المستقبل سيرى فوائد أخرى لاستخدام مبادئ العصيان المدني كما وضعها ثورو ونقَّحها غاندي. وإن قوى الشعوب المظلومة في كل مكان، حتى في الدكتاتوريات الحديثة الوحشية، لَتستطيع بهذه الوسائل إرغام السلطات على الإحساس بها. نبذ ثورو الحكومة التسلطية والحكومة المطلقة في أية صورة من صورهما. كانت مذاهبه، على طول…
بقلم: روبرت ب. داونز
يرسم اسم دافيد هنري ثورو في المخيلة شخصًا دقيق الملاحظة في الطبيعة، محبًّا للعزلة وحياة الخلاء، ونموذج الحياة البسيطة، وشاعرًا متصوفًا، وأستاذًا لأسلوب النثر الإنجليزي.
كثيرًا ما يتذكر الناس ثورو كمؤلفٍ لبعضٍ من أشد التقارير تطرفًا في التاريخ الأمريكي، وكمحامٍ، كما يصفه أحد كاتبي تاريخ حياته، «أعظم المذاهب العلنية للمقاومة، سبق أن ظهر في هذه القارة.» وقد تمادى إلى أكثر مما قاله ثوماس جافرسون Jafferson «خير حكومة هي التي تحكم بأقل ما يمكن.» ولكن ثورو استنتج أن «خير حكومة هي التي لا تحكم إطلاقًا.»
كانت هذه الألفاظ مقدمة مقالة ثورو الشهيرة «العصيان المدني» التي ظهرت أولًا كمجلة دورية غامضة قصيرة الأجل، وهي مجلة إليزابيث بيبودي Elizbeth Peabody بعنوان: «صحف فلسفة الفنون»، في مايو سنة ١٨٤٩م، وكان اسمها الأصلي «المقاومة المدنية للحكومة» ثم غيَّر هذا العنوان إلى «عن واجب العصيان المدني»، ثم مجرد «العصيان المدني». وعندما نُشرت لأول مرة، لم تسترعِ كثيرًا من الانتباه، وقرأها قليلون. وفي أثناء المائة سنة التالية، قرأها ألوف، وأثَّرت في حياة ملايين البشر.
هل كان ثورو فوضويًّا فلسفيًّا في معتقداته؟ وبتحليل مقاله «العصيان المدني»، أساسه وماضيه، نحصل على إجابة لهذا السؤال المعقد.
أما عن ثورو نفسه، فلا شيء في بَدْء حياته يمكن أن ينتج متمردًا اجتماعيًّا. وُلد من أبوين أحدهما فرنسي والآخر اسكتلندي في بلدة كونكورد Concord بولاية ماساشوزتس Massachusetts في سنة ١٨١٧م شبَّ في بيئةٍ محافظة فقيرة وحسنة التربية … قضى أربع سنوات في هارفارد Harvard لم تتميز بشيء، ولو أنه كانت هناك لمحة عن مستقبل ذلك الشخص غير المنتمي إلى الكنيسة السائدة في أنه كان يرتدي معطفًا أخضر في الكنيسة «إذ كانت الأنظمة تتطلب معطفًا أسود». كان يقضي كثيرًا من الوقت في مكتبة الكلية. وتثار متعة ثورو في الكتابة بواسطة اثنين من خيرة الأساتذة: إدوارد ت. تشاننج Edward T. Channing وجون فيري John Very وإذ كان ثورو سعيدًا بعودته إلى حقول كونكورد الخضراء وغاباتها، لم يغادرها بعد ذلك إلا لزيارات قصار. فقام بعددٍ من الأعمال المختلفة. فبعد أن اشتغل مدةً قصيرةً يُعلم في مدرسة شعبية لم يسعد فيها بحال ما، قضى ثلاث سنوات شريكًا مع أخيه جون في إدارة مدرسةٍ خاصةٍ بهما. وتلا ذلك مدد متقطعة ساعد فيها أباه في عمل الأسرة لصناعة الأقلام الرصاص، وقام بعمل موظف عام في المجتمع، ومسَّاحًا في البلدة، وإلقاء المحاضرات من آنٍ إلى آخر، وحاول أن يصير مؤلفًا محترفًا.
عاش ثورو فترتين قصيرتين في بيت رالف والدو إميرسون Ralph Waldo Emerson حيث تعرَّف على أعضاء النادي الراقي، وأسهم بنشاطٍ في مناقشات هذه الجماعة الشهيرة من الكتَّاب والمفكرين في ولاية نيو إنجلاند New England وقد كان تأثير إميرسون قويًّا على نموه الذهني، ويشمل تزويده ببعض الآراء لكتابه «العصيان المدني».
