أحمد عليبة
عندما طرح مجلس النواب رؤيته لخطة انتقالية جديدة بعد فشل الانتخابات الليبية، في 24 ديسمبر الماضي، حدد مسلسل الخط الزمني لتنفيذها بنحو 14 عشر شهرًا تقريبًا، أي بحدود إبريل – مايو وربما يونيو 2023، على اعتبار أن هناك إجراءات تتطلب التوافق على تلك العملية مع مجلس الدولة، يبدأ العد من خلالها إذا ما توافق الطرفان. وفي أعقاب الجولة الثانية للجنة المسار الدستوري في القاهرة رجح أعضاء من المجلس الأعلى للدولة (الشريك في الاتفاق السياسي) أنه في حال إنجاز التوافق مع مجلس النواب على القاعدة الدستورية، وهو أمر وارد في الجولة الثالثة من الحوار (يونيو 2022) يمكن إجراء الانتخابات في مارس المقبل، وبالتالي فإنّ هناك تقاربًا هامشيًا في الجدول الزمني ما بين المنظورين، لا يمكن اعتباره إشكاليًا في حال التوافق السياسي بين الطرفين.
لكنّ السؤال الذي يطرح نفسه في ظل هذه الأجواء التي تحمل قدرًا من التفاؤل بشأن هذه الجزئية، يتعلق بإمكانية إجراء الانتخابات بالفعل في ضوء هذا التوافق. وفي واقع الأمر، يمكن سرد قائمة طويلة من التحديات التي يعرفها القاصي والداني من المراقبين لمسار وتطورات الملف الليبي، فالتوافق داخل الكيان التشريعي حتى نهاية المطاف بما يشمله من إجراءات لاحقة تتعلق بالمفوضية العليا للانتخابات والقوانين التي ستترتب بدورها على القاعدة الدستورية، وهو ما يعني إزاحة العقبة الأكبر في حالة الانسداد السياسي الراهنة. لكن العقبة الأخرى تتمثل في الثنائية الحكومية ما بين سرت وطرابلس، أو رئيس الحكومة المكلف من البرلمان فتحي باشاغا ورئيس حكومة الوحدة عبد الحميد الدبيبة الذي أعلن أنه لن يتنازل عن السلطة إلا في ظل حكومة منتخبة. وهو سياق إشكالي لا يمكن التغاضي عنه خاصة مع تكييف الطرفين بشكل متعادل في موازين القوى بشكل عام، وعدم قدرة أي منهما على حسم الخلاف.
على هذا النحو، يمكن إعادة طرح التساؤل الحالي بصيغة أخرى، هي: هل يمكن إجراء الانتخابات في ظل هذا الوضع الذي تتواجد فيه حكومتان في شرق وغرب ليبيا؟ وهو سؤال متداول ضمن الصيغ المتداولة حاليًا للخروج من هذا المأزق. والبعض يطرح حلًا إشكاليًا هو وجود حكومة ثالثة بصيغ مختلفة، لكن هذا الطرح قد يزيد الأزمة تعقيدًا أكثر مما هي عليه، بالإضافة إلى أنه حل لا يلقى استجابة من النخب الفاعلة. لكن بالعودة إلى السؤال يمكن وضع عدة نقاط إشارية، منها ما يلي:
قد تكون الانتخابات في الأوضاع الطبيعية المستقرة في الدول هي انعكاس للاستقرار العام في حد ذاته، لكن لا يمكن قياس هذا الوضع في الحالة الليبية، بمعنى أنه لا يوجد استقرار شامل، بل ومن الصعوبة بمكان إيجاده وفق الخبرة الليبية التي تجاوزت عقدًا من الفوضى الشاملة في البلاد، وبالتالي ليس من المنطقي التعويل على الانطلاق من نقطة استقرار في ظل حكومة انتقالية موحدة تقود إلى نقطة استقرار أخرى، وإلا كان الحديث هنا عن مجتمع مثالي سياسيًا، بالإضافة إلى أنه يجافي الواقع الليبي في حقيقة الأمر من حيث دراسة تطلعات النخب السياسية ومحورية مصالحها المتباينة في هذا السياق، وإلا كان لدى ليبيا حاليًا سلطة ما بعد المرحلة الانتقالية التي أقرها اتفاق جنيف ولأُجريت الانتخابات.
انطلاقًا من النقطة السابقة، فإن إجراء الانتخابات في ليبيا، هو ما يمكن التعويل عليه لإنهاء الانقسام المتجذر والمتكرر في الحالة الليبية وليس العكس، وهو ما يعني الإجابة بـ”نعم” على السؤال المركزي في الحالة الليبية، وهو أنه من الأهمية بمكان إجراء الانتخابات الليبية حتى ولو في ظل حالة الانقسام، لكن هذه الإجابة تقود إلى متوالية من الأسئلة الخاصة بالكيفية، والضمانات، والإجراءات الكفيلة بالوصول إلى هذه المحطة للخروج من المأزق الراهن.
النقطة الإشارية الثالثة أن هناك رغبة دولية وإقليمية للوصول إلى تلك المحطة التي تعثرت فيها كافة الأطراف، تتوازى مع رغبة داخلية في إنهاء الوضع الراهن، وبالتالي لا توجد رغبة بأي شكل من الأشكال في خوض مرحلة انتقالية جديدة، بقدر ما هناك اتجاه لمعالجة الإخفاقات في المرحلة الحالية، حتى لا تعود الأزمة إلى المربع صفر، وتدخل البلاد مجددًا في مرحلة احتراب أخرى، خاصة وأن هناك مؤشرات على وقع “قعقعة السلاح” في طرابلس.
هناك أيضًا نقطة إشارية تالية تتعلق بدرس آخر مستفاد من التجربة الليبية، وهو أنه لا يمكن الرهان على اضطلاع حكومة بإجراء الانتخابات، وتحميلها مسئولية الإخفاق في حال عدم حدوثها على نحو ما جرى مع الدبيبة. ففي الأخير، تتحول رغبة الحكومة أو السلطة المفترض أنها انتقالية إلى رغبة في البقاء، وتتحول من سلطة تنفيذية لجدول أعمال انتقالي إلى جماعة مصالح، تمتلك أدوات الدعاية بكل السبل للبقاء في المشهد، أو لإعادة إنتاج نفسها من مدخل آخر.
يضاف إلى ما سبق أن هناك خلطًا في الأوراق، أو بشكل أدق هناك رغبة في استمرارية لعبة الكراسي الموسيقية في المشهد الليبي، بحيث لا يعرف ما هي حدود أدوار اللاعبين، أو ازدواجية الأدوار، ما بين البرلمان كمشرع أو كلاعب سياسي، وهو ما ينطبق على مجلس الدولة، وأنتجت هذه الأزمة ثقافة الصفقات مع إعادة تدوير النخب بشكل متعاقب ما بين اللاعبين في إطار سياسة النفس الطويل، والبقاء للأقوى، لكن يعتقد أن هذه الأوضاع وصلت إلى مداها الأخير، مع تآكل مشروعية كافة الأجسام وتزايد المطالب بالتغيير كضرورة وليس كخيار.
في سياق هذه النقاط الإشارية لسيناريو محتمل في حال إنجاز الجولة الثالثة من الحوار والتي سيتعين على الأطراف بالتبعية الانتقال للخطوة التالية وهو السيناريو التنفيذي، وهو ما يجب الاستثمار فيه لجني أرباح الخطوة الحالية. ومرة أخرى يتوجب هنا التوقف عند الدروس المستفادة من خبرة تكرار المراحل الانتقالية، ومنها على سبيل المثال:
شمولية القاعدة الدستورية: حيث إن القاعدة الدستورية هي قفزة إلى الأمام من سيناريو التباطؤ الراهن في المسار الانتقالي المتخم بالإشكاليات، والتي يفترض معها أن تضع اللجنة المكلفة بوضعها حسابات القضايا التي يمكن أن تنفجر في السيناريو التالي، بحيث تشكل القاعدة الدستورية نقطة تحول لا تقتصر فقط على العملية الانتخابية، أو حتى العملية السياسية. هناك ملف المصالحة الاجتماعية، أو الإقصاء السياسي لطرف، وعدالة توزيع الموارد على قاعدة الشفافية ووفقًا للاحتياجات المطلوبة، وليس في إطار محاصصة أقاليم، وهو نهج آخر تبلور في سياق المراحل الانتقالية، وأصبح بندًا سياسيًا في تشكيل الحكومات واللجان السياسية، وصولًا إلى أدنى المراحل. وفي السياق ذاته أيضًا، هناك ضرورة التوازن في الصلاحيات وتوزيع الأحمال السياسية بشكل مرن في إطار السلطة التنفيذية، فأحد عوامل الإخفاق في الانتخابات السابقة هي أن صلاحيات الرئيس مطلقة، ولا يمكن معالجتها بإعطاء الحكومة صلاحيات مطلقة أيضًا.
الاعتراف بالنتائج: وهي نقطة محورية عند الوصول إلى الانتخابات، فالانتخابات في حد ذاتها تظل وسيله وليست غاية، وهي نقطة ذات صلة بالمحور السابق الخاص بشمولية القاعدة الدستورية، من حيث إمكانية السماح لكافة الأطراف بالترشح في الانتخابات. لكن المعضلة في هذه الجزئية قد لا تقتصر على النخب السياسية، بقدر ما تتوقف على طبيعة المجال العام، من حيث العودة إلى الاحتكام للسلاح. وهنا يمكن الإشارة إلى أنه على الرغم من الإخفاق في إحراز أي تقدم أو اختراق ملموس في توحيد القوات المسلحة الليبية، لكن يبدو أن هناك مدونة سلوك ينتهجها الطرفان، أكدت عليها رئاسة أركان الغرب التابعة للرئاسي، بقيادة محمد الفريق محمد الحداد، الذي يتمحور خطابه حول عدم الانخراط في الأزمة السياسية، أو الانحياز لطرف، كما أكدت القيادة العامة هي الأخرى بأن المعضلة في الغرب ليست في العسكريين، وإنما في المليشيات التي تحولت بدورها إلى لاعب سياسي مدجج بالسلاح، خاصة وأنها بطبيعة الحال قوى انتهازية تنتعش في حالة الفوضى والانقسام.
معضلة المليشيات والضمانات الأمنية: في ظل الحاجة إلى ضمانات أمنية لتهيئة الأجواء للعملية الانتخابية، وهي النقطة الجوهرية التي سلفت الإشارة إليها مع تسليط الضوء على دور المليشيات في العملية السياسية، أو في المجال العام الليبي وليس فقط العامل السياسي، ولا يعتقد أن هذه المعضلة يمكن حلها بشكل مؤطر، أو في إطار جدول زمني، أو وفق الحلول التقليدية في إطار برامج الأمم المتحدة بحلها وإعادة إدماجها وخلق مصالح لها، وهو أمر كان ممكنًا في بداية عمر الظاهرة، لكن استفحالها إلى ما وصلت إليه يتطلب حلولًا غير تقليدية، لكن يظل هناك تصور الحد الأدنى، من حيث إجراء الانتخابات في ظل بقائها، وهو ما يعني مشاركة كافة الأطراف في الانتخابات من جهة، وضرورة الاعتراف بالنتائج من جهة أخرى، من جانب المشاركين فيها، وهو الدور الذي يمكن أن تلعبه اللجنة العسكرية المشتركة (5+5) أكثر من أي طرف آخر.
في الأخير، يمكن القول إن الانتخابات الليبية في حد ذاتها ليست معضلة، حتى وإن كانت إشكالية، لكن يمكن تفاديها بتوافر النوايا السياسية، والتي تترجم في عملية التوافق ثم الالتزام بقواعد اللعبة في ضوء ما يتم التوافق عليه من استحقاقات، بل إن تلك الإرادة كفيلة بتجاوز العقبات المستدامة في المشهد الليبي. وبعبارة أخرى، يمكن القول إن الانتخابات الليبية يمكن الوصول إليها في حالة الانقسام السياسي، لكن لا يمكن الوصول إليها في حالة الانسداد السياسي. لكن يبقى الأهم من ذلك هو ما بعد الانتخابات، من حيث الاعتراف الذي سيشكل الاختبار الحقيقي ما بين انتقال ليبيا إلى مرحلة الاستقرار من عدمه، على أن يكون عنوان الاستقرار ليس مجرد استقرار السلطة، وهو أمر قابل للانتكاس حتى بعد انتخاب سلطة وتوليها مقاليد الأمور، ولكن استقرار الدولة الوطنية التي يتطلب استعادتها في المقام الأول، وقد يكون عنوان استقرار السلطة هو أحد المداخل لها والذي يليه مداخل أو ملفات لا تقل أهمية عنه.
.
رابط المصدر: