محمد علي جواد تقي
من حق الناس البحث عما يزيل عن كاهلهم أعباء المعيشة والضغوط الهائلة من اجل توفير المستلزمات الاساسية للبيت، وتعليم الأولاد، وتأمين العلاج والدواء، وتوفير وسيلة للنقل، فضلاً عن توفير فرصة العمل المضمونة (التعيين الحكومي)، او بذل الجهد في أماكن مرموقة تستحق العناء، وعندما ينتشر الحديث عن كثرة الإنجاب على أنه أحد عوامل زيادة هذه الضغوط فمن الطبيعي ان يكون رد فعلهم سلبياً إزاء وجود العدد الكبير من الأولاد في البيت الواحد، لاسيما اذا نظرنا الى أرض الواقع –الفاسد- وكيف يعاني الطفل من سوء التعليم، وسوء العناية الصحية، وسوء التربية، الى جانب افرازات سيئة اخرى مثل؛ تسول الاطفال في الشوارع، او زجّهم في ميدان العمل، وفي نقطة سوداء أبعد؛ الاستغلال الجنسي، والاتجار بالبشر لتكون الصورة السوداوية متكاملة امام الجميع!
هذه رؤية افراد المجتمع الى النتائج والمعطيات، وهم محقون في ذلك قطعاً، بيد أن ثمة رؤية أخرى يفترض انها تكون أوسع من هذا يختصّ بها رجال الدولة المعنيون في أمر الاقتصاد، والصناعة، والتخطيط، والمالية، فهؤلاء وغيرهم يتحكمون في اسباب ظهور هذه النتائج، فالفقر –مثلاً- ظاهرة اجتماعية، بيد أن منشأها اقتصادي وسياسي، فالانظمة الديكتاتورية تخلق الفقر بسلسلة من الاجراءات، مثل تكبيل البلد بالديون لمشاريع اقتصادية وهمية وأخرى فاشلة، او لتغطية النفقات العسكرية لإرضاء النزعة السلطوية، ثم سحب يدها من دعم السلع والمنتجات الضرورية، والتشجيع على استهلاك المنتجات المستوردة، فيتحول الفلاح والعامل والكاسب الى فقراء، او مُعسرين في أحسن الفروض.
لماذا التغاضي عن جوهر المشكلة؟
تشير الابحاث والدراسات الاقتصادية حول فرص التنمية الى نسبة الشباب من التعداد السكاني كأحد شروط النجاح في تحقيق وفرة الانتاج، وقبلها؛ توفر الاعداد اللازمة من المتخصصين، كما أشار الى هذا أحد الباحثين الاقتصاديين في حديثه عن أسرار تقدم الاقتصاد الصيني بأنه ليس ناشئاً عن رخص اليد العاملة فقط، وإنما الى وجود الاعداد الكبيرة من المهندسين في المصانع بما تفتقر اليه كثير من الدول.
وبنظرة خاطفة على الوضع العراقي نجد أن أكبر قطاعين توجهت لهما الضربة الشديدة؛ قطاع التعليم، وقطاع الانتاج منذ التحول من الديكتاتورية الى الديمقراطية، وهما القطاعان الأوثق علاقة بشريحة الشباب، فاذا تعود الحياة الى المصانع والمعامل المغلقة، ويتم تقويم وتطوير المناهج الدراسية، وتكون ثمة التفاتة الى مختلف مستلزمات هذا القطاع، لاسيما ما يتعلق بالكادر التدريسي والتعليمي في المدارس والجامعات، والابنية، والخدمات، وكل مستلزمات التعليم الضرورية، فاننا لن نجد المئات من الشباب بين التسكع في الشوارع او التجمع في المقاهي وصالات اللعب وغيرها من أماكن قتل الوقت والجهد.