لم يطمح ثورو، بحالٍ ما، إلى جمع ثروة أو القيام بأي عمل سوى ما يمده بأقل ضروريات الحياة. كان شغفه دائمًا الحصول على وقت فراغ للأمور ذات الأهمية الأساسية، كما يراها هو، وهي التجول في حقول كونكورد ودراسة الطبيعة على الطبيعة والتفكير والقراءة والكتابة، وعمل الأشياء التي يرغب في عملها. كان بوسعه الحصول على حاجاته البسيطة دون شغل نفسه في حياة الأعمال الشاقة، التي رأى جيرانه يقومون بها. فبدلًا من آية التوراة القائلة بالعمل ستة أيام والراحة يومًا واحدًا، آثر ثورو أن يعكس النسبة – مكرسًا اليوم السابع فقط للعمل. وبالاختصار كان يسير على عكس تعاليم آدم سميث والحكم التي ذكرها فرانكلين في كتابه «مسكين ريتشارد»، والمثل الأمريكية التقليدية التي تحث على العمل الشاق والثراء السريع.
ولتمثيل فكرة ثورو عن الحياة البسيطة الخالية من جميع السطحيات، قضى سنتين في والدين بوند Walden Pond بالقرب من كونكورد حيث بنى كوخًا وعاش يزرع الفول والبطاطس ويأكل أبسط الأطعمة (وأهمها الأرز ودقيق القمح والبطاطس والعسل الأسود). وعاش منفردًا بعيدًا عن المجتمع.
كانت فترة تفكير وتدوين أفكاره، فأنتج كتابًا من أعظم الكتب في الأدب الأمريكي بعنوان: «الغابة Walden» أو «الحياة في الغابات» (١٨٥٤م).
وبكل فخرٍ كان كتاب «الغابة» سجلًّا لحياة ثورو في عزلته الريفية، وزاخرًا بالأوصاف التذكارية للفصول والمناظر الطبيعية وحياة الحيوان حوله. ولكن «الغابة» كان أكثر من ملاحظات عالم طبيعي، مثلما كان كتاب إسحاق والتون Izaak Walton «صياد السمك الكامل» أكثر من كتيب عن صيد السمك. بل يعلق على السطحيات وحدود المجتمع والحكومة، فصار ذا أهمية عالمية. وبمرور الأعوام جذب النقد الاجتماعي كثيرًا من القراء، كما فعلت الأجزاء التي تتناول التاريخ الطبيعي. وبالطريقة الخاصة التي وضع بها كتاب «الغابة»، فهو وثيقةٌ متطرفة مثل الكتاب المنشور قبل ذلك «العصيان المدني» الذي يحمل له مشابهة كبيرة.
بينما كان ثورو يزور كونكورد في سنة ١٨٤٣م بعد إقامته في والدين بوند، قُبض عليه وسُجن لعدم دفعه ضريبة الرأس. وقد حذا، في رفضه دفع الضريبة هذا، حذو برونسون ألكوت Bronson Alcott، والد «السيدات الصغيرات»، الذي قُبض عليه قبل ذلك بسنتين لنفس التهمة. استعمل كلٌّ منهما هذه الوسائل احتجاجًا على مساندة الحكومة لتجارة الرقيق. سُجن ثورو لمدة ليلة واحدة فقط؛ إذ تدخَّلت عمته، رغم معارضته، فدفعت الضريبة.
لم يذكر ثورو قصة احتكاكه بالحكومة لرفضه سداد ضريبة الرأس، لم يذكرها في مقاله «العصيان المدني» إلا بعد مرور عدة سنوات. كتب ذلك المقال أصلًا في ١٨٤٨م كمحاضرة. وخرجت النسخة المطبوعة، من المطبعة، في العام التالي … كانت الحرب المكسيكية لسنة ١٨٤٦-١٨٤٧م قد انتهت منذ مدة قصيرة، وكانت تجارة الرقيق نتيجتها الملهبة. وكان قانون العبيد الهاربين، الذي أثار حنق ثورو بنوعٍ خاص، على وشك أن يصدر. أضِف إلى هذه الأمور معركة ضريبة الرأس، فكانت حافزًا أوحى إليه بكتابة «العصيان المدني».
كانت أية حرب بغيضة لمثل ثورو، فما بالك بالحرب المكسيكية التي مقتها أشد المقت؛ لأن هدفها الوحيد، حسب اعتقاده، هو مد تجارة الرقيق الزنوج، التي كان يمقتها، إلى مناطق جديدة. فتساءل ثورو: لماذا ندعم بالمال حكومة «مذنبة بمثل هذه المظالم والغباء؟» وهنا كان مولد مذهبه عن العصيان المدني. قرَّر ثورو، وهو السياسي بقلبه وقالبه، أن الوقت قد حان لاختبار طبيعة الدولة وحكومتها. ماذا يجب أن تكون عليه علاقةُ الفرد بالحكومة، وعلاقة الحكومة بالفرد؟ ومن اعتبارات هذه المسائل، برزَت فلسفة ثورو، بوفائه الشخصي ومركزه الإنساني في المجتمع.
كتب ثورو يقول: «ليست الحكومة في خير صورها إلا وسيلة. بيد أن معظم الحكومات ليس وسائل أحيانًا. والمعارضات التي أثيرت ضد الجيش القائم، وهي كثيرة وبالغة الأهمية، وتستحق أن تثار ضد الحكومة القائمة.»
أعلن ثورو أن الحكومة الأمريكية كانت حسنة نسبيًّا.
غير أن هذه الحكومة لم تنفذ أي مشروعٍ من تلقاء نفسها، ولكنها تبدي نشاطًا وسرعة حركة في إزالة ذلك المشروع من أمامها لم تحافظ على حرية الدولة، ولم تسو مسألة الغرب، ولم تنشر التعليم؛ فالأخلاق الكريمة التي فُطر عليها الشعب الأمريكي هي التي أنجزت كل ما تمَّ من مشروعات، وكان بوسعها أن تُنجز أكثر منه لو لم تتدخل الحكومة أحيانًا؛ لأن الحكومة وسيلة ينجح بها الناس في ترك كل واحد وشأنه. وكما قلت من قبل، عندما تكون الحكومة في أقصى كونها وسيلة، فإن المحكومين يُصبحون في أقصى حالات تركهم وشأنهم بواسطة تلك الحكومة.
بعد أن قدم ثورو قضية «ألا تكون هناك حكومة» مباشرة تقريبًا، أدرك أن الإنسان لم يصل بعدُ إلى درجة الكمال حيث يكون من المحتمل عدم وجود حكومة على الإطلاق، فبدأ يعدِّل رأيه، قائلًا:
ولكي أتكلم من الناحية العملية، وكمواطن، بعكس الذين يسمُّون أنفسهم رجال «عدم الحكومة»، فإني لا أطلب في الحال عدم وجود حكومة، بل أطلب في الحال حكومة أفضل. وعلى كل فردٍ أن يوضح نوع الحكومة التي تحظى باحترامه، وستكون هذه خطوة إلى الأمام نحو الحصول عليها.
أكَّد ثورو على حقوق الأقليات في الحكم، والمغالطة التي تطلب حكم الأغلبية، فقال: «تحكم الأغلبية، ليس لكونها عرضة لأن تكون على صواب، ولا لأن هذا يبدو أكثر إنصافًا للأقلية، ولكن لأنها الأقوى طبيعيًّا، ولكن الحكومة التي تحكم فيها الأغلبية، في جميع القضايا، لا يمكن أن يكون حكمها مبنيًّا على العدل، حتى ولو كان على حد مفهوم البشر.» فقد كان يعتقد اعتقادًا راسخًا أن المواطن لن يتخلَّى عن ضميره للمشرع … «يجب أن نكون رجالًا أولًا، ثم رعايا بعد ذلك. ليس من الضروري أن ننمي احترام القانون، كما ننمي احترام الحق.»
ازدرى ثورو السياسيين كطبقة، فقال: «يخدم معظم المشرعين والسياسيين والمحامين والوزراء وموظفي الحكومة، الدولة برءوسهم غالبًا. وبما أنهم قلَّما يبدون أي تمييز أخلاقي فإنهم يميلون إلى خدمة الشيطان كإله دون وعي منهم. ويخدم قلة قليلة، كالأبطال والمتحمسين للوطن والشهداء والمصلحين والرجال بمعنى الكلمة، الدولة بضمائرهم أيضًا؛ ولذا فمن الضروري أن يقاوموا الحكومة في أغلب الأحوال؛ ولهذا تُعاملهم الحكومة عمومًا كأعداء.»
بعد ذلك أخذ ثورو يهاجم الحكومة الأمريكية لعصره، قائلًا: «لا يمكنني الاعتراف لحظة واحدة بأن تلك المؤسسة السياسية هي حكومتي، التي هي حكومة العبيد أيضًا.» من واجب المواطن أن يُقاوم الشر في الحكومة إلى حد عصيان قوانينها علنًا وعمدًا.
إذا تعهدت أمة بأن تكون ملجأً للحرية، وكان سدس عدد سكانها عبيدًا … فأعتقد أن الوقت ملائم للأشراف من شعبها أن يتمردوا ويثوروا … يجب أن يكف هؤلاء الناس عن امتلاك العبيد وعن شن الحرب على المكسيك، حتى ولو كلَّفهم هذا وجودهم كبشر.
وكذلك رثى ثورو للمواطن الذي يظن أنه قد أدى واجبه كاملًا بمجرد الإدلاء بصوته.
كل تصويتٍ نوع من المقامرة، كالضامة والطاولة، مع إضافة مسحةٍ أخلاقيةٍ بسيطة إليها. إنه لعب بالحق والباطل، بالمسائل الأخلاقية والمراهنة التي تصحبها بطبيعة الحال. ليست أخلاق المصوتين في خطر … وحتى التصويت على الحق لا يعمل شيئًا من أجله. إنه إنما يُعبِّر للناس عن رغبتك في سيادة الحق … ليس هناك سوى قليلٍ من الفضل في أعمال جموع البشر.
ناقش ثورو الطريقة الصحيحة لعمل المواطن حيال القوانين غير العادلة. هل الأفضل: الانتظار حتى تعمل الغالبية على تغيير القوانين، أم رفض طاعتها على الفور؟ كان جواب ثورو القاطع هو: «إذا أرادت الحكومة منك أن تكون عاملها في إنزال الظلم بشخصٍ آخر، فعندئذٍ أقول لك: اكسر القانون … ما يجب عليَّ أن أفعله هو أن أرى أنني لا أعير نفسي، بأية حال، إلى الظلم الذي أمقته وأحاربه.»
قال ثورو: إنه من خصائص الحكومة أن تقاوم كل تغيرٍ وكل إصلاح، وتُسيء معاملة من ينتقدونها. وتساءل: «لماذا تصلب المسيح دائمًا، وتحرم كوبرنيكوس Copernicus ولوثر Luther وتصف واشنطن وفرانكلين بالتمرد؟»
أكد ثورو على أنه ينبغي لمن يقاومون تجارة الرقيق أن «يسحبوا دعمهم في الحال، الشخصي والمادي، من حكومة ماساشوزتس، وألَّا ينتظروا حتى يصيروا غالبية عظمى، قبل أن يروا سيادة الحق بواسطتهم. وأعتقد أنه يكفي أن يكون الله في جانبهم دون انتظارٍ لتلك الغالبية. وزيادة على ذلك، فكل رجلٍ أكثر إحقاقًا للحق من جيرانه، هو غالبيةٌ في حد ذاته».
وكشعار للعصيان المدني، الذي هو طريق مفتوح أمام كل مواطن، أشار ثورو بأن يرفض المواطن دفع الضرائب. فإذا عبر ألف شخص أو أقل عن امتعاضهم من الحكومة بتلك الطريقة، فلا بد أن يتبع الإصلاح ذلك، حسب رأي ثورو. وحتى إذا كانت مقاومة السلطات تعني العقاب، «ففي ظل الحكومة التي تسجن أي فرد ظلمًا، يكون المكان الصحيح للإنسان العادل هو السجن أيضًا … إذا خيرت الحكومة بين إيداع جميع العادلين في السجن وبين ترك الحرب وتجارة الرقيق، فإنها لن تتردد في الاختيار.» فإذا دفع المواطن الضرائب لحكومة غير عادلة، فإنه إنما يتجاوز عن المظالم التي تقوم بها تلك الحكومة.
ورغم هذا، رأى ثورو أن طبقة أصحاب الأملاك تُخاطر كثيرًا إذا تمرَّدت؛ لأن «الرجل الغني – دون عمل مقارنات تثير الغضب – يُباع دائمًا للمؤسسة التي جعلته غنيًّا. وبتعبيرٍ مركَّز، كلما زاد المال قلَّت الفضيلة؛ إذ يقف المال دائمًا بين الرجل وأهدافه، ويحقِّقها له.»
وإذ لم يكن ثورو غنيًّا، كان بوسعه أن يقاوم. «يكلفني عصيان الحكومة أقل، بجميع المعاني، مما تكلفني طاعتها. أحس بأنني أساوي أقل في هذه الحالة الأخيرة.»
كذلك كان ثورو واقعيًّا في رؤيته قيمة الاعتراضات الاقتصادية التي منعَت حكومة ماساشوزتس من القيام بعملٍ ضد تجارة الرقيق.
إذا تكلمنا من الناحية العملية، فإن المعارضين للإصلاح في ماساشوزتس، ليسوا مائة ألف سياسي في الجنوب، بل مائة ألف تاجر ومزارع هنا، يهتمون بالتجارة والزراعة أكثر من اهتمامهم بالإنسانية. وليسوا مستعدين للوقوف إلى جانب تحريم تجارة الرقيق ومعارضة الحرب مع المكسيك «مهما تكلَّف الأمر».
تمسك ثورو بمبادئه لمدة ستة أعوام، وقرر أنه لم يدفع أية ضريبة رأس. ولم تزحزحه مدة سجنه القصيرة عن اتهاماته للحكومة، بل جعلته لا يهتم بالسجن.
رأيت أن الحكومة نصف ذكية، وأنها جبانة كامرأة تُركت وحيدة مع ملاعقها الفضية، وأنها لا تعرف أصدقاءها من أعدائها، ففقدت كل ما تبقَّى عندي من احترام لها. وهكذا لن تواجه الحكومة قصدًا مشاعر الإنسان الذهنية ولا الأخلاقية، بل تواجه جسمه فقط وليس مشاعره. ليست الحكومة مسلحةً بذكاء سام ولا بأمانة، وإنما هي مسلحةٌ بقوة بدنية فائقة، لم أولد لأجبر، سأتنفس كما يطيب لي.
فرق ثورو بين الضرائب: «لم أتأخَّر أبدًا عن دفع ضريبة الطرق، ولا ضريبة المدارس؛ لأنني أرغب في أن أكون جارًا طيبًا، بقدر ما أنا رعية سيئ.» إنه يدعم تجارة الرقيق والحرب بدفع الضرائب العامة «أريد، ببساطة، أن أرفض التحالف مع الحكومة، وأن أنسحب وأقف بعيدًا عنها بطريقةٍ فعالة.» في هذه الأمور.
لم تكن هناك رغبةٌ من جانب ثورو للوقوف كشهيدٍ أو قديس، بل قال:
«لا أرغب في العراك مع أي رجلٍ أو أية أَمَة، ولا أريد أن أقومَ بالتمييز بين شخصٍ وآخر، أو أضع نفسي في موقفٍ أفضل من جيراني، بل أسعى إلى عذرٍ يجعلني أتمشَّى مع قوانين البلاد. إنني على أتم استعدادٍ للسير تبعًا لها. والحقيقة أنه لديَّ سبب للشك في نفسي فيما يختص بهذا الأمر. وفي كل عام، عندما يأتي وقت جباية الضريبة، أجد نفسي مستعدًّا لاستعراض القوانين وموقف الحكومة العامة وحكومة الولاية وروح الشعب لأكتشف حجة للتمشي مع القوانين.»
وزيادة على ذلك، اعترف ثورو أنه على الرغم من هبوط القوانين عن المستوى المثالي فإن «الدستور، مع كل أخطائه، جيد جدًّا، والقانون والمحاكم محترمة. وحتى حكومة هذه الولاية والحكومة الأمريكية رائعتان في كثيرٍ من النواحي، ونادرتان لدرجة أننا ندين بالشكر من أجلهما.»
ورغم انتقاده قاعدة الغالبية، فهو يؤمن، بعض الشيء، بحكم الشعب. وفي نظره، فالتشريع ينقصه القدرة على أن يعالج بنجاحٍ «الموضوعات المتواضعة نسبيًّا، للضرائب والمالية والتجارة والصناعة والزراعة. وإذا كان كل اتكالنا على عباراتِ المشرعين في الكونجرس، لكي تقودنا، دون أن تصححها التجارب الموسمية أو شكاوى الشعب المؤثرة، فلن تحتفظ أمريكا بمركزها بين الأمم لمدةٍ طويلة.»
ويختم ثورو مقالَه «العصيان المدني» بعبارةٍ من فكرته عن الحكومة الكاملة، وتأكيده الملحِّ على اعتقادِه بكرامة الفرد وقيمته.
ولكي تكون سلطات الحكومة عادلةً بالمعنى الحرفي … يجب أن تحصل على موافقة المحكومين وبركتهم. لا يمكن أن يكون لها حقٌّ مطلق على شخصي أو على ممتلكاتي إلا بقدر ما أوافق عليه. والتقدم من ملكية مطلقة إلى ملكية محددة، ومن الملكية المحددة إلى الديمقراطية تقدم نحو احترام حقيقي للفرد … وهل الديمقراطية كما نعرفها هي التحسن الأخير الممكن في الحكومة؟ أليس بالإمكان أن نخطو خطوة نحو الاعتراف بحقوق الإنسان وتنظيمها. لن تكون هناك ولاية حرة بحق، ومستنيرة بحق إلا إذا اعترف مجلس الشيوخ بالفرد كقوة عُليا مستقلة، يستمد منها كل قوته وسلطته، ويعامل ذلك الفرد على هذا الأساس. وإني لأمتع نفسي بأن أتخيل حكومة، في النهاية، يمكنها أن تكون عادلة إزاء جميع الناس، وتعامل الفرد بالاحترام على أنه جار لا يظن من الملائم لراحته أن يعيش القليلون بعيدًا عن الحكومة ولا يتدخلون في شئونها ولا تحتضنهم تلك الحكومة التي أدَّت واجبها نحو الجيران والزملاء؛ فالحكومة التي تنتج مثل هذا النوع من الثمار وتدعه يسقط بمجرد نضجه، ستمهد الطريق لحكومةٍ أكثر كمالًا ومجدًا، وقد تخيلت هذه أيضًا، ولكني لم أرَها في أي مكان.
وبالاختصار، كان خصام ثورو للحكومة في كتابه «العصيان المدني» هو أن الحكومة تعيش للأفراد ولا يعيش الأفراد لأجل الحكومة. يجب ألَّا تخضع الأقلية للأغلبية إذا وجب تصحيح المبادئ الأخلاقية لتفعل هذا. ثم إنه ليس للحكومة الحق في إهانة الحرية الأخلاقية بإجبار المواطن على دعم المظالم. يجب أن يكون ضمير المرء دائمًا هو روحه المرشدة العليا.
يمكن إهمال أثر «العصيان المدني» في عصر ثورو … لم يُشر إليه معاصروه من الكتَّاب في مؤلَّفاتهم. وإذ كانت الحرب الأهلية بعد ذلك بعشر سنوات أو أكثر قليلًا، فيمكن افتراض أن ذلك المقال قد مسَّ وترًا شعبيًّا حساسًا. ومن الجلي أنه دفن تحت التيار المكتسح لأدب أنصار الإلغاء، وظل غامضًا ومنسيًّا إلى القرن التالي.
والآن ينتقل المنظر إلى جنوب أفريقيا والهند. ففي سنة ١٩٠٧م وقعت نسخة من كتاب «العصيان المدني» في يدي محامٍ هندي في أفريقيا اسمه مهانداس كاراتشاند غاندي Mohandas Karamchand Gandhi كان غاندي يفكِّر من قبل في ميزات المقاومة الإيجابية كدفاع لشعبه. وهاك سردًا لهذا الحدث كما ذكره المهاتما بعد ذلك باثنتين وعشرين سنة لهنري صولت Henry Salt أحد كاتبي تاريخ حياته المبكرين:
كان أول لقاء لي مع مؤلَّف ثورو، على ما أظن، في سنة ١٩٠٧م، أو بعد ذلك، لما كنت في معمعان نزاع المقاومة الإيجابية. أرسل لي أحد أصدقائي نسخةً من مقالٍ عن «العصيان المدني»، فترك في نفسي أثرًا عميقًا. فترجمت جزءًا منه لقرَّاء صحيفة «الرأي الهندي في جنوب أفريقيا» التي كنت أحرِّرها وقتذاك، ونقلت بعض فقراتٍ منه للقسم الإنجليزي من تلك الصحيفة. يبدو أن ذلك المقال مقنع وصادق لدرجة أنني شعرت بالحاجة إلى معرفة المزيد عن ثورو. فعثرت على كتابك عن تاريخ حياته، وعلى كتابه «الغابة»، وبعض المقالات القصيرة الأخرى، وقرأتها جميعًا بمتعةٍ بالغة، وفائدة مماثلة.
وهناك قصة أخرى تختلف قليلًا عن هذه، رواها أحد الأصدقاء المقربين لغاندي في جنوب أفريقيا وهو هنري بولاك Henry Polak:
لا أستطيع الآن (١٩٣١م) أن أتذكَّر أنه في سنة ١٩٠٧م، هل كان غاندي هو الذي عثر على نسخةٍ من مقال ثورو (نشرته مكتبة سكوت Scott) أم أنا الذي عثرت عليها. ولكن كلًّا منَّا تأثر به غاية التأثُّر، لمطابقة معنى مبادئ المقاومة الإيجابية، والعصيان المدني … في مقال عن واجب العصيان المدني. وبعد التشاور مع المستر غاندي، كتبت المقال في أعمدة صحيفة «الرأي الهندي» وترجم إلى اللغة الجيجاراتية Gujarati التي كانت تلك الجريدة تظهر بها، كما تظهر باللغة الإنجليزية أيضًا. وبعد ذلك، نشر ذلك المقال في صورة كتيبات أو نشرات. وفي السنة نفسها، نظمت جريدة «الرأي الهندي» مسابقة في مقال عن الفلسفة الأخلاقية للمقاومة الإيجابية، مع إشارةٍ خاصة إلى مقال ثورو، الذي جذب انتباه المستر غاندي.
لما كان غاندي غير راضٍ عن المصطلح «المقاومة الإيجابية»، وفي الوقت نفسه لم يجد مصطلحًا بديلًا ملائمًا، وافق من فوره على استعارة «العصيان المدني» لوصف حركته. قرَّر أن هذا المصطلح تعبير عن مبدأ الصلابة في غير عنف، مع تمسك بالحقيقة والعدالة – وهذه سياسة دبلوماسية تنطبق تمامًا وفلسفة غاندي. فصار «العصيان المدني» في يدي المهاتما غاندي إنجيلًا لعدم المقاومة … صاغ غاندي لأتباعه الهندوكيين مصطلحًا معادلًا «ساتيجراها Satygraha» ويتكون من كلمتَيْن سانسكويتيتين ترجمتهما «قوة الروح» أو «القوة المولودة من الحقيقة والمحبة، أو عدم العنف».
يقول كريشنالال شريدهاراني Krishnalal Shridharani وهو أحد كتَّاب تاريخ حياة غاندي: «إن نضال ثورو ضد تجارة الرقيق في الولايات المتحدة، قد شبع غاندي بالإيمان بأن عدد المقاومة ليس هو ما يهم في «قوة الروح» وإنما الذي يهم هو نقاء روح التضحية.» وقرر غاندي:
الأوامر مستحيلة عندما تنحصر في عددٍ قليلٍ من الممتعضين، وهي متعبةٌ عند وجوب تنفيذها ضد الكثيرين من ذوي النفوس السامية، الذين لم يقترفوا إثمًا، والذين يرفضون دفع الضريبة دفاعًا عن مبدأ. وعندما يلجأ الأفراد العزَّل إلى هذه الطريقة للتعبير عن احتجاجهم، فقد لا يسترعون كثيرًا من الانتباه. بيد أن الأمثلة الظاهرة تنتهج طرقًا غريبة لمضاعفة أنفسها. إنها تتحمَّل الإعلان، وبدلًا من أن تعاني الكراهية، تحظى بالتهاني … حقق أناس، أمثال ثورو، إلغاء تجارة الرقيق بمُثُلهم الشخصية.
بهذه العبارات كان غاندي يردِّد ألفاظ ثورو عن قوة الأقلية الصغيرة ذات العزيمة الثابتة. وبذا، كما علَّق شريدهاراني: «لم يصنع ثورو سلاح العصيان المدني الذي هو قاعدة هامة في مقال غاندي «قوة الروح»، لم يصنع ثورو هذا فحسب، بل وأبرز قوة عدم التعاون التي كبرها غاندي بعد ذلك كوسيلةٍ لتحطيم حكومة فاسدة.»
بقي غاندي في جنوب أفريقيا طوال عام ١٩١٤م يقوم بمعركة مع قوات الحكومة التي يقودها الجنرال جان سمطس Jan Smuts، وقد تميزت تلك الحملة بالاضطهاد والعنف المتعدد الصور، والسجن وجميع الوسائل الأخرى المتوفرة لدى حكومة قوية لمحاولة قمع أقلية غير شهيرة … أفادَت طرق غاندي من عدم التعاون وعدم المقاومة والعصيان المدني أو «قوة الروح»، وفي النهاية وافق رئيس الوزراء سمطس وحكومته، على كل طلب هام للهنود، ومن ذلك إلغاء قانون بصمات الأصابع، وإلغاء ضريبة الثلاثة الجنيهات على الرأس، والتصديق على صحة زواج الهندوس والمسلمين، وإزالة القيود المفروضة على هجرة الهنود المتعلمين، والوعد بحماية الحقوق الشرعية للمواطنين الهنود.
وقرر أندروز Andrews، وهو كاتب آخر لتاريخ حياة غاندي، أنه يجب اعتبار حملة جنوب أفريقيا «ليس المثال الأول فحسب، بل والمثال الكلاسيكي لاستخدام عدم المقاومة بواسطة جموع الناس المنظَّمة لدفع المظالم.»
وتبعًا لما قاله شريدهاراني، كان تفسير غاندي للعصيان المدني هو أن:
بوسع أولئك الراغبين في طاعة القانون وحدهم … أن يكون لهم الحق في ممارسة العصيان المدني ضد القوانين غير العادلة. ويختلف هذا الأمر تمام الاختلاف عن مسلك طريدي القانون؛ لأنهم يمارسونه علنًا وبعد سابق إنذار مناسب … لم يكن من اللائق، إذن، تنمية عادة كسر القانون أو خلق جو من الفوضى. وإنما يلجئون إليه فقط عندما تخفق جميع الوسائل الأخرى كالشكاوى والمفاوضات والتحكيم، في دفع الظلم.
عاد غاندي إلى الهند في أوائل سنة ١٩١٥م، وبقي هناك حتى قُتل في سنة ١٩٤٨م، اغتاله مجرم هندوكي، وهو يقود القوات التي جلبت الحرية للهند وباكستان. وحدث شغبٌ ومذابح وأحكام بالسجن لمدد طويلة وكبت للحريات المدنية وقوانين ظالمة للنضال بها. وكثيرًا ما استخدم العصيان المدني إبان هذه السنين، وشحذه غاندي حتى جعله سلاحًا ذا أثر عجيب. كانت الخطوات الأولى اضطرابات ومظاهرات ومفاوضات، وإن أمكن تحكيمها. وإذا لم تأتِ هذه بنتائج، كانوا يلجئون إلى الطرق الاقتصادية كالإضراب والمقاطعة التجارية والاعتصام. ومن الطرق الأخرى عدم دفع الضرائب.
وفي أغسطس سنة ١٩٤٧م منحت بريطانيا الهند الهندوكية وباكستان الإسلامية حق تقرير المصير.
لا شك في أن المستقبل سيرى فوائد أخرى لاستخدام مبادئ العصيان المدني كما وضعها ثورو ونقَّحها غاندي. وإن قوى الشعوب المظلومة في كل مكان، حتى في الدكتاتوريات الحديثة الوحشية، لَتستطيع بهذه الوسائل إرغام السلطات على الإحساس بها. ومن الأمثلة السائرة نضال شعوب جنوب أفريقيا الملونة ضد حكومة ستريجدون Strijdon وهو تحديد لنضال غاندي.
قال غاندي: «فحتى أكثر الحكومات استبدادًا لا يمكن أن تقوم إلا بموافقة المحكومين، تلك الموافقة التي كثيرًا ما يحصل عليها المستبد باستخدام القوة. وعلى الفور تكف الرعية عن الخوف من القوة المستبدة. لقد ذهب ريح ذلك المستبد، وتعوضت القلوب من رعبها منه، الجرأة عليه.»
نبذ ثورو الحكومة التسلطية والحكومة المطلقة في أية صورة من صورهما. كانت مذاهبه، على طول الخط، ضد الشيوعية والاشتراكية، أو أي مذهب آخر يجعل الحكومة فوق حقوق الفرد. ويجب التنويه عن أن اتجاه الحكومة في منتصف القرن العشرين يدلُّ على أن أفكار ثورو تُقاتل في حرب خاسرة. ومع ذلك، ففي العالم عمومًا، نجد مسألة علاقة المواطن بحكومته – أي طبيعة ومدى طاعته لها – لم تكن عاجلةً أكثر من هذا.
كتب بارنجتون Parrington يقول: «إن فلسفة الفردية في القرن الثامن عشر، والإباحية القوية التي أطلقها جان جاك روسو Jean Jacques Rousseau وقد بلغَت ذروتها في ميوانجلاند عن طريق ثورو. كان التجسد الكامل لرد فعل مبدأ «حرية التعامل» على النظام الاجتماعي المدعم بالقوة العسكرية، وأقسى ناقد للاقتصاديات الدنيا، التي تحبط أحلام الحرية البشرية. وكان سعيد الحظ في عدم تكهُّنه بمقدار بعد ذلك المستقبل، مستقبل الأحرار الذي ثبت عليه آماله.».