تأجل اجتماع سوري – تركي بوساطة روسية كان مقررًا الأسبوع الماضي، وقال وزير الخارجية التركي مولود تشاووش أغلو لدى عودته من زيارة مهمة إلى مصر تهدف إلى تطبيع العلاقات ما بين القاهرة وأنقرة، إن عملية التأجيل جرت بناء على طلب روسي لأسباب فنية. ربما يعود ذلك إلى الانشغال الروسي بالزيارة الاستراتيجية للرئيس الصيني شي جين بينج إلى موسكو، وربما يفسر الأمر وفقًا لتصريحات مسؤولين أتراك مثل أورهان ميري أوغلو، عضو المجلس التنفيذي المركزي للحزب الحاكم، بأن جوهر المباحثات التي يتمحور حولها اللقاء لم ينضج بعد، في ظل إشارة الأخير إلى أن الرئيس السوري بشار أعلن أن هدفه هو إنهاء الوجود العسكري التركي في سوريا.
إيران كقاسم مشترك في ملفات الأزمات الإقليمية
في واقع الأمر، لا يمكن عزل ما يحدث في سوريا عن التطورات الإقليمية والدولية، وأبرزها بالطبع اتفاق بكين بين الرياض وطهران، بل لا يمكن استبعاد العلاقة بين اتفاق بكين والملف السوري، خاصة وأن إيران قاسم مشترك في أزمات الإقليم. وفي هذا السياق، يمكن النظر إلى تطورات ما بعد اتفاق بكين وما يحمله من مؤشرات إيجابية، من هذه المؤشرات النقاش العراقي الإيراني في ملف ضبط الحدود المشتركة خلال زيارة أمين عام مجلس الأمن القومي على شمخاني إلى بغداد هذا الأسبوع، على التوازي مع الزيارة التي يقوم بها وزير التجارة السعودي ماجد القصبي تحت عنوان تطوير الشراكة بين البلدين. وهناك مؤشر آخر يظهر من التصريحات الإيرانية الإيجابية تجاه السعودية من رئيس اللجنة الاستراتيجية للعلاقات الخارجية الإيرانية كمال خرازي خلال ندوة أقامها المعهد الدبلوماسي التابع لوزارة الخارجية السورية.
نجحت روسيا في إبرام اتفاق “سوتشي – يناير 2018″، الذي شكل مدخلًا لخفض التصعيد في سوريا، رغم التحديات التي واجهها الاتفاق لاحقًا لكنه لا يزال صامدًا، والتحديات التي فرضها واقع الاتفاق، والتي حافظت على نفوذ كل الأطراف الإقليمية في سوريا بل والدولية بشكل غير مباشر، حيث يتواجد التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة إلى حد على خطوط التماس مع مناطق خفض التصعيد. وأعاد الاتفاق رسم مناطق نفوذ القوى الإقليمية وبالتعبية القوى المحلية، وحافظت للنظام السوري على ما يصل إلى 62% من مساحة السيطرة في البلاد، بالإضافة إلى ما يقارب 22% لصالح الاكراد، و أكثر من 10% لصالح المعارضة. ومع ذلك، لا يمكن القول أن صيغة الاتفاق يمكن اعتمادها كمخرج للأزمة السورية بتعقيداتها الراهنة.
من المعروف أن تركيا تسعى إلى إنشاء منطقة عازلة في شمال العمق السوري تصل إلى 30 كلم، وإعادة اللاجئين السورين إلى بعض تلك المناطق، بالإضافة إلى ترتيبات الانتشار العسكري في تلك المنطقة، علاوة على مناطق وجودها والمعارضة السورية المسلحة في إدلب وحلب، على اعتبار أن ذلك يشكل خطة عمل شاملة للتعامل التركي مع القضية الكردية. ومع ذلك، لا يمكن تجاهل موقف النظام من هذا الطرح، والمأزق الذي قد يواجهه في إطار خريطة التوازنات الداخلية، مقابل الأكراد ثم المعارضة.
بالنسبة للأكراد لا يمكن القبول بتطبيع العلاقة مع النظام كثمن لتطبيع العلاقة ما بين النظام وأنقرة، وكذلك بالنسبة لتركيا فإن ورقة المعارضة السورية لا بد أن تبقى كورقة ضغط. وبالتالي لا يمكن في ضوء هذه المعادلة حل المسألة. وبالتالي فإن الحل على هذه الطريقة قد يحقق له القدرة على التعاطي مع الأزمتين الكردية واللاجئين معًا، لكن ما هو المقابل أو الثمن الذي سيحصل عليه النظام السوري في المقابل؟، لا يمكن تصور أن مجرد استئناف العلاقة ما بين الطرفين قد يكون هو الثمن المرضي للنظام السوري.
البعد الآخر من هذه الزاوية هو أن الاجتماع المؤجل يضم إيران أيضًا، واستفادت إيران من الواقع السوري في بناء توازنات في مقابل إسرائيل، صحيح أنها دعمت بقاء النظام، ومع ذلك يتحمل النظام عبء الوجود العسكري الإيراني في سوريا، لاسيما في ظل الهجمات الإسرائيلية المستمرة بزعم استهداف هذا الوجود. ومع ذلك، فإن تمسك النظام السوري بإنهاء الوجود العسكري التركي من المفترض أن يكون هو المبدأ ذاته بالنسبة لإيران، وهو ما لا يشكل ذريعة فقط لإسرائيل ولكن ذريعة أيضًا للوجود الأمريكي في سوريا. إضافة إلى موقف واشنطن من بناء نفوذ مقابل للوجود الروسي في سوريا. ومن جهة أخرى، سيستفيد العراق بالتعبية بالنظر إلى الوجود التركي في العراق.
تعقيدات مركبة
واقعيًا، لا يمكن تفكيك هذه التعقيدات جملة واحدة، بالنظر إلى طبيعة الوجود المركب الإقليمي والدولي على الساحة السورية، والتي يتذرع كل طرف فيها بأن وجوده يستهدف الحرب على الإرهاب، بينما يخلق هذا الوجود الفرصة لبقاء الإرهاب أو إعادة انتاج الظاهرة في سوريا مرة أخرى. ومع الأخذ في الحسبان أن الرئيس السوري أكد خلال زيارته الأخيرة إلى موسكو خلال مارس الجاري الحاجة إلى زيادة التعاون والحضور العسكري الروسي، إضافة إلى اندفاع إيران لتعزيز بناء قدرات دفاعية جديدة في سوريا؛ ستكون كل هذه العوامل بمثابة تحديات لبقاء الأوضاع على ما عليه، وستحد من إمكانية عملية تسوية سياسية للأزمة يمكن أن تحقق الاستقرار في سوريا.
ومع ذلك، لا يمكن تجاهل أهمية المباحثات الرباعية المرتقبة، والتي يرجح أنها ستعمل على إعادة ترتيب المشهد وتحسين وضع خفض التصعيد في الساحة السورية، وقد لا تكون بداية لحل نهائي وشامل للأزمة السورية، إلا أنها تبقى خطوة على الطريق، في ظل الانفراجة الحالية التي تشهدها معظم الملفات الإقليمية. ولكن من الأهمية بمكان الأخذ في الحسبان أن خفض مستوى الوجود التركي أو إعادة الانتشار -والذي سيقابل بإعادة انتشار على الجانب الآخر بالنسبة لإيران، وربما ستسعى الأخيرة إلى ملئ الفراغ حال تقلص الوجود العسكري التركي- لن يكون في صالح إنهاء الأزمة أو تسويتها. ذلك إضافة إلى الانتباه لبعد آخر، وهو أن اتفاق بكين ربما يخفف الضغوط الاقتصادية على إيران، في حين أن تركيا في المقابل يتعين عليها دفع فاتورة ما بعد الزلزال الذي شهدته البلاد، وقد يساعد ذلك إيران في تأكيد نفوذها.
في الأخير، من المتصور أن الهدف من اتفاق بكين بين طهران والرياض هو إعادة الاستقرار إلى اليمن كجزء من إعادة الاستقرار الاقليمي، وإعادة إيران كدولة طبيعة في الإقليم تتوقف عن الممارسات والسياسات التوسعية التي أضرت بالأمن الإقليمي، وبالتالي يتعين على روسيا استيعاب الأمر ذاته -صحيح أنها ليست في موقع بكين بسبب الحرب الروسية الأوكرانية، إلا أن حسابات موقعها في الأزمة السورية تؤهلها لذلك- ومن ثم فالهدف هو كيف يمكن استعادة الاستقرار في سوريا، والتأكيد على دور طبيعي لكل من ايران وتركيا على الساحة السورية، وألا تبقى كساحة لتهديد الأمن الإقليمي بشكل عام.
لا يمكن استبعاد مصالح تركيا من الساحة السورية كدولة جوار استراتيجي، كذلك بالنسبة لإيران التي تراها مركز ثقل في النفوذ الإقليمي، لكن كيف يمكن تغير سياسات عسكرة السياسة الخارجية كأداة اعتمدت في السياسة الخارجية تجاه سوريا؟ ومع ذلك، يمكن بناء ترتيبات أمن متدرجة على مراحل متعددة تعالج هواجس كافة الأطراف؛ على سبيل المثال كمرحلة أولى بالنسبة لتركيا، من الأهمية بمكان إنهاء العلاقة مع المعارضة المسلحة في إطار عملية إدماج مرتبطة بالتسوية السياسية، حتى يمكن أن تعالج قضية الأكراد في المقابل لذلك، من خلال عملية تسوية في الوقت ذاته على قاعدة الاندماج مع النظام.
وهو ما يحل المعضلة للجانبين التركي والسوري، لاسيما وأن هناك قاعدة أصبحت متفقًا عليها وهي أنه لا يمكن القبول بعملية تقسيم سوريا، وفي هذا السياق سيكون على الولايات المتحدة التخلي عن دعم الاكراد عسكريًا، وهي نقطة أخرى ستشكل قيمة مضافة للعلاقات التركية – الأمريكية، وتحويل فائض الدعم للحرب على الإرهاب بشكل حصري وجماعي، والتخلي عن سياسات بناء موازين القوى التي تبقي على الأزمة وتزيدها تعقيدًا بمرور الوقت. ينطبق الأمر ذاته على الوضع الإيراني الذي يتطلب تخفيض مظاهر الوجود العسكري؛ لمنح فرصة أفضل للتسوية السياسية وتخفيف العبء على النظام.
.
رابط المصدر: