بدأت أزمة المصارف الأمريكية تظهر على السطح بإعلان بنك “سيلكون فالي” عن إفلاسه في الجمعة الثانية من شهر مارس الماضي، واشتهر البنك بتوسعه في إقراض الشركات الناشئة العاملة في مجالي التكنولوجيا والرعاية الصحية، وتلى ذلك اعلان بنك ” سيجنتشر ” عن انهياره وضمه للمؤسسة الفيدرالية للتأمين على الودائع، كما أعلنت شركة “سيلفرغيت كابيتال” العاملة في مجال العملات الرقمية أنها ستنهي عملياتها وتصفية البنك التابع لها، ولم تتوقف سلسلة الانهيارات عند ذلك الحد ففي مطلع الشهر الجاري انهار بنك “فيرست ريبابليك” بالرغم من محاولات الحكومة الأمريكية لإنقاذ البنك، ليمثل ذلك تهديداً لا يستهان به للقطاع المصرفي بالولايات المتحدة الأمريكية، إذ أعاد للأذهان مخاوف تكرار سيناريو الأزمة المالية العالمية عام 2008 والتي بدأت بانهيار بنك “واشنطن ميوتشوال” وبنكي “ليمان براذرز” و “بير ستيرنز”.
أسباب الأزمة
كانت أسعار الفائدة في الولايات المتحدة عند مستوياتها القياسية المنخفضة عند ما يقرب من صفر في المائة قبل اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، إلا أنه مع اندلاع الحرب وتداعياتها من تذبذب سلاسل الإمداد العالمية والارتفاعات الغير مسبوقة في أسعار الغذاء والطاقة وانعكاسات ذلك على معدلات التضخم العالمية، وبالتبعية ارتفاع التضخم بالولايات المتحدة، اتخذ البنك المركزي الأمريكي منذ ذلك الحين سياسة تشددية تقوم على رفع مستويات أسعار الفائدة في محاولة لكبح جماح التضخم لتصل إلى أكثر من 4.5%، إلا أنه لم يأخذ في حسبانه تداعيات رفع أسعار الفائدة المتواصل على المستثمرين وبشكل خاص على الشركات الناشئة.
أدى ارتفاع تكلفة حصول المستثمرين على القروض، إلى خفض شهية المستثمرين للمخاطرة، الأمر الذي أثر على الشركات الناشئة وشركات عاملة في مجال التكنولوجيا وهم العملاء الأساسيون لبنك “سيلكون فالي” نظراً لعزوفهم عن المخاطرة، وفي ظل عدم قدرة تلك الشركات على الحصول على التمويل الإضافي اضطرت إلى التهافت لسحب ودائعها من البنك لتلبية احتياجاتها من السيولة.
لذلك قام بنك “سيلكون فالي” ببيع أصوله الخاصة لتلبية طلبات سحب العملاء، وقام بتدبير أموال العملاء عن طريق بيعه محفظته من السندات بخسارة، وخسر البنك نتيجة توسعه في الاستثمار في الأوراق المالية مما وضع نفسه أمام إشكالية نقص كبير في رأس المال مع ارتفاع أسعار الفائدة وزيادة تدفقات الودائع الخارجة ومبيعات الأصول القسرية، إذ قام بشراء سندات ذات العائد الثابت بمليارات الدولارات باستخدام ودائع العملاء على مدى العامين الماضيين وبقيمة منخفضة لأنها دفعت معدلات فائدة أقل مما قد يدفعه السند المماثل إذا تم إصداره في ظل أسعار الفائدة المرتفعة الذي أقرها الفيدرالي الأمريكي في الوقت الحالي، وتجدر الإشارة إلى أنه في العادة تلجأ البنوك لشراء السندات كأداة استثمارية قليلة المخاطر ومضمونة العائد ما لم تضطر إلى بيعها في حالات الطوارئ دفعة واحدة كما حدث مع بنك “سيلكون فالي”.
وبالإضافة إلى الأسباب السابقة يرجع البعض أسباب الأزمة إلى عام 2018 بعد أن تراجعت الولايات المتحدة عن قانون “دود-فرانك” مما أدى إلى إلغاء الضوابط التنظيمية على القطاع المصرفي، ويهدف القانون الذي أقره الكونجرس ووافق عليه الرئيس “باراك أوباما” في أعقاب الأزمة المالية العالمية في عام 2007/2008 إلى استعادة استقرار القطاع المصرفي والرقابة على النظام المالي ومنع تكرار الأزمة المالية التي حدثت بسبب توسع البنوك في عمليات الإقراض وظهور أزمة قطاع العقارات على السطح.
خلفية البنوك الأمريكية المنهارة
يعد بنك “سيلكون فالي” ضمن أكبر البنوك الأمريكية إذ يأتي في المرتبة السادسة عشر من حيث إجمالي الأصول، إذ تبلغ قيمة أصوله 209 مليار دولار، ويمكن متابعة أكبر البنوك الأمريكية من حيث إجمالي الأصول من خلال الشكل التالي:
وقام بنك “سيلكون فالي” في مارس الماضي ببيع محفظة سندات بقيمة 21 مليار دولار تتكون في الغالب من سندات الخزانة الأمريكية، كانت عوائد المحفظة في المتوسط 1.79% وهي أقل بكثير من عائد سندات الخزانة الحالي لأجل 10 سنوات البالغ 3.9% وبالتالي أعلن البنك عن خسارته 1.8 مليار دولار، كما أعلن البنك عن بيعه 2.25 مليار دولار من الأسهم العادية لتخسر الأسهم 60% من قيمتها، ويمكن متابعة نسب تمويل ودائع بنك “سيليكون فالي” من خلال الشكل التالي:
يوضح الشكل السابق اعتماد بنك “سيليكون فالي” بشكل كبير على رأس مال الشركات الناشئة عالية المخاطر إذ تمثل ودائع الشركات الناشئة 29% من اجمالي تمويل الودائع المقدر بقيمة 177 مليار دولار أمريكي بنهاية عام 2022، واعتمد البنك على 7% فقط من التمويل على ودائع بنوك التجزئة التقليدية (المظلل في الرسم باللون الأحمر) من إجمالي حجم الودائع، بحسب التقرير الصادر في 10 مارس 2023 عن بنك “جي بي مورغان تشيس”.
أما بخصوص بنك “سيجنتشر” الذي توسع في الإقراض العقاري وكان له دوراً في جذب ودائع شركات تداول العملات الرقمية فقد أعلن في مارس عن إغلاقه ليمثل ثالث أكبر فشل مصرفي على الإطلاق بعد انهيار بنك “واشنطن ميوتشوال” عام 2008 وإفلاس بنك “سيلكون فالي” في الجمعة الثانية من شهر مارس الفائت، وجاء الإعلان عن انهيار بنك “سيجنتشر” بعد عمليات سحب الودائع الكبيرة التي حدثت، وتخوف إدارة البنك من أن يمثل استمرار عمله تهديداً لاستقرار النظام المالي الأمريكي بأكمله، وجاء إغلاقه نتيجة الذعر الذي سببه انهيار بنك “سيلكون فالي”. تجدر الإشارة إلى أن إجمالي أصول بنك “سيجنتشر” بلغت 110. 4 مليار دولار أمريكي وسجلت ودائعه 88.59 مليار دولار أمريكي اعتبارًا من 31 ديسمبر 2022 بحسب المؤسسة الفيدرالية للتأمين على الودائع والتي أعلنت عن إغلاق البنك نتيجة المخاطر المماثلة التي واجهها بنك “سيلكون فالي”.
وفيما يتعلق ببنك “سيلفرغيت كابيتال” الذي توسع في عملية تمويل وجذب ودائع شركات تداول العملات الرقمية يمتلك ما يزيد عن 11 مليار دولار من الأصول، وأعلن البنك خلال الأيام الماضية عن تصفيته وقيامه بسداد جميع الودائع بالكامل، وخسر البنك نحو مليار دولار في الربع الرابع من عام 2022 بسبب بيع سندات دين بقيمة 5.2 مليار دولار وانخفاض ودائع العملاء بنسبة 68% لتصل إلى 3.8 مليار دولار، واستحوذت شركتي “سيتادل سيكيوريتيز” وشركة “بلاك روك” مؤخرًا على حصص رئيسية في البنك لترتفع قيمتهما 5.5% و7% على التوالي.
وبالنسبة لبنك “فيرست ريبابليك” فقد أعلن إفلاسه بخسارة أسهمه 97% من قيمتها بعد قيام عملائه بسحب أكثر من 100 مليار دولار من الودائع بالرغم من المحاولات العديدة التي تمت لإبقاء البنك المتعثر صامداً، وبلغت قيمة البنك أكثر من 20 مليار دولار في بداية الشهر الماضي ويعرف بأعماله الواسعة في مجال القروض العقارية، وتم تصنيفه من ضمن أكبر 14 مقرض في الولايات المتحدة في نهاية العام الماضي، واستحوذ بنك ” جي بي مورجان” الذي يعد أكبر بنك أمريكي بأصوله التي تزيد عن 3.2 تريليون دولار على بنك “فيرست ريبابليك” مضيفاً على أصوله 200 مليار دولار في صفقة تمت مع شركة تأمين الودائع الفيدرالية لترتفع أسعار أسهم “جيه.بي مورجان” 3.3%، ويعد الاستحواذ الذي تم دلالة على إلى أكبر فشل مصرفي منذ الأزمة المالية لعام 2008.
التحركات منذ بداية الأزمة المصرفية الأمريكية
خارجياً، خلال الساعات القليلة من اعلان اول بنك إفلاسه (بنك “سيلكون فالي” ) أعلن بنك إتش إس بي سي «HSBC» على استحواذه فرع بنك “سيليكون فالي” بالمملكة المتحدة بقيمة 1.21 دولار أمريكي، وطمأن وزير الخزانة البريطانية الداخل البريطاني من أن النظام المصرفي البريطاني محمي من بدايات الأزمة التي تواجه القطاع المصرفي الأمريكي، وذلك بالرغم من أن هناك حسابات لما يقرب من 180 شركة تكنولوجيا ناشئة وشركات عاملة في علوم الحياة بريطانية في بنك “سيلكون فالي”، كما صرحت الحكومة البريطانية إلى أنها ستقدم دعمًا فوريًا للمودعين للسماح للشركات بدفع رواتب موظفيها والوفاء بالتزامات السيولة النقدية، بجانب تقديم شركات التكنولوجيا البريطانية طلباً لوزير الخزانة البريطاني “جيريمي هانت” للتدخل لحل أزمة الشركات البريطانية.
كما امتدت الأزمة المصرفية الأمريكية لبنك “كريدي سويس” المنتشر أفرعه في 50 دولة حول العالم، والذي كان يعد ثاني أكبر بنك في سويسرا بعد بنك ” يو بي إس” بحجم أصول بلغت عام 2021 حوالي 1.75 تريليون دولار أمريكي، واعتباراً من نهاية عام 2022، انخفضت الأصول المُدارة في البنك إلى حوالي 1.4 تريليون دولار أمريكي، وفي منتصف مارس 2023 انهار البنك ليستحوذ عليه منافسه بنك ” يو بي إس” مقابل حوالي 3.3 مليار دولار أمريكي، بهدف دعم النظام المصرفي العالمي ومنع امتداد الأزمة إلى مؤسسات مالية أخرى.
وبالتوازي داخلياً، تكافح الولايات المتحدة لاحتواء تداعيات فشل بنك “سيلكون فالي” بعد إعلان المؤسسة الفيدرالية للتأمين على الودائع عن ضمه لمنع انتقال الأزمة للقطاع المصرفي الأمريكي ككل، ووفقاً للتصريحات الرسمية فإن مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي ووزارة الخزانة والمؤسسة الفيدرالية للتأمين على الودائع تحركوا بشكل سريع لحماية ودائع العملاء ودعم الثقة في النظام المصرفي، كما أعلن الفيدرالي الأمريكي عن برنامج إقراض طارئ لمنح البنوك التي تعاني من ضغوط نقدية ومشاكل سيولة شروطًا أسهل على القروض قصيرة الأجل، كما أعلنت المؤسسة الفيدرالية للتأمين على الودائع عن طرح أصول بنك “سيلكون فالي” للمزاد. وحملت آخر تصريحات للرئيس الأمريكي “جو بايدن” رسائل طمأنة لأصحاب الودائع في بنك “سيلكون فالي” وأكد على أن دافعي الضرائب لن يتحملوا خسائر البنوك، وتعهد بحماية الشركات الناشئة مع الوعيد بمحاسبة إدارة بنوك “سيليكون فالي” و”سيجنتشر” و “سيلفرغيت كابيتال” بسبب فشلهم في إدارة الأزمة.
وتعد سلسلة الانهيارات تلك لبنوك كبيرة كان لها ثقل في النظام المصرفي العالمي وتحظى بثقة واسعة من قبل العملاء بمثابة حقيقة قاسية تتمثل في احتمالية فشل مؤسسات موثوق بها مما يعرض ودائع العملاء للخطر، وهو ما يتطلب وضع أسس للتنظيم والإشراف ومعايير احترازية من قبل الفيدرالي الأمريكي لتفادي تلك الانهيارات، أيضاً انتهج الفيدرالي الأمريكي سياسة نقدية متوازنة تقوم على إبطاء وتيرة رفع أسعار الفائدة لتحقيق التوازن بين السيطرة على التضخم المرتفع والمحافظة على استقرار النظام المصرفي بعد أن أثار الاضطراب في الصناعة المصرفية مخاوف من انهيار بنوك أخرى.
وبالرغم من ذلك فإن انتشار أفرع بنك “سيلكون فالي” في بريطانيا وكندا والصين والدنمارك وألمانيا والهند وإسرائيل والسويد فضلاً عن انخراط عدد من الشركات العالمية في معاملات مع البنوك الأمريكية الخاسرة مثَل أيضًا تهديداً واضحاً من تحقيق الولايات المتحدة لنمو ضعيف واحتمالية ركود اقتصادي بجانب مخاطر انتقال الأزمة خارج الولايات المتحدة الامريكية، وهو ما حدث بالفعل بعد فشل بنك ” كريدي سويس” السويسري، وهنا يطرح تساؤل حول مدى قدرة الولايات المتحدة على استعادة الثقة في القطاع المصرفي واحتواء الأزمة بشكل سريع أم سيعاد سيناريو الأزمة المالية العالمية عام 2007/2008 التي انهكت النظام المصرفي العالمي في وقت يعاني فيه الاقتصاد الدولي من أزمات متتالية من عدم التعافي الكامل من وباء كورونا واستمرار الحرب الروسية الأوكرانية وتبعاتها؟!
.
رابط المصدر: