آخر.
ما يحدث دمّر الأسعار وسيدمّرها زيادة لأن طاقة التخزين في العالم لا تتجاوز 1.6 مليار برميل، بينما النفط القادم خلال النصف الأول من 2020 هو في حدود 1.8 مليون برميل يومياً، حسب تقديرات (IHS). ولا يوجد أماكن لتخزين النفط ولا مصافي لتكريره بعد تخفيض العديد منها طاقتها الإنتاجية.
ولنستمع الآن إلى وجهة نظر روسية صادرة من أحد وكلاء وزارة الطاقة في روسيا، بافيل سوروكين، والذي كان هو أقرب مسؤول روسي لـ«أوبك» من خلال عمله في اللجنة الفنية المشتركة للتحالف أو من خلال الاجتماعات التي لا تنتهي بين الطرفين. الكثير ممن عملوا مع سوروكين يصفونه بالذكاء والإلمام الكبير بالسوق. وأمس (الجمعة)، ذكر كلاماً مهماً خلال نقاش دار في نادي فلادي في موسكو.
يقول سوروكين إن الطلب على النفط سينخفض بنحو 20 مليون برميل يومياً خلال الأسابيع القادمة، أي بنحو 20% من حجم الطلب العالمي، وهو في هذا الأمر لا يختلف كثيراً عما قاله رئيس شركة «فيتول» أكبر شركة لتجارة النفط في العالم أو لتحليلات المصارف العالمية مثل «غولدمان ساكس» وغيرها.
ومع ذلك يرى سوروكين أن مقترح «أوبك» (أي تخفيض 1.5 مليون برميل) ليس إلا «قطرة في محيط»، ويقول إنه ليس من العقلاني أن تأخذ إجراءات لن يكون لها أثر، لأن موازنة السوق اليوم تحتاج إلى جهد دولي أكبر من تحالف «أوبك+».
وحول الأسعار يقول لو أن الكل طبّق اقتراح «أوبك» لتحسنت الأسعار نحو 5 – 7 دولارات للبرميل، وهذا ليس مضموناً. لهذا يرى أن اقتراح روسيا مواصلة اتفاق «أوبك+» كان هو الخيار الأفضل.
الأمر المهم الآخر في تصريحاته هو قوله إن روسيا ترى السعر العادل عند 45 إلى 55 دولاراً للبرميل، وأن الأسعار كانت ستظل عند هذا المستوى من دون جائحة «كورونا»، وبناءً على الإبقاء على مستوى الإنتاج العالمي على ما كان عليه في الربع الأول من 2020.
هذه التصريحات متناقضة. الجميع يعلم ما سيحدث بسبب «كورونا»، وحتى من قبل «كورونا» كانت «أوبك» ترى وجود فائض هذا العام بنحو مليون برميل يومياً بسبب الحرب التجارية مع الصين وتباطؤ نمو الاقتصاد العالمي، في الوقت الذي كانت الدول خارج «أوبك» ستزيد فيه الإنتاج.
وحقيقةً لا أعلم على أي أساس اختارت روسيا هذا السعر ليكون عادلاً؟ إن السعر العادل مبدأ لم يعد أحد يتكلم عنه اليوم وبخاصة السعودية، التي توقفت عن التصريح بسعر عادل منذ سنوات طويلة وتركت السوق لتحديد الأسعار التي تحقق التوازن. فهل يقصد أن هذا السعر هو السعر المناسب لميزانية روسيا التي تتعادل عند 42 دولاراً؟ أم أنه السعر الذي سيحقق تعادلاً لميزانية روسيا ويُبقي الضغوط على إنتاج النفط الصخري الأميركي (الهاجس الأكبر لدى الروس الذين لا يريدون لأميركا الاكتفاء الذاتي من النفط الخام أو مواصلة تصديره للخارج بعد أن زادت كميات النفط الأميركي المتجه إلى آسيا).
والآن للإجابة عن السؤال في بداية المقال، فإجابتي: لا. إن قرار روسيا يخالف كل الأرقام، والواجب هو التخفيض. أنا أعلم أن هناك استياءً عالمياً كبيراً مما فعلته السعودية، إذ تعوّد الجميع على أن المملكة هي العملاق الإغريقي «أطلس» الذي يحمل قبة السماء للأبدية. لو لم تتحرك السعودية لتغرق السوق بالنفط، لما تحركت الولايات المتحدة وأرسلت مبعوثة للطاقة إلى المملكة وبدأ المنتجون في تكساس التفكير في تنظيم الإنتاج، ولا أرسل ستة من أعضاء مجلس الشيوخ رسالة إلى وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو، لحثه على تشجيع السعودية على ترك «أوبك» وبحث صفقة طاقة جديدة لتشجيع الاستثمارات المشتركة لتقريب السعودية من الولايات المتحدة بدلاً من روسياً وجعلها تتحول إلى لاعب رئيس في الطاقة على أساس السوق المفتوحة.
ولكن ما تفعله السعودية هو تطبيق لمبدأ السوق المفتوحة من خلال المنافسة وتعظيم الحصة السوقية. وعلى الرياض الاستمرار في هذه الفوضى الخلاقة وعلى استخدام العصا؛ لأن الجزرة لن تفيد… أو أن يصل العالم لاتفاق عالمي جديد أكبر من «أوبك+» لعصر ما بعد «كورونا».
هل هذا يعني موت «أوبك»؟ «أوبك» لن تموت لأن ما لا يفهمه الساسة الأميركيون أن «أوبك» هي مصدر الاستقرار في السوق، و«خارج «أوبك»» –تاريخياً- هو مصدر خلل ميزان العرض والطلب. وخطابهم لبومبيو يخالف مبادئ السوق الحرة ودوافعه سياسية وهي أمن الطاقة الأميركي. الكل يبحث عن مصالحه ولا يمكن لـ«أوبك» و«أوبك+» فعل شيء، وهناك 50 إلى 60 مليون برميل في السوق لا أحد يتحكم بها. ستتضرر دول الخليج و«أوبك» و«أوبك+» وشركات كثيرة هذا العام، ولكن سيثمر هذا عن نظام عالمي جديد أفضل وأكثر استدامة لو أراد الجميع البدء في بناء نظام لعالم ما بعد «كورونا».