وخلال تصفحي لموقع الجهاز المركزي للاحصاء التابع لوزارة التخطيط، أثارتني أرقام عن وضع الولادات في العراق، تؤكد مرة اخرى، وجود المشكلة في مكان آخر غير الكثافة السكانية، فقد جاء في الجداول المرفقة مع التقرير أن نسبة توقع الحياة عند الولادة للذكور من عام 2015 الى 2020 ارتفعت من 71 بالمئة، الى 72 بالمئة، وبالنسبة للإناث فقد ارتفعت النسبة من 74 بالمئة الى 76 بالمئة، أما معدل وفيات الاطفال الرضع خلال نفس الفترة –وفاة لكل ألف ولادة حيّة- فقد انخفض من 31 بالمئة، الى 29بالمئة، وهذا ما يتعلق بالوضع في مستشفيات الولادة، أما ما يتعلق بخارج المستشفى، وفي سن الخامسة من العمر، فقد انخفضت نسبة الوفيات عند هؤلاء من 38 بالمئة الى 35 بالمئة.
هذه الارقام وغيرها هي التي تفسر النسبة الكبيرة من شريحة الشباب بالقياس الى نسبة السكان في العراق، وربما هي التي أثارت حفيظة المنظمة الدولية لأن تتخوف من احتمال ان تصل نسبة هذه الشريحة الى 60 بالمئة، كما جاء في تقرير صندوق الامم المتحدة للسكان الذي أعدته مديرة الفرع في العراق ريتا كولومبيا مؤخراً، محذرة الحكومة من “انفجار سكاني”، وايضاً داعية الناس الى اتباع الاساليب المتاحة لتنظيم الأسرة (منع الحمل)!
دعوة الناس الى التقليل من الانجاب يثير تساؤلاً كبيراً في وقت نسمع ونرى كيف يتعرض المنتج المحلي في شقيه الصناعي والزراعي الى ضربات موجعة من الاستيراد، ومن الإبقاء على عشرات المعامل والمصانع مقفلة يعلوها التراب طيلة العشرين سنة الماضية، فالاطفال الصغار في المدارس عام 2003 يتفرض ان يكونوا مهندسين في المصانع، وأطباء في المستشفيات، وعلماء وخبراء في مجالات شتّى تنهض بالواقع الاقتصادي، وتنعش الوضع المعيشي للناس، في حين الواقع اليوم يقدم لنا جيشاً من العاطلين عن العمل، او في أحسن الاحتمالات التي يرتضيها معظم الناس؛ “البطالة المقنعة”، حيث يقبض الآلاف من العمال والموظفين رواتب دون إنجاز عمل يذكر.
الحل أسهل مما يتصوره دعاة تقليل الإنجاب
هناك حلول عديدة طرحها العلماء والمفكرون منذ سنوات بعيدة، ثم في السنوات الاولى لتلقي البلدان الاسلامية دعوة تقليل الانجاب، منها ما طرحه سماحة المرجع الديني الراحل السيد محمد الشيرازي -طاب ثراه- في كتابه “تحديد النسل فكرة غربية”، فقد حسم سماحته هذا الجدل برؤية شاملة وحل جذري قاطع، كما هو دأبه في معالجة جميع الازمات والمشاكل في الامة، ففي ردّه على دعاة تقليل الانجاب بدعوى تحقيق الرعاية الصحية، وتحسين الوضع المعيشي، يقول: “للإجابة على التبرير الذي اختاره هؤلاء نقول لهم: أرجعوا الحريات الإسلامية المسلوبة إلى الناس أولاً؛ حتى يتمكن الناس في ظل الحرية من تهيئة مستلزمات السكن والعمل بسهولة حينذاك، فإن الآباء يستطيعون تربية أطفالهم ـمهما كثرواـ تربية صحيحة. وهيئوا للأب الوقت اللازم والفرصة حتى يقوم بواجبه في التربية، حيث إن بعض الآباء يقضون أوقاتهم سعياً وراء متطلبات الحياة، فيذهب الأب ليراجع هذه الدائرة أو تلك كل يوم لأخذ الرخصة ـ مثلاًـ لإنشاء دار للسكن أو للحصول على العمل أو للحصول على جواز السفر أو الجنسية أو غير ذلك، مما يستهلك جهده ووقته في أمور جانبية، وقد يضطره ذلك إلى دفع الرشوة أحياناً، فمن الطبيعي أن إنساناً كهذا لا يستطيع تربية أطفاله -التربية المطلوبةـ إضافة إلى ذلك فإن الضرائب الثقيلة التي تجبى من الناس تجرهم أحياناً بالقوة إلى الفقر”.
والى جانب الحرية، يدعو سماحة الامام الشيرازي الراحل الى توفير فرص العمل بشكل عادل ومنصف بين الجميع في ميادين الزراعة والصناعة لتحقيق الاكتفاء الذاتي.
ربما يعجب القارئ من سهولة هذا الحل وسط تماسيح الفساد والمحاصصة، برعاية اقليمية ودولية، بيد أن صعوبة الحل ليست بأقل من صعوبة فرض نموذج مستورد لتجربة اجتماعية ثبت فشلها في موطنها الأصلي، فقد باتت الدول الصناعية الغربية تشكو الشيخوخة وقلّة الانجاب وتراجع اليد العاملة الشابّة لديها مما اضطرها لاستقدام المهاجرين، بل إن دولة اسلامية كبيرة مثل ايران جربت حظها لأن تكون في مراقي الدول النامية والمتطورة من خلال تحديد الانجاب والتقليل من نسبة السكان أملاً بإنقاذ الاقتصاد من الانهيار، حتى حدى بوزير الصحة في عقد التسعينات من القرن الماضي لأن يعلن من التلفاز بأنه وزارته مستعدة لتعقيم النساء مجاناً بعد انجاب الطفل الرابع! واليوم؛ وبعد مرور اكثر من ثلاثين سنة (جيل كامل) على هذه الحملة الاعلامية والتربوية، نشهد انقلاباً مروعاً في الرؤية باتجاه التشجيع على الانجاب، وإنفاق الدولة أموالاً لإنشاء مراكز صحية لرعاية الحوامل، ومستشفيات للولادة مجاناً! ولكن؛ لا جدوى، عندما تثقف المجتمع بأكمله؛ من الصغير الى الكبير، بأن سعادة الأسرة تكمن في العدد الأقل من الافراد.
و ربما يفكر دعاة تحديد الانجاب بالحل الوسط، كأن يكون “أمراً بين أمرين” بين إلغاء الانجاب او تحديده بواحد او اثنين بشكل قسري كما تفعل الصين، وبين الإطلاق دون حدود، كأن تكون للأسرة الواحدة عشرة ابناء –مثلاً-، وهذا هو التفكير المنطقي الحسن، فالاعتدال مطلوب شرعاً ومنطقاً، بيد أن القضية ليست بهذه الميكانيكية، لأن الصورة السلبية عن الانجاب في ظل سوء الاوضاع الاقتصادية والخدمات المتردية، تطبق على النفس البشرية وتجعله لا ينظر الى الطفل الذي يرزقه الله –تعالى- بايجابية وارتياح، لاسيما في مراحل النمو والتحول في سن المراهقة، بينما اذا كان لمجموعة الابناء في الأسرة الواحدة محيطهم التعليمي المشجع، وخدماتهم الصحية، ثم فرص العمل وفق مهاراتهم وقدراتهم الذهنية والعضلية، فانهم سيكونوا مصدر خير، وتجسيد للنعمة الإلهية، ليس فقط للأسرة، وإنما للمجتمع وللشعب بأسره.
وفي الختام نقول: إن الإنجاب مسألة غيبية، فالله –تعالى- هو الذي يزرقنا بالأولاد، رغم إن ظاهر الأمر يتعلق بالزواج، بالمقابل فان المال ومختلف وسائل العيش في الحياة، مسألة مادية يتحكم بها الانسان نفسه، فهو الذي بامكانه ان يكون غنياً، كما يمكن ان يتسبب بفقره ونكد عيشه، فاذا اردنا حلاً جذرياً لهذه القضية علينا أولاً؛ النظر فيما يمكننا فعله لإزالة كل العقبات، وما يتسبب في نشوء الازمة المعيشية، فحينئذ لن نجد الكثافة السكانية غير الطبيعية في بلادنا، ونجد التوازن الرائع في عدد افراد العوائل لأن الجميع يفكر بالعلم وبالعمل والانتاج والتطور.
.
رابط المصدر: