زياد الفيفي
تأخذ المعارك طابع الاستحالة عند تعدد الجبهات، خاصةً عندما لا يختار صاحبها جبهات معاركه الكثيرة، بل تختاره هي، لتُصعّب المعركة أمامه، ويزداد الأمر صعوبة، عندما يتعلق بأعداء غير مرئيين.
ففي زمن كورونا، يتذكر العالم عصور الأوبئة التاريخية التي فتكت بأمم، وهزمت قادة، استعصوا على أقوى المعارك، كما هو الحال من نابليون بونابرت. القائد الفرنسي الشهير، الذي قاد حملته إلى الشرق الأوسط أواخر القرن الثامن عشر وانتهت باستيلائه على مصر، قرر بعدها فتح جبهة جديدة على الشام مطلع القرن التاسع عشر.
يصف المؤرخ عبد الرحمن الجبرتي في كتابه “عجائب الآثار في التراجم والأخبار” حملة القائد الفرنسي على الشام، قائلاً، “تحرك الجيش الفرنسي شمالاً وعند وصوله إلى العريش، شرح نابليون أهداف حملته في رسالة كتبها لحكومة باريس، التي تنص على حاجة الحامية الفرنسية في مصر لحماية الجبهة الشمالية، والتضييق على المراكب الإنجليزية التي تتزود بالتموين من موانئ الشام”. إلا أن حملته لم تسر كما خطط لها، إذ تعثر القائد بعد سلسلة من الانتصارات على أسوار عكا.
ويرجع عدد من المؤرخين سبب الهزيمة تلك إلى مقاومة المدينة الشامية واستعدادها الجيد للحصار، بعد أخبار انتصاراته المدوية في غزة ويافا والرملة، إلا أن الجبرتي لديه رأي آخر، فلا يقلل المؤرخ المصري من صمود عكا، لكنه يبرز سبباً آخر كان ضمن اهتماماته دائماً في تدوينه للتاريخ، وهو الطاعون. إذ وفي معرض توثيقه لوباء الطاعون الذي فتك بالمنطقة في تلك الفترة، يذكر الجبرتي كيف استشرى الوباء المعدي بين جيش نابليون على أسوار عكا، ما فتح جبهة جديدة غير متوقعة للجنرال الذي لا تهزمه الجيوش، معركة أمام عدوٍ غير مرئي فاقمت من تحدياته التي تسببت بانهيار قواته في الأشهر الأولى من الحصار، لينسحب عائداً إلى القاهرة وقت فتك به تعدد الجبهات بين قوات قادر على التعامل معها، وقوات مجهرية فشل في مجاراتها.
ترمب والعدو المجهري
ما إنْ أطل العام الانتخابي برأسه على المشهد السياسي الأميركي، إلا وبدأت أجراس حرب سياسية لا ينهي قرعها سوى غياب شمس الثلاثاء الكبير في الولايات المتحدة. هذه الحرب وأعداؤها الكثر لم تكن مفاجئة بالنسبة للرئيس المثير للجدل، كيف لا وقد استعد لها على مدى السنوات الـ4 الماضية بإنجازات اقتصادية غير مسبوقة، يلوّح بها في وجه أعدائه.
لكن غير المتوقع هو ذلك العدو المجهري الذي قرر المشاركة في معارك الرئيس الكثيرة، لتبدأ بعدها حرب الإدارة الأميركية على فيروس كورونا لتدفع بالولايات المتحدة إلى رأس قائمة ضحاياها بأكثر من مليوني إصابة و122 ألف وفاة.
معركة الوباء المهددة لإنجازاته التي استلها في وجه خصومه الديمقراطيون في عام انتخابه المفترض، هي ذاتها المعركة التي استلوها هم بدورهم في وجهه لإسقاطه في نوفمبر (تشرين الثاني).
ويسعى حاكم البيت الأبيض لتجنب هذه المعركة برمي الكرة في ملعب الصين، إذ يصر على اتهام بكين بالتسبب بانتشار الوباء في أميركا مرة بالإهمال وعدم الشفافية في تحذير العالم منه، ومرة باتهامها بتصنيعه مختبرياً في مختبر “ووهان” القريب من سوق اللحوم الرطبة الذي خرج منه الوباء، بحسب السلطات الصينية، واصفاً إياه بـ”الفيروس الصيني”، في حين تتهمه الصين بمحاولة إخفاء فشله في مكافحة الوباء بتحميلها مسؤولية انتشاره.
أما في الجهة الأخرى، فيخوض الرئيس جبهة ثانية مع الفيروس أيضاً، إذ يهدد الإغلاق الذي استمر لفترة ليست بالقصيرة في بعض الولايات الموبوءة بتبديد إنجازاته الاقتصادية، الصخرة الوحيدة التي يتكئ عليها في مواجهة منافسه الديمقراطي جو بايدن، بعد أن دفع الإغلاق بالبطالة إلى أعلى مستوياتها منذ 50 عاماً.
إذ تجاهل ترمب تحذيرات أنتوني فاوتشي، كبير خبراء الأمراض المعدية في البلاد، حول مخاطر إعادة فتح الاقتصاد، واصفاً تحذيراته في جلسة استماع له أمام الكونغرس بـ”غير المقبولة”، مهدداً حكام الولايات باستخدام صلاحياته لإعادة فتح الاقتصاد ما لم يبادروا هم بذلك.
بولتون… معركة غير منتظرة
لم يواجه نابليون الذي هزمه الوباء الداهم وسط المعركة عدواً ثالثاً من داخل “خيمته التي شهدت الأحداث”، كما يحدث مع ترمب.
إذ لا يكاد يعين مسؤولاً في إدارته إلا ويستقيل بعد إنهاء فصول كتابه الجديد، كما حدث مع جون بولتون، مستشاره السابق للأمن القومي، الذي فتح عليه جبهةً جديدة بكتابه المطبوع حديثاً “الغرفة التي شهدت الأحداث”، رغم سعي الرئيس لوقف نشره بحجة احتوائه على معلومات تهدد الأمن القومي.
إذ تضمن الكتاب معلومات أثارت الرأي العام الأميركي، كطلب ترمب من الرئيس الصيني مساعدته في الانتخابات المقبلة بزيادة حجم المشتريات الصينية من المنتجات الزراعية الأميركية.
بالإضافة إلى معلومات قدمته جاهلاً بالسياسة والجغرافيا، كاعتقاده أن فنلندا جزء من روسيا، وتفاجئه بمعلومة أن بريطانيا قوة نووية في لقاء مع رئيسة الوزراء السابقة تيريزا ماي.
وينتقد بولتون، في كتابه، الديمقراطيين، ويقول إنهم “أساءوا إدارة إجراءات العزل” بتركيزهم على قضية أوكرانيا دون غيرها من الأمور. ويقول إنه لو وسّع الديمقراطيون نظرتهم لاقتنع العديد من الأميركيين بضرورة عزل ترمب لارتكابه “الجرائم والجنح الكبرى” التي تقتضي إزاحته.
وتسببت هذه المعلومات، ومعلومات أخرى أكثر حساسية بإحراج الرئيس، الذي يتطلع لدورة رئاسة جديدة نهاية العام، لتنضم لصراعاته مع منافسه بايدن والوباء الذي يهدد إرثه الاقتصادي ورجاله السابقين الذين لا يكتمون أسراره.
الرهان على “المحاربين”
بعد ثلاثة أشهر من توقف الأنشطة والتجمعات العامة في الولايات الأميركية، عاد ترمب إلى معركته باستهلاله حملة الانتخابية في ولاية أوكلاهوما واصفاً أنصاره بـ”المحاربين”.
ويراهن الرئيس الأكثر إثارة للجدل على قاعدته الشعبية التي انتخبته في المرة الأولى رغم افتقاره للإنجازات السياسية والاقتصادية الوطنية، وهو القادم من سوق المال لا من المقاعد البرلمانية والمناصب المحلية.
وقال الرئيس في مستهل مهرجانه الانتخابي “أود أن أشكركم على قدومكم، أنتم محاربون”، واصفاً وسائل الإعلام التي يتهمها بمحاولة إخفاء قاعدته الانتخابية بـ”المظللة”، ليقدم بعدها خطاباً انتخابياً متماسكاً، فتح فيه النار على خصومه.
وهاجم حاكم البيت الأبيض خصمه جو بايدن، ووسائل الإعلام اليسارية، وحكام الولايات الديمقراطيين الذي يتهمهم بالتواطؤ مع كورونا بإصرار بعضهم على استمرار الإغلاق، ومع “المتظاهرين المخربين” لعدم إبدائهم حزماً في مواجهتهم.
مُحمَلاً بكل هذا، ينتظر الرئيس الطامح إلى إعادة انتخابه عاماً مثقلاً بالمعارك متعددة الجبهات، منها ما هو مرئي ومنها ما هو غير ذلك، ما يهدد صموده في الانتخابات الوشيكة، الأمر الذي يعيدنا إلى معركة نابليون المتعددة مع المرئيين والمجهريين، التي اضطر بعدها القائد الفرنسي لاختلاق قصة نصره في الشام بعد عودته لمصر، وتحطيمه المزعوم لأسوار عكا. فهل يضطر ترمب لخلق قصة نصر مشابهة في نوفمبر؟
رابط المصدر: