خالد عكاشة
فى الوقت الذى يخوض فيه وزير خارجية إيران حسين أمير عبداللهيان، سجالاً مع الاتحاد الأوروبى، مع اعتزام الاتحاد فرض حزمة عقوبات على طهران بسبب موجة الاحتجاجات التى تدخل شهرها الثانى.
يستشعر النظام الإيرانى بأن هناك حالة تربّص ليست بخافية عليه، وفق ما صرح به فى الداخل أكثر من مرة بلهجة اتهام واضح للأصابع الخارجية التى تُحرك المشهد على هذا النحو، وهو ما تكرّر فى تحذير «عبداللهيان» للاتحاد الأوروبى من أن إيران ليست «أرض الانقلابات» المخملية أو الملونة.
بيان الخارجية الإيرانية الصادر هذا الأسبوع كان عقب حديث تليفونى مطول جرى بين الجانبين؛ وفيه أكد «عبداللهيان» أن وفاة «مهسا أمينى» مبعث أسف للإيرانيين جميعاً، كما دعا الوزير الاتحاد للنظر إلى القضية من منظار واقعى، رداً على ما كتبه جوزيب بوريل مسئول السياسة الخارجية بالاتحاد الجمعة، بأن للناس فى إيران حق التظاهر السلمى والدفاع عن الحقوق الأساسية، كما يجب أن يتوقف القمع العنيف فوراً، ويجب الإفراج الفورى عن المحتجين.
هذا الفصل الأخير من السجالات؛ ربما يعكس بوضوح مواقع الأطراف الآن، فطهران الرسمية ما زالت تتعامل مع الأمر بإنكار للواقع الذى تدعو الأوروبيين لاستخدامه فى قراءة ما يجرى.
فيما يظل المجتمع الدولى بمربع المراوحة بين إطلاق التصريحات الإعلامية، أو التلويح بفرض مزيد من العقوبات على دولة برعت أمام أعين هذا المجتمع، فى نسج مساراتها الالتفافية التى تمكنها من تجاوز عوائق وحواجز التقييد، أحدث نماذجه تجلى فى القدرة على التداخل بالحرب الروسية الأوكرانية، من خلال توريد السلاح المصنّع فى إيران إلى الطرف الروسى.
لهذا وبثبات يمضى الشارع الإيرانى غير منشغل بتلك الثنائية، التى لا يعول عليها، بل ويتفهم خباياها، وإن لم يصرح بذلك علانية.
فقد اختبر الدعم الخارجى المأمول وحدوده فى أحداث «الحركة الخضراء» عام 2009، التى انطلقت أعقاب إعلان فوز «أحمدى نجاد» بولاية رئاسية ثانية، فى حين كان هناك اتهام واسع بالتزوير ضد مرشحى المعارضة «مير حسين موسوى» و«مهدى كروبى»، حينها خرج مئات الآلاف إلى الشارع يرفعون الشعار الشهير «أين صوتى؟».
انتشر هذا التحرك بين الإيرانيين من يونيو 2009 وصولاً إلى بداية عام 2010 فى جميع أنحاء العالم كما هو الحال اليوم، وشارك فى تأييد الحركة الكثير من الكتاب والفنانين العالميين، وكثير من مواقع شبكة الإنترنت ومنصات التواصل الاجتماعى.
لكن الحكومة حينها لم تأبه للأمر وأمرت الشرطة وقوات «الباسيج» بقمع الاحتجاجات بأقصى عنف ممكن، وتعرّض المتظاهرون للضرب والاعتقال والتعذيب ولإطلاق النار فى بعض الحالات.
وقد مثّلت تلك الأحداث حينها كلمة النهاية لإمكانية عودة ما سُمى بتيار الإصلاح من داخل النظام، حيث كانت تجربة «محمد خاتمى» 1997 – 2005، ما زالت حاضرة بالأذهان، وظن أنصار الحركة إمكانية استعادتها من خلال وجوه كموسوى وكروبى.
لهذا بدا النظام وقد استفاق سريعاً، ورأى ضرورة محاصرة عودة مثل تلك الأصوات مجدداً فى أى وقت مستقبلاً، وهو ما قام به فعلياً خلال السنوات التى تلت انقضاء فترة حكم «خاتمى»، من خلال ترقية وتصعيد العناصر الأكثر تشدّداً وارتباطاً بدائرة المرشد الأعلى، مثل محمد على جعفرى ومحمد باقر قاليباف وقاسم سليمانى، للسيطرة على الحرس الثورى وأجهزة الأمن من أجل قمع بروز أىٍّ من الحركات الإصلاحية.
الجمهور الإيرانى فى الداخل والخارج ظل يتابع تعامل ومواقف القوى الدولية، والغرب بالخصوص من تلك الأحداث وتفاعلاتها، وتأكد لديه يقين لا يدع مجالاً للشك، أن الغرب لن يكون منخرطاً فى أى وقت فى إسقاط النظام الإيرانى، قد يذهب فى أبعد مدى إلى انتقاد السياسات والضغط الإعلامى عبر وسائله الصاخبة، التى يمكنها أن تخدش السمعة أو تشهر أو تصنع صخباً من تأييد هنا أو هناك.
لكنها بالتأكيد لن تذهب إلى أبعد من ذلك، حيث تقيد تلك الدول الكبرى حزم من المصالح والتوازنات تجعلها تتعامل مع الداخل الإيرانى بالحذر الواجب.
وهذا بالطبع يختلف كثيراً عن رؤية وتعامل الدول ذاتها مع أحداث مماثلة فى دول عربية، أو فى مناطق بعينها فى آسيا وأيضاً دول الجوار الروسى أو الصينى، بل وبعض دول أوروبا الشرقية.
لذلك كان لافتا هذه المرة أن الداخل الإيرانى لم يحتف بأى من التصريحات الميكانيكية، التى خرجت من عواصم غربية بعينها، وانصرف فى درجة اعتمادية متقدمة على الذات وعلى ما يقوم به على الأرض من هزة عنيفة، مراهناً على أن ذلك وحده هو ما يمكنه أن يصنع التغيير.
الاحتجاجات فى شهرها الثانى بدأت برفع شعار «بداية النهاية»؛ وهو شعار متفائل بالطبع وإن لم يخلُ من ثقة بأنه يحقق متغيراً جديداً، يضم إليه كل يوم شرائح وأطيافاً مختلفة لا تخشى أن عدد قتلى الأحداث تجاوز فى شهر واحد (100 قتيل)، فضلاً عن عشرات الآلاف من المصابين.
السلطات قامت بتعطيل الإنترنت على نطاق واسع منذ أسابيع، وأتبعتها بحجب التطبيقات الذكية لتقييد القدرة على الاتصال بين المدن التى صارت تخرج للشارع مناصرة لبعضها البعض، مثلما جرى فى شوارع مدينة أردابيل شمال غربى البلاد، دعماً وتجاوباً مع الإضراب الممتد الذى نفذه التجار فى مدينة «سقز» مسقط رأس «مهسا أمينى»، ليشمل أيضاً محافظتى كردستان فى الشمال الغربى ومهاباد بالشمال.
وبات اللافت أيضاً حجم التجاوب والتأييد الذى تحظى به الاحتجاجات من الشرائح العمرية الشابة فى الجامعات والمدارس، وما دونها من صبية ومراهقين، هؤلاء عبروا بالإضراب عن الدراسة وإشعال النيران بالشوارع وفعاليات أغطية الرأس الرمزية، عن حجم كبير من التململ والضيق لطبيعة ونمط نظام الحكم المرتبط إلى حد الالتصاق بـ«السلطة الدينية» الأعلى.
الثابت أن النظام قلق بشدة رغم ما يحاول أن يبديه من ثبات واتزان افتراضى، واتهامه للأصابع الخارجية لا يلقى له بال من الداخل والخارج، فهناك أجيال جديدة ونساء وفتيات أعلنوا أنهم بصدد البحث عن وطن بملامح جديدة، أفضل وأكثر رحابة مما هى عليه اليوم.
نقلا عن جريدة الوطن 17 أكتوبر 2022
.
رابط المصدر: